سوليتير

نشر في 25-04-2015 | 00:01
آخر تحديث 25-04-2015 | 00:01
إنني أدرك تمام الإدراك بينما ألج غرفة الاستراحة أن معظم الناس هنا – بمن فيهم أنا – شبه أموات. فهناك معلومة موثوقة مفادها أن اكتئاب ما بعد الكريسمس حالة طبيعية تصيب البشر، وأنه يفترض بنا أن نتوقع الشعور ببعض التبلد في مشاعرنا بعد انقضاء «أسعد» وقت في السنة. ولكن، لا يتملكني الآن أي شعور مختلف عن شعوري في ليلة الكريسمس أو في أي يوم آخر منذ بداية العطلة. فها قد عدت إلى المدرسة مجدداً بعد أن حلّت سنة جديدة لن يحدث فيها أي شيء.

وقفت في وسط الغرفة، ورحت أنظر إلى صديقتي بيكي التي بادلتني النظرات وقالت: «تبدين يا توري وكأنك تريدين قتل نفسك».

كانت صديقتي تجلس باسترخاء برفقة بقية أفراد مجموعتنا على مجموعة من الكراسي الدوارة بجانب طاولات الكمبيوتر في غرفة الاستراحة. وبما أن اليوم أول يوم في المدرسة بعد عودتنا من العطلة، لاحظت أن الفتيات بذلن جهوداً ملحوظة في العناية بشعرهن «ومكياجهن» لدرجة أنني سرعان ما شعرت أنني غير ملائمة لمحيطي.

ارتميت بترهل على أحد الكراسي وأنا أومئ برأسي برباطة جأش وأقول: «هذا مضحك؛ لأنه صحيح».

نظرت إليّ قليلاً بتمعّن، ولكن لم يبدُ عليها أنها تراني فعلاً، وضحكنا معاً على شيء ليس مضحكاً. وعندما أدركت بيكي أن مزاجي لا يسمح لي بفعل أي شيء، مضت مبتعدة عني. فاستندت إلى ذراعيّ واستسلمت للنعاس.

اسمي فيكتوريا سبرينغ. وأعتقد أنه ينبغي لكم أن تعرفوا أنني أختلق الكثير من القصص المحزنة في مخيلتي ثم أنغمس في الأحزان. وأنا أحب أن أمضي وقتي في النوم، وفي تصفح مدونتي على الإنترنت. وأظن أنني سأموت يوماً ما.

ريبيكا ألين هي ربما صديقتي الحقيقية الوحيدة في هذه الفترة. وهي على الأرجح صديقتي المقربة أيضاً. ومع ذلك، أنا لست واثقة مما إذا كانت هاتان الحقيقتان مرتبطتين ببعضهما أم لا. وفي كل الأحوال، بيكي ألين فتاة جميلة، وتتمتع بشعر أرجواني طويل. لطالما لاحظت أنه إن كان للمرء شعر أرجواني فإن الناس يلاحظونه وينظرون إليه. وإن كان يتمتع بالجمال والشعر الأرجواني في آن معاً، فإنهم غالباً ما يطيلون النظر إليه؛ مما يضفي عليه التميز والشعبية في مجتمع المراهقين، ويجعله من نوع الأشخاص الذين يدّعي الجميع معرفتهم مع أنهم على الأرجح لم يتكلموا معهم على الإطلاق. ونتيجة لذلك، بلغ عدد أصدقاء بيكي وصديقاتها على حسابها على موقع فيسبوك نحو 2098 صديقاً وصديقة.

أما الآن، فتتكلم بيكي مع فتاة أخرى من مجموعتنا، اسمها إيفيلين فولي. تعتبر إيفيلين نفسها فتاة كلاسيكية الطراز؛ لأن شعرها مشعث وتضع قلادة عليها مثلث.

كانت إيفيلين تقول: «ومع ذلك، فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا هل يسود التوتر بين هاري ومالفوي».

لست واثقة إن كانت بيكي تحب إيفيلين من قلبها فعلاً. ففي بعض الأحيان، أظن أن الناس يظهرون الإعجاب ببعضهم بعضاً ليس إلا.

فقالت بيكي: «هذا يحدث فقط في قصص المعجبين الخرافية. من فضلك يا إيفيلين، احتفظي بخيالاتك في مدونتك على الإنترنت».

ضحكت إيفيلين وقالت: «هذا ما أقصده. إن مالفوي يساعد هاري في النهاية، أليس كذلك؟ لذا، فهو رجل لطيف في أعماقه، صحيح؟ إذاً، لماذا كان يتنمر على هاري طيلة سبع سنوات؟ هذا فظيع! يا له من رجل غريب الأطوار!». وكانت تصفق بيديها مع كل كلمة تقولها، ولكن هذا لا يؤكد على صحة فكرتها. وتابعت كلامها قائلة: «إنها حقيقة مؤكدة أن الناس يغيظون الناس الذين يحبونهم، وهذه مسألة غير قابلة للنقاش».

فأجابتها بيكي: «في البداية يا إيفيلين، إنني أمقت كلام المعجبين الذي يقول إن دراكو مالفوي نوع من الأشخاص الذين يسعون وراء الخلاص والتفهم. وثانياً، الثنائي الوحيد الذي يستحق النقاش هو سنيلي».

«سنيلي؟».

«أقصد سنيب وليلي”.

بدا على إيفيلين أنها شعرت بإهانة عميقة فقالت: “لا أصدق أنك لا تؤيدين الثنائي دراري في حين أنك تتحدثين هكذا عن سنيب وليلي. أعني أن الثنائي دراري على الأقل يشكل إمكانية معقولة”. وهزت رأسها ببطء وهي تقول: “ومن الواضح أن ليلي آثرت شخصاً جذاباً ومدهشاً مثل جيمس بوتر”.

«لقد تصرف جيمس بوتر بغباء شديد ولا سيما مع ليلي، وهذا ما وضحته الكاتبة جي كي رولينغ. وإن لم تقعي في حب سنيب في نهاية السلسلة يا صديقتي فأنت إذاً لا تفهمين الفكرة العامة من قصص هاري بوتر”.

«لو أمكننا اعتبار سنيلي شيئاً مهماً، لما كان هناك هاري بوتر”.

«لولا هاري، لربما ارتكب فولدمورت مذبحة جماعية”.

التفتت بيكي نحوي وكذلك فعلت إيفيلين، فاتضح لي أنهما تحثانني على أن أدلو بدلوي في هذه المحادثة.

لذا، عدلت جلستي وقلت: “إنكما تقولان هذا لأن هاري هو المذنب في أن كل أولئك السحرة والأشرار لقوا حتفهم. ربما كان من الأفضل لو أنه لم يكن هناك هاري على الإطلاق، ولا الكتب أو الأفلام أو أي شيء من هذا القبيل، أليس كذلك؟”.

تولد لديّ انطباع بأنني أفسدت المحادثة برمتها، لذا طلبت الإذن للانصراف، ورفعت نفسي عن الكرسي، وأسرعت خارجة من باب غرفة الاستراحة. في بعض الأحيان أكره الناس؛ وهذا على الأرجح مضر جداً لصحتي العقلية.

*

هناك مدرستان للغات في بلدتنا: مدرسة هارفي غرين للفتيات التي تعرف بين الناس باسم مدرسة «هيغز»، ومدرسة تروهام للفتية. ومع ذلك، كلتا المدرستين تقبلان الذكور والإناث في السنتين الثانية عشرة والثالثة عشرة؛ وهما السنتان الأخيرتان في المدرسة الثانوية، وتعرفان في كل البلاد باسم «الصف الثانوي السادس». إذاً، أنا الآن في السنة الثانية عشرة، وبات من المحتم أن أواجه سيلاً مفاجئاً من الجنس الآخر. أما الصبية في مدرسة هيغز، فإنني أعتبرهم كائنات مشابهة للمخلوقات الخرافية. ورغم أن الحصول على صديق حميم يضعني على رأس قائمة الأسبقية في المجتمع، إلا أنه من الناحية الشخصية، فالتفكير والتحدث مطولاً عن العلاقات مع الفتيان يجعلانني أريد أن أطلق النار على نفسي.

وحتى لو كنت آبه لتلك الأشياء، فليس ذلك أمراً يمكننا التباهي به؛ والفضل في ذلك يعود إلى زينا المدرسي الموحد والمذهل. عادة، لا يجب على طلاب الصف الثانوي السادس أن يرتدوا ملابس موحدة. ومع ذلك، فطلاب مدرسة هيغز مجبرون على ارتداء زي بغيض رمادي اللون؛ وهو لون مناسب لمكان يتسم بهذا القدر من الكآبة.

عندما وصلت إلى حيث توجد خزانتي الخاصة، عثرت على ورقة عليها ملاحظة ملصقة على بابها، وعليها سهم يشير إلى اليسار ليحثني على النظر في ذلك الاتجاه. التفتّ وأنا منزعجة، ووجدت ملاحظة أخرى على خزانة مجاورة، ثم ملاحظة ثالثة على الجدار في نهاية الممر. كان الناس يمرون بجانبها وهم غافلون عن وجودها. ما الذي يسعني قوله؟! إن الناس عديمو الملاحظة؛ فهم لا يشكّون بمسائل من ذلك النوع، ولا يفكرون بظاهرة الشعور بالأشياء قبل رؤيتها على أرض الواقع. فهم على سبيل المثال يمرون بجانب المتشردين في الشوارع من دون حتى أن يلقوا نظرة خاطفة نحو حالتهم البائسة، ولا يخضعون شخصيات صانعي أفلام الرعب لأي تحليل نفسي؛ مع أنهم كلهم على الأرجح مرضى نفسيون.

نزعت الورقة الملصقة عن خزانتي، وتوجهت لأرى الملاحظة الأخرى.

في بعض الأحيان، أحب أن أملأ أيامي بأشياء صغيرة لا يأبه الناس بها؛ فهذا يشعرني أنني أفعل شيئاً مهماً لأن الآخرين لا يفعلونه.

وهذا أحد تلك الأيام.

فاجأتني كمية كبيرة من الملاحظات الملصقة في أنحاء المكان كافة. ومع ذلك، كانت جميع الفتيات يتجاهلنها، ويمضين في حياتهن، ويتحدثن عن الشبان والملابس والأشياء التافهة. كلهن طالبات في السنة التاسعة أو العاشرة يتبخترن في الأنحاء بتنانيرهن القصيرة وجواربهن التي تصل إلى الفخذ. ويبدو عليهن أنهن دائمات السعادة؛ مما يجعلني أضمر لهن بعض الكره. ولكن هذا ليس الشيء الوحيد الذي أكرهه على أية حال.

أظهرت الملاحظة ما قبل الأخيرة التي عثرت عليها سهماً يشير إلى الأعلى أو الأمام؛ لأنها ملصقة على باب غرفة الكمبيوتر المغلق في الطابق العلوي. وكان هناك قماش أسود يغطي نافذة الباب. إن هذه الغرفة بالذات مغلقة منذ العام الماضي بهدف تجديدها، ولكن يبدو أن لا أحد قد أزعج نفسه بالبدء بذلك. ولأتوخى الصراحة، أصابني هذا الأمر بالحزن بعض الشيء، ولكنني فتحت باب الغرفة على أية حال، ثم دخلت وأغلقت الباب خلفي.

كانت هناك نافذة طويلة تمتد على طول جدار الغرفة. أما شاشات الكمبيوتر فيها، فتبدو أشبه بمكعبات الإسمنت الصلبة؛ فشعرت أنني سافرت عبر الزمن، وعدت إلى تسعينيات القرن الماضي.

الآن، عثرت على الملاحظة الأخيرة ملصقة على الجدار الخلفي، وقرأت فيها عنوان موقع إلكتروني على الإنترنت وهو: SOLITAIRE.CO.UK.

ما لم يكن المرء يعيش في جحر تحت الأرض، أو يتلقى تعليماً منزلياً، أو مجرد مغفل، فلا بد أنه يعرف أن السوليتير إحدى ألعاب الورق التي يلعبها الإنسان بمفرده على الكمبيوتر. وهذه هي اللعبة التي اعتدت أن أمضي حصة علوم الكمبيوتر باللعب بها، والتي على الأرجح أفادت ذكائي أكثر بكثير مما لو أصغيت إلى الدرس بانتباه.

وفي هذه اللحظة، فتح أحدهم الباب.

«يا الله!  إن قدم أجهزة الكمبيوتر الموجودة هنا جناية لا تغتفر”.

فالتفتّ إلى الوراء ببطء، ورأيت فتى واقفاً أمام الباب المغلق.

قال الفتى وهو يجول ببصره في الأنحاء: “أكاد أسمع سمفونية الاتصال الهاتفي الرائعة”. وبعد بضع لحظات، لاحظ أخيراً أنه ليس في الغرفة بمفرده.

وجدته شاباً عادي الشكل. فهو ليس قبيحاً ولا وسيماً، ولكن الصفة الملحوظة لديه أكثر من غيرها هي نظارته الكبيرة ذات العدستين مربعتي الشكل والإطار السميك. كانت شبيهة بنظارات السينما ثلاثية الأبعاد؛ تلك التي يشتريها الأولاد في سنّ الثانية عشرة وينزعون عدستيها ويضعونها على وجوههم لأنهم يظنون أنها تضفي عليهم مظهراً لافتاً. يا الله، كم أمتعض عندما يضع الناس مثل تلك النظارات! كان الشاب يبدو طويل القامة، وشعره مفروق إلى أحد الجانبين، ويحمل بإحدى يديه فنجاناً وفي اليد الأخرى ورقة وجدوله المدرسي.

back to top