دفن الكتاب! *

نشر في 29-04-2015
آخر تحديث 29-04-2015 | 00:01
 طالب الرفاعي كان صباحاً غائماً تتخلله زخات مطرٍ، وكنتُ في ساحة "كوفنت غاردن- Covent Garden, London" في لندن، لحظة استوقفني صوتٌ نبّه شيئاً غافياً بقلبي:

"يا طالب".

حين التفتُّ إلى الوراء، جاءت العين بالعين، فاستيقظ وصلٌ وأيام عمرٍ محفورة في الخاطر. عانقت صاحبي وأنا لا أصدق ما أرى! اختلفت سحنة الوجه، وداخل نظرة العين حزنٌ واضح، وذاب كرشٌ كان مثار هزل بيننا.

جلست وصاحبي في أقرب مقهى، اخترت مكاناً يطلُّ على الخارج الماطر ويلتم على رائحة القهوة. بدأ هو قائلاً:

"راح كل شيء".

تكلّم في أمور كثيرة، أخبرني أنه ترك سورية في بداية عام 2014، بعد أن تأكد أن الأمور تسير نحو الأسوأ، وتعثر حسّه بدمعه وهو يبثّني:

"لن تعود سورية".

هطل المطر في الخارج، وفي قلبي تكسرت عبراتي. ولأنه لمح كتاباً أحمله، قال:

"حين تأكدنا من قرب وصول فصيل إحدى الفئات الأصولية المتحاربة إلى منطقتنا، سرى الخبر بيننا: يُقتل كل من عنده مكتبة في بيته، حتى لو كانت كتباً دينية".

كان يحدّثني وكنتُ مأخوذاً بحزن عينيه. قال:

"تزامن وصول الأصوليين مع موت أبي. ولأنه طلب دفنه في حديقة منزلنا، فإن الفكرة لاحت لي بينما أنا وإخوتي نحفر قبره. دفنا أبي، وانصرف الأقرباء والجيران، وخرج إخوتي، فتعاونت وولدي، لحفر قبرٍ آخر. ومع بزوغ الصباح كانت أكياس كتبي في الفن والأدب والشعر والرواية والفلسفة والموسيقى، تقبع في ظلمة قبرها، تجاور أبي في موته".

تندت عيناه بدمعه، وكذا أرضية بلاط ساحة الكوفنت غاردن بدموع المطر.

"انتقلت بشق الأنفس أنا وأسرتي إلى لندن، وكان وصولنا إليها بمنزلة وصولنا إلى الأمنية. وها أنا كما تراني أعيش لاجئاً على إعانة الحكومة البريطانية".

سألني عن الكويت وعن الأصدقاء وعن الصحافة الكويتية وعن كتاباتي، وسألته عن أحباء وأصدقاء، كتّاب وفنانين ومثقفين.

- "الجحيم هناك".

شعرتُ أنه بلع جملة كادت تفلت منه. وبعد رشفة قهوة أخبرني:

"تشتت الجميع في أصقاع الأرض، وبقي قلة ينتظرون موتاً لا محال من قدومه بالطائرة أو السيف أو الغاز الخانق أو السكتة. في الأشهر الأخيرة ونحن نكتم عزمنا الخروج من سورية، لم يكن لي من صديق سوى الراديو. ابتعدت عن سماع أخبار حروب سورية العبثية وأخبار الحروب العربية المجنونة، ولأعاند الموت، لهوت مع الغناء وأي أخبار ثقافية أو فنية في العالم العربي والعالم، كنت أقاوم الموت بالاستماع إلى الحياة.

"هل كتبتَ شيئاً؟".

"لم أستطع كتابة حرف واحد. الآن أنا بصدد الكتابة، صارت سورية بعيدة وكأنها في عالم آخر، مما يمكنني من النظر إليها والكتابة. لا يمكنك أن تكون لاعباً ومتفرجاً في الآن نفسه. فما بالك أن تكون كاتباً وأنت تهلك من الجوع والموت؟!".

كان يسكت بين الفينة والأخرى، وكنتُ أخشى أن أحفر في تربة قلبه الساكنة، فأثير حزنه.

"قتلوا شاباً لأنهم داهموا منزله وكان يقرأ رواية أجنبية".

شعَّ جزعٌ في نظرته، وأكمل:

"خفت على أبنائي، القراءة جريمة تستحق القتل بنظر الوحوش!".

أمضيت نهاري معه. تسوقنا من محل بقالة عربي يعرفه، قبل أن أصاحبه إلى شقته الصغيرة كي أزور أسرته. اتصل بزوجته:

"أنا قادم ومعي ضيوف".

كان مساء حلواً، وجدت كلاً منهم يحمل حكاياه، ووسط فرحهم بي وفرحي بلقائهم مرّ الوقت. وحين استأذنتهم في الذهاب، سألني:

"ما الكتاب الذي تحمل؟".

ابتسمت له، وكما اعتدنا في الكويت، أجبته:

"هو لي والأصدقاء".

تركت الكتاب له، وتواعدنا على لقاء آخر.

* بمناسبة يوم الكتاب العالمي الذي يصادف 23 أبريل من كل عام.

back to top