السجينة... مليكة أوفقير

نشر في 28-04-2015
آخر تحديث 28-04-2015 | 00:01
 د. نجمة إدريس كثيراً ما ينتاب أحدنا الشعور بالحيرة إزاء قصص السير الذاتية، وخاصة تلك السير الصعبة والقاسية، ويظل يتساءل بينه وبين نفسه: هل هذا السرد حقيقة أم خيال؟ هذا السؤال ظل يطاردني طوال قراءتي لكتاب "السجينة" الذي يروي سيرة أسرة آل أو فقير بلسان الابنة الكبرى (مليكة)، التي أخذت على عاتقها تدوين محنة عائلة الجنرال المغربي محمد أو فقير الذي خطط للانقلاب العسكري على الملك الحسن الثاني عام ١٩٧٢م.

وحيث إن محاولة الانقلاب واغتيال الملك باءت بالفشل، فقد أخذ العقاب حجماً ومدى أكثر فداحة. إذ إن الأمر لم يتوقف عند إعدام الجنرال أو فقير رمياً بالرصاص، وإنما امتدت النقمة لعائلته بأكملها، المكونة من ستة أبناء وأمهم. كان الأبناء حينها ما بين الثامنة عشرة والثالثة من العمر، أما الأم فكانت شابة في السابعة والثلاثين.

ولمزيد من التأكد من هذه الوقائع الواردة في كتاب "السجينة"، وجدتُ نفسي أعود للبحث عبر الإنترنت عن هذا التاريخ، فوجدتُ ما يؤكد المعلومات ويوثقها بالصور والأخبار.

أدركتُ حينها أن السرد المثخن بالمحنة والمعاناة المتجاوزة لكل الحدود ليس نتاج مخيلة أو شطحات قلم، وإنما لون من أحداث الحياة النادرة المغموسة بما لا يُصدَّق من صنوف الكدح ومغالبة الموت اليومي، طوال ما ينوف على العشرين عاماً من السجن الانفرادي وبظروف معيشية دون خط الصفر.

لقد كان أمام الصغار أن يجتازوا طفولتهم وصباهم وعمرهم المضيّع وراء القضبان بالصبر حيناً، وبالحيلة حيناً للذي كان رغداً وهنيئاً، ثم استحال في لمح البصر إلى محنة قاصمة.

 يمكن لقارئ كتاب "السجينة" أن يدرجه ضمن أدب السجون، وخاصة أن الأسلوب الحكائي الذي كُتب به وغوصه الشجي في الألم الإنساني وتحليله للمكابدات النفسية يرفعه إلى مصاف هذا اللون من الكتابة المؤثرة.

 لقد كانت مليكة أو فقير تمتلك بحق نزعة القص وعصب الألم الذي يفجّر الحكاية ويثريها ويملأها بالوهج والصدق. فجاء الكتاب نتاج قريحتين: مليكة أوفقير الراوية وميشيل فيتوسي المدونة. تقول ميشيل عن مليكة في تقديمها للكتاب الذي ترجمته عن الفرنسية غادة الحسيني: "كنتُ أصغي إليها وأنا في حالة انبهار، فمليكة راوية من الطراز الأول، وتنتسب بلا أدنى شك إلى سلالة شهرزاد، بطريقتها في السرد شرقية بامتياز. تتكلم ببطء بصوت لا تتبدل نبرته، مستعينة أحياناً بحركة يديها الطويلتين لتدعيم قصتها. عيناها بالغتا التعبير وهي تنتقل من الأشجان إلى المرح، فهي في اللحظة عينها طفلة فمراهقة فامرأة ناضجة، تعيش مليكة جميع الأعمار معاً، لأنها في الحقيقة لم تعش أياً منها حقاً. لم يكن سرد اللحظات المأساوية سهلاً، فكيف إذا وصل الأمر إلى تدوينها. مراراً كانت قراءتها لكابوسها مدوناً فوق طاقتها بل وفوق أي طاقة بشرية. لقد خشيت مرات أن تتراجع عن رأيها أو تتغلب عليها مخاوفها وشياطينها، لكنها قاومت حتى النهاية..... أصغيتُ إليها، شجعتها ودفعتها للمضي قدماً في السرد حتى الإنهاك".

كان السرد حقاً منهكاً ليس للراوية فقط، وإنما أيضاً للقارئ. فهناك تلك التفاصيل المؤلمة المستفزّة الممزوجة بحسّ الزمن الثقيل الفارغ المنتهِك للكينونة الإنسانية، والذي في النهاية يحيلها إلى أنقاض وركام وأشلاء بشرية. إن مليكة وإخوتها الذين في النهاية ينهضون من الموت بعد ما ينوف على العشرين عاماً من الارتهان للحبس، لا يزالون يحملون بصمات التشويه ولاتزال الريح تصفر في أرواحهم، وما ذلك الكتاب سوى شهادة أو دليل إدانة أو وثيقة، قد تصنع فرقاً أو تظل مجرد كتابة فوق الماء.

بقي أن القارئ لا يسعه إلا أن يتعلم من مثل هذه التجارب الإنسانية الثرية، ولعل أعظم درس هو ما يمكن أن يُستلهم من قدرة أولئك السجناء على الرغم من الظروف القاسية وشبه المستحيلة، على النضال من أجل الخلاص.

فقصة الهروب الكبير التي خططوا لها ونفذوها عبر حفر نفق نحو الحرية، وبعد خمسة عشر عاماً من السجن، قصة تستحق التأمل في معانيها الملغزة المنطوية على التشبث بالحياة والأمل وتوهّج الإرادة رغم كل شيء!

كانت هذه الحركة النافرة ضد السكون والاستسلام واليأس حركة أشبه بإلقاء حجر كبير في بحيرة آسنة. ولولا هذا الهروب الذي انتهى بالقبض عليهم من جديد، لما أمكن أن تتغير الأحوال، وتعود قضيتهم إلى الصدارة مرة أخرى، ثم ما تمخض بعد ذلك من إجراءات كانت في مصلحة قضيتهم في نهاية المطاف.

 كتاب "السجينة" يستحق القراءة، وتجربة إنسانية نادرة تستحق التأمل.

back to top