المفارقة الفارسية... إيران معاصرة أكثر بكثير مما نظن!

نشر في 30-04-2015 | 00:02
آخر تحديث 30-04-2015 | 00:02
No Image Caption
يحمل الناس في الغرب نظرة موحدة عن إيران. لكن يتمتع هذا البلد بمزايا أخرى عدا النظام الديني الذي يقوده الملالي وغالباً ما يتم تجاهلها. كذلك لا يزال الفخر الوطني قائماً ومترسخاً.
أي حكومة فيها وزراء يحملون شهادات دكتوراه من جامعات أميركية أكثر من أولئك الموجودين في إدارة باراك أوباما؟ الجواب الصحيح هو جمهورية إيران الإسلامية. ولا تشمل هذه اللائحة الرئيس حسن روحاني، فهو نال شهادة الدكتوراه من كلية الحقوق في جامعة غلاسكو. تقلّ البلدان التي تواجه هذا الكمّ من التحيز وسوء الفهم في الغرب بقدر إيران.
يعرف إريك فولاث هذا البلد منذ عهد الشاهات، كما يقول، وقد زاره أكثر من 12 مرة خلال العقود الأربعة الماضية، وكانت له فرصة زيارته حديثاً. كتب النص التالي في «شبيغل».
أتذكر أنني قصدتُ أحد مقاهي مدينة شيراز التي سُمّيت تيمناً بالشاعر العظيم حافظ الشيرازي الذي كان الأديب غوته معجباً به، فجلستُ بين الوسائد المريحة ودخّنتُ الشيشة ورحت أدوّن بعض الأفكار عن أداء الشاه الكارثي حين أساء الحكم على المزاج الشعبي وعن مدى وحشية جهاز {السافاك} السري الذي كان يديره. وأتذكر كيف رحبت حشود الناس بآية الله الخميني باعتباره المخلّص المنتظر حين عاد من المنفى في عام 1979 وكيف احتفلت تلك الحشود بالثورة الإسلامية. لكني لاحظتُ أيضاً بأي سرعة انهارت تلك الأوهام مع نشوء دكتاتورية جديدة وأكثر دموية لم تتردد في إطلاق معركة ضد {الشيطان الأكبر} (الولايات المتحدة) و{الشيطان الأصغر} (إسرائيل) باسم النظام الديني. كذلك راقبتُ كيف قُمعت حركة التمرد التي أطلقها أبناء الثورة في عام 2009 بكل وحشية. وأتذكر كيف أنكر الرئيس المتهور السابق أحمدي نجاد محرقة اليهود. ثم في عام 2013، شاهدتُ انتخاب الرئيس المعتدل روحاني، ما عزز احتمال التقارب مع الغرب.

مشاعر مؤيدة للغرب

تغيرت إيران اليوم بشكل جذري. في مدن أكثر ليبرالية مثل شيراز وأصفهان، فتح رجال الأعمال الشباب عدداً من المقاهي الصغيرة وأصبحت أغنية بوب ديلن (The Times They Are a-Changin) من الأغاني المفضلة هناك. يمسك الطلاب الشباب بأيدي بعضهم البعض في الأماكن العامة وتُرجِع النساء الحجاب الإلزامي بشكلٍ يبقي شعرهنّ ظاهراً (إنه سلوك ممنوع!). السياح مرحّب بهم في أنحاء البلد ويتم التعامل معهم بأقصى درجات الضيافة.

باستثناء إسرائيل، ما من بلد آخر في الشرق الأوسط يكنّ هذا الكم من المشاعر الإيجابية الواضحة تجاه الغرب بقدر إيران. يرتاد ملايين الشباب الجامعات. ورغم استمرار مظاهر التمييز ضد المرأة حتى الآن (تحرمها القوانين من حق الطلاق والوصاية على أولادها، كما تنصّ على البدء بملاحقتها قضائياً اعتباراً من عمر التاسعة بينما يرتفع هذا العمر إلى 15 عاماً بالنسبة إلى الفتيان)، هي تعيش وسط جو من الحرية هناك أكثر من بلدان كثيرة أخرى في المنطقة. بفضل أطباق الأقمار الاصطناعية غير الشرعية التي يسهل تركيبها في كل مكان، يستطيع الناس أيضاً مشاهدة البرامج الإخبارية الغربية.

على بُعد بضع مئات الكيلومترات غرباً، أنشأ الإسلاميون المتعصّبون دولة الخلافة في العراق وسورية. لكن في إيران، بدأ دور الدين يتراجع. يعتبر الناس الملالي فاسدين ويسخرون منهم. يخبرني أصدقاء لي بأن أتجنب الوقوف إلى جانب رجل دين يضع عمامة ويلبس رداءً عند انتظار سيارة أجرة لأن السائقين لن يتوقفوا بحسب قولهم. قد يكون بعض المساجد فارغاً لكن تبدو الكاتدرائيات ومراكز التسوق الجديدة في البلد مكتظة في المقابل. لم يعد التفكير الجماعي شائعاً اليوم بل أصبحت النزعة الفردية رائجة.

خيبة الأمل ليست ظاهرة جديدة طبعاً. في عام 2003، اعترف آية الله العظمى حسين علي منتظري (رفيق السلاح السابق للخميني وهو وُضع لاحقاً تحت الإقامة الجبرية باعتباره عضواً في المعارضة) بهذا الفشل صراحةً خلال اجتماع في مدينة قم. فقال: {خسرنا احترام العالم بسبب تجاوزاتنا وقد انهارت أحلامي الآن. يجب أن يحصر الزعيم الديني دوره في الواجبات التمثيلية، وهذا ما سيحصل فعلاً}.

لكن كان منتظري على خطأ. ما من نزعة واضحة في إيران تشير إلى التحرك نحو إنشاء نظام ملكي دستوري، فكيف بالحري ديمقراطية على طريقة وستمنستر؟ حتى هذا اليوم، لا يبدو نظام الحكم في إيران مهدداً بشكل جدي، في ظل تولي علي خامنئي أعلى منصب على الإطلاق باعتباره سلطة عليا أهم من الرئيس والبرلمان. غداة قمع الاحتجاجات منذ ست سنوات تقريباً، يقلّ عدد الأشخاص الذين يظنون حتى الآن أن السياسة يمكن تغييرها عبر التظاهرات. يستغلون هامش الحرية الضيق الذي يتمتعون به في الحدائق العامة والمعارض. لكن داخل منازلهم، هم يعيشون حياتهم الخاصة بطريقة مختلفة بالكامل.

أقرب إلى مدريد من هافانا

مشكلة زحمة السير مزمنة في المدن، وللوهلة الأولى على الأقل، لا يبدو أنّ الناس يعيشون في الحرمان. رغم العقوبات المفروضة على البلد، يبدو مستوى المعيشة وفرص التسوق أقرب إلى مدريد من هافانا. ثمة عدد لافت من مراكز التسوق الجديدة التي أصبحت قيد البناء راهناً وهي تحمل أسماء مثل {بالاديوم} أو {ميغا مول}، ويمكن رؤية سيارات {بورش} مركونة أمامها. لا تعاني الطبقة العليا بسبب الأعباء الاقتصادية على ما يبدو.

يحمل كثيرون في الغرب نظرة سلبية إلى إيران ولكنها لا تعكس الواقع. إيران بلد فيه مراكز سلطة متنوعة وهي تنظر إلى بعضها البعض بعين الشك. غالباً، لا تعلم الحكومة المنتخبة بما تفعله {الباسدران}، المنظمة شبه العسكرية النافذة. وقد أصبح الحرس الثوري الذي بناه مؤسس النظام الديني، الخميني، لحماية نفسه أكثر تسلحاً من الجيش وبات أشبه بدولة داخل الدولة.

يموّل الحرس الثوري أيضاً عدداً كبيراً من مراكز التسوق الجديدة وقد أصبحت قوته الاقتصادية تطرح مشكلة كبرى بالنسبة إلى الرئيس المعتدل وأداء الجيش في آن. يرمز الحرس الثوري إلى دولة إيرانية مختلفة تطرح تهديدات إضافية. هو يسيطر على الصادرات وعلى برنامج البلد النووي. من خلال استعمال ميليشيا {الباسيج} التي يديرها الحرس الثوري على شكل شرطة غير رسمية، هو يطارد المتظاهرين. كما أنه لا يتردد في ارتكاب الأعمال الإرهابية في الخارج على يد {قوة القدس} التابعة له. غالباً ما يتعامل الحرس بعدائية مع روحاني الذي يردّ عليه أحياناً. في الفترة الأخيرة مثلاً، هدد بجعل الناس يدلون بأصواتهم من خلال استفتاء، وهو نوع من الاستفزاز ضد الحرس الثوري ولكنه سلوك مهين أيضاً للزعيم الديني.

مقابل شبكة {الباسدران} النافذة، واجه الإيرانيون {العاديون} تداعيات التراجع الاقتصادي الذي شهده البلد. خلال عامَي 2012 و2013، انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة كبيرة، وتراجعت قيمة العملة الوطنية، الريال الإيراني، مقابل الدولار وارتفع معدل التضخم. على المدى الطويل، أصبح البلد الذي يتكل على صادرات النفط مهدَّداً بتخفيضات حادة على مستوى نظامه الاجتماعي. لتغطية حاجات الميزانية الحكومية، يجب أن يبلغ سعر برميل النفط الواحد 130 دولاراً، لكن في الأشهر الأخيرة لم يبلغ سعره نصف تلك القيمة.

استياء متزايد

على صعيد آخر، يشعر الإيرانيون بالسخط بسبب أحكام الاعدام المتعددة التي تصدر وهم يعانون بسبب الضوابط المفروضة على حرية الصحافة والثقافة. من المؤلم بالنسبة إليهم أن يحصد فيلم مثل {تاكسي} للمخرج الإيراني جعفر بناهي الجائزة الأولى في مهرجان برلين السينمائي الدولي مقابل منع عرضه في دور السينما المحلية. يشعر الناس بالاستياء من قادتهم السياسيين، ما جعل كثيرين متشائمين من الوضع. حتى الآن، امتنعوا عن الإدلاء بأسوأ انتقاداتهم للرئيس الذي انتخبوه لكن يجب أن يحقق الأخير النتائج قريباً ويحسن مستوى المعيشة.

في المقام الأول، يحتاج روحاني إلى عقد صفقة نووية نهائية. يتوق قطاع الصناعة الإيرانية إلى إنهاء العقوبات كي يتمكَّن من المضي قدماً، كذلك يتوق الشركاء الغربيون إلى دخول السوق الإيرانية. في حالات كثيرة، تم تعليق العقود الأولية الخاصة بالمشاريع المشتركة في قطاع صناعة السيارات، وحتى في مجال استكشاف حقول النفط والغاز الجديدة، وهي تنتظر التواقيع.

لكن ثمة أمر واحد يجمع الإيرانيين كلهم، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية: الفخر بثقافتهم والخوف من تعرّض البلد للإهانة. يتعلم الأولاد الإيرانيون في المدارس أن التاريخ الفارسي يوازي في الحد الأدنى تاريخ روما أو أثينا، وأنّ حضارة البلد كانت متفوقة بأشواط على حضارة الدول العربية المجاورة. أما الإسكندر الأكبر الذي يُعتبر فاتحاً أسطورياً في الغرب، فهو بنظر الإيرانيين مجرم لأنه دمّر الآثار الثقافية. في الوقت نفسه، يكرر الناس أن من الطبيعي أن يستقر فاتح العالم في بلاد فارس ويتزوج واحدة من نسائها الجميلات كما فعل. إنه نموذج مثالي عما يسميه الكاتب هومان مجد {عقدة التفوق}.

 تزامن هذا الشعور بالفوقية مع أعمق الشكوك هو جزء من المفارقة الفارسية. سمعتُ خلال زياراتي المتكررة إلى إيران الناس وهم يشتكون لأن الغرب لا يهتم بشيء من تاريخ إيران وثقافتها. وسط هذا التجاهل، يتذمرون لأن الناس يتعاملون مع إيران وكأنها دولة من الدرجة الثالثة. حتى إنهم لا يعطون البلد حقوقه بموجب القانون الدولي. نجحت الطبقة السياسية في طهران بالربط بين هذه القناعة العامة ومشكلة خاصة جداً: مسألة إيران كقوة نووية. لقد تصرف السياسيون طوال هذه الفترة وكأن معظم دول العالم يتآمر ضد إيران، وكأن الصراع يتعلق بـ«كرامة} إيران وليس الاشتباه المبرر بتوجه البلد إلى تصنيع قنبلة نووية.

يشدد جميع السياسيين الإيرانيين تقريباً (بما في ذلك اثنان من المرشحين الرئاسيين السابقين، مير حسين موسوي ومهدي كروبي اللذان لا يزالان تحت الإقامة الجبرية) على حق البلد بإجراء أبحاث علمية في مجال الطاقة النووية. بحسب رأيهم، يشمل ذلك أيضاً الحق بتخصيب اليورانيوم. يتقاسم معظم الشعب هذا الرأي. بحسب قولهم، وقّعت إيران، على عكس إسرائيل، على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. وغالباً ما يشير الشركاء الإيرانيون في المقابلات إلى أن الدولة اليهودية تملك أكثر من مئة سلاح نووي قابل للاستعمال في متناولها. لكن يحصر الخبراء الغربيون ذلك العدد بثمانين.

   {حضارة عظيمة}

سعى الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى استيعاب طهران وخصوصياتها. فاعترف بأن مشاركة وكالة الاستخبارات المركزية في الانقلاب ضد رئيس الوزراء الليبرالي محمد مصدق في عام 1953 كانت غلطة تاريخية. كذلك هنأ إيران بعيد نوروز واعتبر البلد {حضارة عظيمة} وكتب رسائل شخصية متعددة إلى القائد الأعلى خامنئي.

رغم جميع الاختلافات، يبدو وزير الخارجية الأميركي جون كيري مرتاحاً في التفاوض مع نظيره الإيراني المرن محمد جواد ظريف الذي درس القانون الدولي في دنفر أكثر من نظيره الإسرائيلي الصارم أفيغدور ليبرمان. ويبدو أن وزير الطاقة الأميركي إرنست مونيز، رئيس كلية الفيزياء السابق في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، يتفق جيداً مع علي أكبر صالحي، الرجل الثاني في الوفد الإيراني. لا عجب في ذلك أيضاً بما أن صالحي تخرّج من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.

إذا فشلت المفاوضات النووية في نهاية المطاف، ستعتبر طهران هذه النتيجة بمثابة إهانة لها. وستزيل في المرحلة اللاحقة جميع الضوابط وستبذل قصارى جهدها لتصنيع قنبلة نووية. وستستعمل الفخر الوطني كحجة لإجبار شعبها على الصمود في الأوقات الصعبة.

في مقابلة مع صحيفة {شبيغل} في عام 2012، قال صالحي، وزير الخارجية السابق الذي أصبح الآن رئيس البرنامج النووي الإيراني: {لأكثر من 30 سنة، تعايشنا مع إجراءات المقاطعة التي عززت في النهاية استقلاليتنا وقوتنا. اعتاد المجتمع الإيراني على التعايش مع المصاعب، أكثر من شعوب إسبانيا واليونان على الأرجح. لذا يمكن أن نتكل على صبر شعبنا. لكن ماذا عنكم أنتم في أوروبا؟}

back to top