خلف العتمة

نشر في 25-04-2015 | 00:01
آخر تحديث 25-04-2015 | 00:01
أحاول جاهداً أن أغمض عينيّ. أحاول أن أنام. ليس كل من أغمض عينيه بنائم. أرمي ثقل الأفكار على الوسادة. أتقلّب يميناً وشمالاً. الفراش يتفاعل مع حركات جسدي. الثواني تعادل الساعات.

عندما أطفئ نور غرفتي، اشعر أن وجهاً ضاحكاً سيخرج من خلف عتمة باب الغرفة وينظر إليّ. أعتقد أنه مهرّج، لا سيما وأنني لم أتعوّد صورة اللص الضاحك. في عقلي الباطني صور مهرّجين ليليين. تتغير معادلة النظر الضوئي. تنتقل إلى الخطة البديلة. خطة انعدام النور. دقائق وأستعيد بصري. في حالة الضوء يوجد بابٌ واحد للغرفة، وفي انعدامه تتكاثر الأبواب. يختفي الباب الأساسي. أصواتٌ وروائح تخرج من خلف العتمة. لا وجود للمهرّج ولا للضوء. ما يميّز الأبواب عن جدران الغرفة أنها أشد ظلمة. وهجٌ قويّ يخرج من تحت السرير. على يساري زوجتي، تنام والبسمة تزيّن وجهها. لماذا لم تستيقظ؟ وهي التي تدّعي أن نومها “خفيف”. الرائحة تشدّني. الأصوات تحملني من مكاني. لا أستطيع تمييز الأصوات. اسمع صوت ضحكة طفلٍ. صوت صراخ إمرأةٍ. صوت زغاريد. موسيقى.

لا شعورياً، أرفع ركبتيّ. يدٌ حريرية الملمس تحملهما؟. أنزل الأولى ثم ألحقها بالأخرى. مؤخّرتي على السرير. قدماي تطآن الأرض. تغيّرت حرارة الأرض نسبياً. أشعر بتجمّر في اليسرى وبجليدٍ في اليمنى. الطبيعة تتفاعل مع محيطها. تؤمّن لك عكس ما تطلب لكي تحافظ على التوازن، تماماً كدورة الحياة، الولادة مقابل الموت، حليب الأم البارد صيفاً والحار شتاءً. النبيذ البارد الذي يشعرك بالدفء. الشاي الساخن الذي يشعرك بالبرد. آيات تدور في فلك التوازن. عضلات رجليّ ترفع جسدي. أنتصب في مكاني. زوجتي لا تزال في مكانها. نائمة. ترتفع الأصوات. الضحكات. الصرخات. يشتدّ وقع الموسيقى. الظلمة تتلاشى من حولي. النور الذي يخرج من تحت السرير يزداد إشعاعاً، عيناي تتألّمان. فضولي أركعني على ركبتيّ. راحتاي على الأرض. اليمنى متجلّدة واليسرى متجمّرة. ركبتاي على الأرض. رؤوس أصابع قدميّ تلامس الأرض. أحنيت رأسي إلى ما دون مستوى صدري. ظلمة داكنة تحت السرير. لا وجود  للضوء. نظرت حولي. لا وجود للضوء. رفعت رأسي قليلاً. سقف الغرفة سرق الضوء من تحت السرير. سوّيت وقفتي. عاد الضوء إلى تحت السرير. صوت الموسيقى شدّني. صوت الضحكات شدّني أكثر. الصراخ يخترق أذنيّ كالرصاص. أحدهم يتألّم خلف الباب. ساعة الحائط سقطت منها العقارب. لفحة الماضي تلفّ الغرفة. خشب مكتبتي أصبح عتيقاً. عقلي يسألني: هل ما زلنا في الألفية نفسها؟ هدوء المكان يطغى. لا جواب. أتقدّم قليلاً نحو الباب المزروع أمامي. قبل أن أدخل رجلي اليسرى في عتمته. ارتفع صوت ضحك الأطفال تزامناً مع صوت انفجارات متقطّع. أخافني صوت التفجير. أعدت رجلي اليسرى إلى مكانها بعد أن غابت في عتمة الباب. مددت رأسي في العتمة، نظرت إلى الأبواب الأخرى. شعرت أنها أغلقت فجأة. حرّكت رجلي اليسرى مرّة أخرى وأدخلتها في العتمة. قبل أن تطأ الأرض نظرت إلى زوجتي. لم تتقلّب. لا تزال في مكانها. لقد مضت ساعات على هذه الهستيريا، ولكنها لا تزال نائمة.

دخلت في العتمة. في المجهول. حيث اللاشيء واللامكان والامنظور. تتقلّص بعض الحواس، في حين تتفاعل أخرى مع تغيّرات الطبيعة. لا تزال الحالة تسيّرني. لا أمشي. في مكاني. أتحرّك في اللامكان. من المفترض أن باب الغرفة يوصل إلى ردهة صغيرة. الأصوات لا تزال تلاعب حواسي. غريزتي تدفعني إلى أماكن متضاربة. صراخ المرأة يغويني، وهي التي تنتشي في صراخها. ضحكات الأطفال تشدّني، أريد أن أرى الضحكات على وجوههم. أريد أن أجمع ضحكاتهم. أن أملأ السماء ضحكاً. خرم ضوءٍ خُلق أمامي فجأة، بدأ صوت الضحكات يعلو بوتيرةٍ أسرع من شهقات المرأة ووجعها. أعتقد أن عقلي قد حسم الموضوع، سأجمع الضحكات.

أحدهم حرّك قدميّ إلى الأمام. نحو الخرم الذي بدأ يتّسع مع كل خطوة. لم يؤذني النور الذي هاجمني عبر الكوة. غشاءُ ما حمى عينيّ من الضوء، لم أزمّهما. لم أصعق ضوئياً. على باب الكوة وقفت. أستطيع أن أرى كل شيءٍ أمامي. على عكس وقوفي أمام باب العتمة. أخرجت رجلي مسرعاً. تغيّرت الحرارة بالرغم من أن السماء لم تكن مشمسة. هكذا أحسست أيضاً عندما دخلت العتمة. أحسست بالبرودة. هل للعتمة حرارة وللضوء حرارة؟

ضحكات الأولاد كانت صاخبة. يتقاذفون الكرة بشكل فوضوي. الغبار يملأ المكان. تنسحب الغيمة التي غطّت الشمس. ترتفع درجات الحرارة بعض الشيء. اسمع أصوات انفجارات. أنظر إلى الأطفال، يكملون لعبهم. لا يأبهون لهذه الأصوات التي تصرع أذنيّ. ارتسم ظل طائرة وسط الملعب. ثوانٍ وسقطت قذيفة خلف الأطفال. لم يتوقّفوا. لا يزالون يلعبون. صعقني المشهد. كيف للأطفال الذين يبكون بمجرد سماع صوت قوي أن لا يبكوا أو يخافوا من انفجار قذيفةٍ لحظة ارتطامها بالأرض؟ كيف لي أن أخاف من هذا الصوت وأشعر برعشة الموت وحبّ الحياة، وهم لا يعيرون هذا الانفجار انتباهاً؟ ماذا لو سقطت هذه القذيفة في ملعبهم؟ هل سيتقاذفونها أم سيموتون؟ أتراهم يلعبون بأعمارهم الملفوفة على شكل كرة؟

قاماتهم متشابهة، إلا أن أحدهم كان الأكثر ضخامة، يقف على حراسة المرمى. لا أدري لماذا هذا الانطباع عند الجميع. الممتلئ لا يصلح سوى لحراسة المرمى؟ ربما يعتقدون أن حجمه المربّع سيمنعه من الجري وأن من الممكن استغلاله في حجب أكبر مساحة من المرمى. أعادني منظر المرمى إلى أيام الشيطنة في الحي الذي سكنّاه آنذاك. كنا نضع الأحجار كعارضة لنحدّد منطقة الهدف، بينما كان ملعبنا يمتد على طول الرصيف الذي يعود تاريخه إلى أيام الانتداب الفرنسي. حاولت أن أركّز نظري في العارضتين، لم تكونا عبارة عن أحجار، يبدو لي من مكاني أنهما قطع حديدية مزروعة في الأرض. حاولت أن أمعن النظر وأركّز. سقطت قذيفة أخرى على بعد أمتارٍ من مثيلتها. شُتّت تركيزي. لا بد أن الطيار لا يريد قتل الأطفال، أنذرهم بخطورة الوجود. الرحمة موجودة في قلوب البشر، حتى لو كانوا طغاة. أعدت التركيز على الهدف، والأطفال لا يزالون يلعبون.

قذيفة. الأطفال استعانوا بقذيفتين لتحديد مجال هدفهم. ما هذا الجنون. قذيفتان فشلتا في الانفجار، فحاول الأولاد الاستفادة منهما. كيف للأطفال أن يتمرّدوا على أدوات الموت الموجّهة إلى رؤوسهم الصغيرة ويستعملوها لكي يمرحوا. أذكر أنني في إحدى المرات شاهدت طفلاً يضع في رقبته قلادة تتدلّى منها رصاصة. ما هذه العلاقة بين الإنسان والسلاح؟ الأطفال يتابعون لعبهم والقذائف تتابع انهمارها. مضى أكثر من ساعة على وقوفي هنا، ونصف ساعة على آخر قذيفة. لا بد أن الطيار قد سئم هذه اللعبة. استسلم لحب الأطفال للعب حتى بالأشياء القاتلة، كهاوس الكهرباء مثلاً. بدا التعب على أجسادهم. الرياضي بينهم بدأ يلهث، كنت أستطيع أن أسمع نبضات قلبه من مكاني. الحارس افترش الأرض، يقف متى أصبح اللاعبون على بعد خطواتٍ منه، ثم يجلس متى ابتعدوا. لا أدري لماذا لم أدنُ من الأطفال. لماذا لم أحذّرهم من القذائف، لماذا لم أقترب وأتلمّسهم. ربما هم مجرّد صور تتحرّك. فكيف لإنسانٍ حقيقي أن لا يتأثر بالقذائف. هل المدنيّون الذي يتعرّضون للقصف بشكل مستمر يتخدّرون ذهنياً بفعل كثرته، تماماً كشعور الجسد الذي يُجلد بالتخدير بفعل الضربات. ربما إرادة البقاء وحب الحياة هما اللذان لم يصدرا الأمر إلى عقلي لكي أتحرّك. بدأوا بجمع أمتعتهم. المكان من حولهم أشبه بالجحيم. المباني على الأرض. الأرصفة مقتلعة من مكانها. رائحة الموت في الجوّ. لا وجود للحياة في الأرجاء. غاب صوت الضحك. غاب صوت القذائف. لا أرى شيئاً. أشم الروائح وأميّز المشهد. تضاءل الضوء فجأة، دخلت في اللاوعي والعتمة، انطفأت الحواس الخمس.. رنّ الهاتف، انتفضت في مكاني. لم يمضِ على انطفاء الحواس إلا ثوانٍ، الساعة تشير إلى السابعة صباحاً، رنين الهاتف مصدره المنبّه الآلي. لقد بدأ يومي.

back to top