مرتزقة سورية... أفغان يخوضون حرب الأسد

نشر في 22-05-2015 | 00:02
آخر تحديث 22-05-2015 | 00:02
بدأ الحاكم السوري المستبد بشار الأسد يعاني نقصاً في الجنود، وبات مضطراً إلى الاعتماد على المرتزقة في حربه المتواصلة ضد الثوار، ويأتي كثير من مقاتليه الأجانب من أفغانستان. هكذا اكتسبت الحرب في مدينة حلب في شمال سورية، كذلك في كل من حماة ودمشق وصولاً إلى درعا في الجنوب، وجهاً أفغانياً، أو أكثر دقة، وجهاً بمعالم آسيوية مميزة. يأتي عدد كبير من هؤلاء الأفغان إلى هذه الحرب من الهزارة، الأقلية الشيعية الفقيرة جداً في أفغانستان، رجال مثل مراد المعتقل في حلب راهناً كأسير حرب. التفاصيل عرضها كريستوف رويتر في «شبيغل».
لم تدم حربه إلا من فجر إلى التالي. عندما أشرقت الشمس للمرة التالية فوق مدينة حلب، كان مراد، مزارع من أفغانستان، لا يزال يرتجف في الطابق الثاني من المنزل الذي كان يُفترض أن يحميه حتى الموت. أو هذا على الأقل ما أمره ضابطه الإيراني بفعله. ولكن كيف وصل إلى هذه المدينة التي تمزقها الحرب والبعيدة عن قريته في جبال أفغانستان؟ يخبر أن كل ما أراده هو إذن بالإقامة الدائمة في إيران. ولكن في نهاية رحلته، وجد نفسه يحارب كمرتزقة في الحرب الأهلية السورية إلى جانب نظام الأسد.

في ذلك الصباح في حلب، ما كان مراد يعلم كم فرداً من وحدته ما زال على قيد الحياة، أو ما كان يعرف أين هو أو ضد مَن يحارب. فرغت الأمشاط الأربعة التي كان يحملها منذ ساعات. وعندما أدى انفجار عنيف إلى انهيار المنزل المتاوري فيه، راح يفكر في بناته. يقول: «رحت أصيح وظننت أنني أختنق. ومن ثم ساد الصمت».

أتى الرجال وسحبوا مراد، الذي كان لا يزال يصيح، من تحت الركام. حالفه الحظ، مع أنه لم يرَ الأمر كذلك في البداية. يذكر مراد: «ظننت أنهم سيقتلونني في الحال. لكنهم ضمدوا جراحي ونقلوني إلى مقرهم، حيث قابلت شخصاً يجيد الفارسية بعض الشيء. فأخبرني أن لا داعي للخوف».

حدث ذلك قبل سبعة أشهر. من ذلك الحين، يقبع مراد وأفغاني آخر في سجن مبتكر تابع للجبهة الشامية، إحدى تشكيلات الثوار الكبرى في حلب. يُحتجز الرجلان في قبو مضاء بلمبات النيون قرب مولد يملأ المكان ضجيجاً. وقد بدأت جدران القبو تتداعي نتيجة العدد الكبير من الانفجارات التي تهز المدينة. بالإضافة إلى الأفغان، يشمل السجناء الذين أسرتهم مجموعات الثوار الباكستانيين والإيرانيين، وكلهم يقاتلون على الجبهة.

 

نفاد الجنود

 

 

بدأت عائلة الأسد الحاكمة المستبدة تعاني نقصاً في عدد الجنود، وتزداد اعتماداً على المرتزقة. واجه الأسد منذ البداية خصماً لا يستطيع التغلب عليه مطلقاً: طبيعة سورية السكانية.

وللحؤول دون انهيار قوات الحكومة السورية، بدأت وحدات محترفة من الميليشيا الشيعية اللبنانية، حزب الله، بالقتال إلى جانب الأسد في عام 2012. انضم إليهم لاحقاً الإيرانيون، العراقيون، الباكستانيون، واليمنيون، أي الشيعة من مختلف المناطق الذين صار النظام أكثر اعتماداً عليهم. ولكن كلما طالت الحرب من دون تحقيق النصر، صعب على حلفاء الأسد تبرير  حصيلة الوفيات المرتفعة. في عام 2013 مثلاً، خسر حزب الله 130 مقاتلاً خلال سيطرته على القصير وخسر أعداداً أكبر في سعيه إلى الحفاظ عليها. وقد بدأ حزب الله يدون {حادث سير} كسبب وفاة على شهادة وفاة مقاتليه الذين سقطوا خلال الحرب في سورية.

عاد معظم العراقيين إلى أرض الوطن. وبدل أن يقاتلوا هم بأنفسهم، يديرون عموماً العمليات من الخلف. على سبيل المثال، تنظم المليشيا العراقية عصائب أهل الحق نشر المتطوعين الباكستانيين في سورية. ولكن ما من مجموعة إثنية ممثلة على كل جبهات النظام بقدر الهزارة الأفغان. من الصعب تحديد عددهم بدقة، غير أن نحو 700 منهم خسروا، على ما يُعتقد، حياتهم في حلب ودرعا وحدهما. والأسوأ من ذلك، لا يأتي معظمهم بملء إرادته.

يعيش نحو مليونين من الهزارة في إيران، معظمهم كمهاجرين غير شرعيين. لذلك يشكلون خزاناً لا ينضب من اليائسين استطاع حرس الثورة الإيرانية أن يجند منه الآلاف للحرب في سورية خلال الأشهر الـ18 الأخيرة.

كان مراد على الحامدي (45 سنة)، الذي يقبع اليوم في سجن في حلب، مزارعاً سابقاً في قرية شهرزاد خان أو {400 منزل} في شمال أفغانستان. كان يملك حقلاً صغيراً مساحته 50 متراً بنحو 50 متراً، ولكن من دون كهرباء أو ماء جارٍ أو مدارس. هرب إلى إير ان من دون مستندات سفر رسمية وعمل بطريقة غير شرعية في مقلع للحجارة، إلى أن ألقي القبض عليه في سبتمبر عام 2013. يقول مراد: {اتهموني ببيع المخدرات، إلا أن هذا لم يكن صحيحاً} وطوال 15 يوماً، جلد بأسلاك غليظة وضُرب، على حد قوله.

ويبدو أن ندوباً دائرية على ظهره تقدم الدليل الذي يؤكد قصته عن أنه حُرق بالسجائر. يخبر: {الناس في إيران متعصبون عرقياً. لا يريدوننا لأننا أفغان ليس إلا. لذلك لا تحصل إلا قلة قليلة منا على أوراق لجوء}. وكانت هذه الأوراق ستسمح له على الأرقل بإرسال أولاده إلى المدرسة وتلقي بعض الطعام.

 

بدء المداهمات فجأة

 

يدّعي مراد أنه حُكم عليه بالسجن مدة ست سنوات. وبعد أن أمضى السنة الأولى في سجن إيفن الشهير في طهران، تلقى زيارة غير متوقعة من زائر يرتدي زي حرس الثورة الأخضر. فسأله الرجل: {لمَ أنت هنا؟}. أجابه مراد: {مخدرات}. فقال له الزائر المفاجئ: {هل تود التخلص من سنوات السجن الخمس المتبقية من حكمك؟}.

لم يرفض مراد، ولكن كان عليه أن ينضم إلى الحرب في سورية طوال شهرين، حسبما أخبره الضابط، قائلاً له إنهم سيمنحونه مهاماً بسيطة ويكلفونه بالحراسة. عندما عاد الضابط مرة أخرى، وعده حتى بمنحه إذن إقامة دائمة. وافق أفغان آخرون في زنزانته على مقايضة ما تبقى من حكمهم بشهرين في الخدمة في سورية. ووُعد بأجر شهري يبلغ مليوني تومان، أي ما يعادل 700 دولار أميركي.

أخبر سيد أحمد حسين المحتجز مع مراد عن المبلغ عينه. أمضى حسين سنتين في العمل في مجال المباني، في منطقة سكنية بحت في شمال طهران. ويضيف: {بدأت المداهمات فجأة وكنت واحداً من 150 مهاجراً غير شرعيين أوقفوا. كنا جميعنا من الهزارة. أتى بعد ذلك أعضاء من حرس الثورة ووعدونا بالمال وبإقامات دائمة إن تطوعنا للقتال في سورية. لكنهم قالوا إنهم سيرسلوننا إلى سورية في شتى الأحوال. فوافق الجميع}.

من السجن أُرسلوا إلى قواعد عسكرية مختلفة قرب طهران لتدريبهم على استعمال بندقية الكلاشنكوف الرشاشة. يوضح مراد: {أخبرنا المدرب أننا سنقاتل إرهابيين في سورية}. ثم نقلوا وهم يرتدون ملابسهم المدنية بالحافلات إلى مطار الإمام الخميني في طهران لركوب طائرة مدنية متوجهة إلى دمشق. يروي مراد: {كانت على متن الطائرة عائلات. ما كان يُفترض أن يعرف أحد أننا جنوداً}.

رحب بهم ضابطان إيرانيان لحظة وصولهم إلى دمشق وقدما لهم الشاي. وسافروا بعد ذلك إلى اللاذقية، ومنها بالحافلة إلى قاعدة عسكرية في ضواحي حلب، حيث أقاموا مدة 10 دقائق. يشير مراد: {هناك ما عاد الإيرانيون ودودين. وينطبق الأمر عينه على الجنود السوريين الذين تولوا العناية بنا. وعندما كنا نخاطب أحدنا الآخر بالفارسية، كانوا يصيحون في وجهنا}.

ذات مساء، وُزعت الأسلحة والبزات الرسمية، ونُقل هؤلاء الرجال بالسيارات إلى نقطة تجمع لنحو 300 أفغاني. يخبر مراد: {سرنا طوال الليل، حتى الثالثة أو الرابعة صباحاً. ثم حددوا في الظلمة مجموعة من المباني المتعددة الطبقات وأمروا نحو 12 رجلاً منا باقتحامها والحفاظ عليها مهما كلف الثمن. وظلوا يرددون على مسمعنا أننا لا نستطيع أن نستسلم لأن الإرهابيين سيقطعون رؤوسنا} وراح مراد يردد {لا تستسلموا! لا تستسلموا!} كما لو أنها شعار.

 

عنيدون جداً

 

يخبر قائدان من الثوار شاركا أيضاً في المعارك إنما في الجانب الآخر أن الأفغان، أن المقاتلين كانوا أشبه بآلات. ويوضحان: {إنهم عنيدون جداً، يركضون أسرع منا، ويواصلون القتال حتى بعد محاصرتهم. ولكن عندما يفقدون الاتصال مع المقر الرئيس، يصابون بالهلع}.

يشير مراد: «كنا كلنا خائفين. سألت نفسي: ماذا أفعل هنا؟ فهذا ليس بلدي». وعندما سأله المترجم لمَ سمح لنفسه بالتورط في وضع مماثل منذ البداية، استشاط مراد غضباً للمرة الوحيدة خلال محادثتنا. «خمسون متراً بخمسين متراً من التراب الفقير! كيف يمكن أن يعيش خمسة أشخاص منها؟». ثم رفع يديه باستياء وواصل سرد قصته: «بدأنا الركض. ومن حسن حظنا أن المبنى كان فارغاً، فانتشرنا في الطوابق. تعرضنا لإطلاق نار، ولم نلحظ ذلك حتى. لم يكن أحد غيرنا في المنطقة. داخل المنزل، كان ثمة ضابط إيراني راح يصيح في وجهي، قائلاً: «عليك أن تقاتل وإلا قتلتك». فأطلقت كل ما أملكه من ذخيرة من دون أن أنظر حتى علامَ أطلق النار».

يتذكر أبو حسنين، أحد القائدين الثوريين اللذين شاركا في القتال في تلك الليلة: «ما كان منطقياً أن يواصلوا القتال. إلا أنهم لم يستسلموا. لذلك فجرنا المبنى بأكمله». وكان هذا الانفجار الذي دفن مراد وسيد تحت الركام، علماً أنهما الناجيين الوحيدين من المجموعة الأساسية.

أصبح الرجلان اليوم سجينين في مدينة تُعتبر أشد خطورة من أي سجن، وهما معرضان يومياً للتفجير إلى إرب ببرميل متفجر يلقيه الجيش الذي جاءا للقتال إلى جانبه. تُظهر القنابل حتى مدى يأس النظام، الذي مني بهزائم عسكرية كبيرة في الأسابيع الأخيرة. فكل صباح بين الثامنة والتاسعة صباحاً يحين موعد البراميل في شرق حلب. في تلك الفترة من النهار، تُدحرج البراميل المتفجرة، التي باتت تُصنع اليوم بأعداد كبيرة، من الطائرات المروحية العسكرية، فتتهاوى على الأرض، وتدمر كل ما تقع قربه على مسافة 24 متراً تقريباً.

نصحنا الرجل المسؤول عن السجينين الأفغانيين: {تعالوا بعد الساعة التاسعة}. ولكن قبيل توجه فريق {شبيغل} إلى سجن الثوار في حلب يوم الأحد الواقع فيه الثالث من مايو، سمعنا انفجاراً كبيراً في حي سيف الدولة المجاور. ونحن في طريقنا للقاء السجناء، رأينا الكثير من الناس وعلى وجوههم نظرات مريعة، وفي أعين بعضهم ترقرق الدمع. كانوا متوجهين إلى حي سيف الدولة. بدا هذا مفاجئاً في البداية. يسقط معظم البراميل المتفجرة على المناطق المحطمة والفارغة فحسب. وحتى لو وقع ضحايا، لا يركض الناس عادةً هنا في الشوارع. يأتي الموت بسرعة في حلب، وتتجلى المقاومة الصبورة للمئة ألف شخص الأخيرين المتبقين من سكان هذه المنطقة الذين ما زالوا يقيمون فيها، من خلال رفضهم الرحيل.

 

بين الأمل واليأس

 

 القنبلة التي أُسقطت قبيل التاسعة، أصابت مباشرة المدرسة الوحيدة في المنطقة، مبنى من أربعة طوابق تحول إلى فجوة مليئة بالحطام، وما تبقى من الطوابق يتدلى في الحفرة كما لو أنها سجادات ضخمة. كان الأحد يوم الامتحان، وهو اليوم الوحيد الذي يجتمع فيه الأولاد في المدرسة، وهو اليوم عينه الذي تُجرى فيه الامتحانات أيضاً في الجزء الغربي من المدينة الخاضع لسيطرة النظام. لذلك، كان الطيارون يدركون على الأرجح ما كانوا يفعلونه.

قُتل ما لا يقل عن ستة أولاد ومدرسة في الحال، وما كان الأطباء واثقين مما إذا كان عدد من الأولاد الآخرين سينجو. في وقت لاحق من بعد ظهر ذلك اليوم، توقف رجل يركب دراجة نارية قرب الحطام وسألهم عما إذا عثروا على ابنته. قال لهم إنه ذهب إلى مستشفى في المدينة وكل مشرحة، إلا أنه لم يعثر عليها. فقُوبل سؤاله بالصمت وهزّ الرؤوس نفياً. فخرجت من صدره تنهيدة تخطت كل أمل أو يأس وصاح {ابنتي!}، ثم واصل طريقه.

وكما لو أن مصير هذا الأب تقاطع مع مصير مراد الأفغاني، فقد صاح الأخير بالنبرة عينها تقريباً في وقت سابق: {بناتي!}. لم تصلهم أي أخبار عن والدهم منذ أكثر من سنتين. لا يملك مراد أي إخوة في القرية ووالداه توفيا. لم يبقَ له سوى حماته، وهي أيضاً فقيرة جداً. يقول: {مَن يعتني بعائلتي؟ هل تملك ما يكفي من الطعام واللباس؟ وهل نجحت في تخطي فصل الشتاء؟}.

يؤكد أن مصيره بين يدي الله. وباللجوء إلى أحد الأئمة ووسطاء الهلال الأحمر حاول الثوار من جبهة الشامية مبادلته هو وأفغان آخرين برجالهم في سجون النظام. لكن هذا لا يشكل مصدر أمل لمراد، بل يعتقد أنه سيواجه نوعاً مختلفاً من الرعب. يسأل: {ماذا أفعل إن أعادوني إلى الجيش السوري؟ سيرجعونني في الحال إلى إحدى فرقهم المقاتلة الانتحارية، كما حدث المرة السابقة. لا أريد أن أقوم بذلك مجدداً. أود العودة إلى أفغانستان}، إلى البؤس الذي حاول في الماضي الهرب منه.

حكومة غير مهتمة

 

في أفغانستان، لا تبدو الحكومة مهتمة خصوصاً في اختفاء آلاف مواطنيها في الحرب السورية. يقول شكيب مستغني، متحدث باسم الحكومة الأفغانية: {لا تملك وزارة الخارجية أي مستند رسمي عن أفغانيين يُرغمون على الذهاب إلى سورية من أفغانستان أو إيران. أما المستندات المتوافرة على شبكة الإنترنت، فلا تُعتبر مصدراً موثوقاً به. تتابع الحكومة في أفغانستان بجدية مسألة المقاتلين الأفغان في سورية وتحاول إنقاذ حياتهم}.

في الوقت الراهن، لا يبدو أننا سنشهد تبادلاً للسجناء، حسبما يوضح الشيخ عبد القادر فلاس، الذي يقود المفاوضات. ويضيف: {في السابق، نجحنا في المبادلة مع ضباط سوريين. كذلك يبدو النظام مستعداً على نحو خاص لإطلاق سراح السجناء مقابل إيرانيين أو مقاتلين من حزب الله. لكننا لا نحظى بأي اهتمام عندما يكون الأسرى أفغاناً. اتصلنا باللجنة الدولة للصليب الأحمر، إلا أننا لم نلقَ أيضاً أي تجاوب. أعتقد أن هذين الرجلين سيبقيان معنا حتى نهاية الحرب}.

تمكَّن قائدة الثوار، الذي يقود المفاوضات من حلب من أجل ستة أفغان آخرين، من الاتصال على الأقل بأحد أهم المسؤولين العسكريين السوريين عبر الهاتف: العقيد سهيل الحسن، الذي يلقبه أنصاره بنمر. لكن رد العقيد كان مقتضباً: {افعل ما تريد بهم. يمكنك قتلهم، فهم مجرد مرتزقة. يمكننا أن نرسل إليك الآلاف منهم}.

 

back to top