100 عام من الصمت... الأتراك في مواجهة الإبادة الأرمنية

نشر في 24-04-2015 | 00:02
آخر تحديث 24-04-2015 | 00:02
على الصعيد الرسمي، يُعتبر النقاش بشأن الإبادة الأرمنية من المحرمات في تركيا، حتى بعد مرور مئة سنة على تلك الجرائم. لكن بدأ البلد يجد صعوبة أكبر في قمع الحديث عن هذه المسألة، ويعيد عدد كبير من الأتراك اكتشاف هوياتهم الأرمنية المفقودة منذ زمن بعيد.
«شبيغل» زارت دياربكر في الأراضي التركية، التي كانت في الماضي البعيد، تحديداً إبان السلطنة العثمانية، تعج بالأرمن، لتخلو منهم بعد حين بفعل المجزرة الأرمنية المروّعة.
قصص إنسانية رائعة ومسيرة نضال شعب لا يملّ مطالبةً بالاعتراف، وهويات سرية تطفو فجأة الى العلن بعد سنوات من القمع والخوف من إعلان الانتماء، وعلاقات جديدة بين الأرمن والأكراد الذين يحاولون طي صفحة أليمة وبناء مستقبل أفضل.
يقول أرمين إن كنيسة مشابهة يمكن أن تساعد الناس، كي لا يفقدوا الأمل، وهو إنجاز مهم طبعاً.

مجرّد وجود الكنيسة هناك، بجمالها وصمودها في مكانٍ كان منذ فترة قصيرة موقعاً من الركام، يرسّخ الشجاعة بحسب قول أرمين. ولا شك في أن الشجاعة ميزة مطلوبة بشدة في هذه الأجزاء من البلد، تحديداً في ديار بكر.

تقع المدينة في جنوب شرق تركيا، في عمق منطقة الأناضول الجبلية. تبدو ديار بكر ضبابية وصاخبة وباهتة. لكنها تتسم بمَعْلَم مميز: إنها كنيسة القديس كيراكوس التي أعيد ترميمها بأسلوب أنيق وتقع في {البلدة القديمة}، وهي عبارة عن مجموعة متشابكة من المنازل المهدّمة والأزقة التي تعلو فيها صرخات الأولاد الذين يلعبون كرة القدم.

إنها كنيسة مسيحية أرمنية والأولى التي يُعاد بناؤها وتحمل رمزية بالغة الأهمية في مدينة مثل ديار بكر. يتحدث البناؤون عن حصول محاولات لمنع إعادة البناء، ويلمحون إلى ارتباطها ببعض السياسيين المتورطين في المشروع. لقد شعر البعض بالاستفزاز عند إعادة ترميم الكنيسة.

لكن بالنسبة إلى أشخاص آخرين، تُعتبر الكنيسة رمزاً للتحول السياسي الكبير الذي اجتاح المجتمع التركي، وترمز إلى رغبة ذلك المجتمع في مواجهة تاريخه. الكنيسة تساعد الناس أيضاً على تذكّر هويتهم الحقيقية وإعادة التأكيد عليها. أرمين هو أحد هؤلاء الناس.

في البداية، تدرب أرمين دمرجيان كي يصبح خبازاً ثم سائق شاحنة ثم موزعاً للصحف، لكنه أصبح الآن موظفاً للشؤون الإدارية في الرعية. في المرحلة الأولى من حياته، كان أرمين يحمل اسماً مختلفاً: عبد الرحيم زاراسالن. لكنه اكتشف في أحد الأيام أنّ أصله أرمني وأن بعض أفراد عائلته الناجين أُجبروا على اعتناق الإسلام. ثم بدأ أرمين حياة جديدة وقد استنزفت جزءاً كبيراً من طاقته.

مرّ أرمين بالقرب من صحن الكنيسة. يقول إن بناء الكنيسة كلّف نحو 2.14 مليون دولار. أعاد المهندسون ترميم شكلها الأصلي، مع الحد الأدنى من معالمها الأساسية. فشيّدوا سقفاً من الخشب مع طبقة لامعة عميقة ومخملية. بُنيت الأعمدة  والأرضيات والجدران باستعمال الحجر البركاني الداكن. تخترق أشعة الشمس الكنيسة عبر نوافذ عالية.

تتفتّح أزهار الزعفران والبنفسج في باحة الكنيسة وثمة مقهى يبيع أطباق الطعام وقمصاناً قطنية. يقصد المقهى عدد كبير من الناس ويتحدث فيه الضيوف بـ: الكردية والإنكليزية والتركية والأرمنية. في الخلف، كان رجلان يلعبان الشطرنج على طاولة. أشعل أرمين سيجارة. بدا المشهد العام هادئاً.

لكن يسود في الوقت نفسه توتر واضح يمكن الشعور به في أبسط المحادثات: إنه توتر شائع في كل مكان، بدءاً من القرى البعيدة وصولاً إلى مدن مثل ديار بكر واسطنبول.

وقائع

يشهد هذا الأسبوع الذكرى المئوية لقرار السلطنة العثمانية بطرد الأرمن. قُتل بين 800 ألف ومليون ونصف شخص بطريقة عنيفة بين عامي 1915 و1918. مرر البرلمان الأوروبي لتوه اقتراحاً يدعو فيه تركيا إلى الاعتراف بأن تلك الأعمال الوحشية كانت عبارة عن إبادة جماعية. إنه الوصف الرسمي الذي يستعمله 22 بلداً لتعريف تلك المذبحة.

يعتبر المؤرخون أن تلك الأحداث شكّلت أول إبادة جماعية في القرن العشرين. يشاركهم الرأي البابا فرنسيس الذي قال قبل أسبوعين: {إن إخفاء أو إنكار الأعمال الشريرة أشبه بترك الجرح ينزف من دون مداواته}.

تبقى التقديرات تقريبية بشأن عدد الأرمن واليهود واليونانيين واليزيديين الذين اعتنقوا الإسلام لتجنب الموت أو الاضطهاد في تلك الحقبة. الأمر المؤكد أن تاريخ أرمين دمرجيان المتشابك ليس مجرّد حالة معزولة.

بدأ ذلك التاريخ في نهاية القرن التاسع عشر، أي في زمن سقوط السلطنة العثمانية التي كانت حتى تلك الفترة عبارة عن مجتمع متعدد الانتماءات الإثنية والدينية. لكن لم يعد الشعب مستعداً لتقبّل نفوذ السلطنة فطالب بالاستقلال الوطني. كانت تلك الفكرة مثيرة للاهتمام لكن ثبت أنها مبادرة قاتلة أيضاً.

في تلك الفترة، كانت روسيا متأهبة على الحدود. اشتبه العثمانيون، بقيادة الجيش الألماني، بأن الأرمن كانوا يتعاونون مع الجيش الروسي. فردّ العثمانيون بطريقة وحشية وغير مسبوقة.

هكذا طُرد الأرمن من البلد. على الصعيد الرسمي. وُضعت هذه الحملة في إطار {الترحيل}، لكنها أرسلت الأرمن فعلياً في مسيرات موت نحو الصحراء حيث قضوا جوعاً أو تعرّضوا للهجوم والقتل.

يقول أرمين إنه يتذكر أنه استمع إلى جزء من هذه الأحداث طبعاً لكنه لم يفكر يوماً بأنه مرتبط بها شخصياً.

سرّ عائلي قاتم

تنحدر عائلته من مدينة ليجه الصغيرة التي تقع على بُعد 70 كلم من ديار بكر. نشأ أرمين هناك وتزوج من امرأة كردية اسمها ليلى حين كان في منتصف العشرينيات من عمره. فأنجبا أربعة أولاد. عمل أرمين كسائق لصالح إدارة المدينة وبدت حياته مستقرة. لكن توفي والده لاحقاً وكشف له عمه عن سرّ عائلي دفين: كانت عائلته من أصل أرمني.

ثم غيّر عبد الرحيم اسمه إلى أرمين وبدأ يبحث عن تاريخ عائلته. كان أحد أصدقائه يعمل في إدارة المدينة ويدين له بخدمة، فجلب له وثائق سرية. أمضى أرمين ليالي طويلة على طاولة المطبخ وهو يقرأ تلك الوثائق. فانكشفت له تدريجاً حياته القديمة، بمختلف أجزائها، وسرعان ما اكتسب هوية جديدة.

شعر شقيقه وزوجته ليلى بالقلق. لماذا يريد إحياء أشباح الماضي ويعيد فتح الجراح القديمة؟

يقول أرمين: {من حقي على ما أظن أن أعيش حقيقتي}.

يعرف أن جده وثلاثة من أبنائه قُتلوا وأن عائلة كردية أنقذت والده. يقول أرمين إنه وجد صعوبة كبرى في استيعاب تلك المعلومات. بحسب رأيه، ما كان لينجح لولا الكنيسة. لذا اعتنق المسيحية.

أصبح بناء الكنيسة ممكناً بفضل التمويل الذي وفّره رجال أعمال أرمن في اسطنبول وفي مدينة ديار بكر. عبدالله دميرباس أحد الرجال المحليين الذين قدموا المساعدة، عمره 49 عاماً وكان منذ فترة قصيرة عمدة وسط مدينة ديار بكر التاريخية. يقول دميرباس إنه قدم المساعدة مع أنه ليس أرمنياً: {أنا كردي أصيل وتعود جذوري إلى ثلاثة أجيال خلت}.

بذل تلك الجهود لهذا السبب، تحديداً، كما يقول. إنه السبب الذي دفعه إلى مساعدة المهندسين الأرمن على تنفيذ المشروع وتجاوز جميع الحواجز البيروقراطية، أيضاً، وقد وافق على تقديم هبات بقيمة 300 ألف يورو من المدينة. عند افتتاح الكنيسة، ألقى دميرباس خطاباً واعتذر شخصياً عن الإبادة الجماعية.

كان دميرباس يجلس على وسادة سميكة في الغرفة الخلفية من مقهى له أسلوب هندي حين سُئل عن السبب الذي جعله يقدم المساعدة. فحدّق بكوب القهوة التركية التي كان يشربها وقال: {كان الأكراد حينها ينفذون أوامر الطرد والقتل بكل حماسة. كان جدّي جزءاً من تلك الحملة وهو أحد مرتكبي الجرائم. أخبرتني والدتي قصصاً مريعة، لكنها تعكس واقعاً تاريخياً أيضاً. ثم حين تعرضنا نحن الأكراد للاضطهاد واعتُبرنا خارجين عن القانون، قالت والدتي إنه جزاؤنا أو أشبه بعقاب إلهي على ما فعلناه بالأرمن. هذا الكلام جعلني أفكر}.

يقول دميرباس إن الحكومة التركية تجد صعوبة في الاعتراف بماضيها المتعدد الثقافات. وفق عقيدة تأسيس تركيا، إنه وطن واحد بلغة واحدة. يوضح أن الرئيس رجب طيب أردوغان يشير إلى تلك العبارة بشكل متكرر، وبدرجة إضافية اليوم بعد فشله في إنشاء محور قوة إسلامي سنّي، كان يمكن أن يمتد من ليبيا إلى مصر وسورية، على أن تتولى فيه تركيا دور القيادة. بحسب رأي دميرباس، إنه السبب الذي جعل أردوغان يحصر نفسه الآن في شكلٍ من القومية التي لا تعترف بأن ما حصل للأرمن كان عبارة عن إبادة جماعية. لكنه يؤكد ضرورة استرجاع هذه الذكرى بطريقةٍ ما، سواء على شكل احتفال أو حدث مماثل، ويحاول اختلاق فكرة ملائمة في هذه المناسبة. يقول إن الاعتراف الضمني بالذنب حاضر دوماً ويسمم المجتمع من الداخل.

سأله الصحافي: {مثل العدوى؟}.

فأجابه: {بل مثل الشياطين!}.

من أجل المجتمع

في وقت كان فيه السياسي دميرباس يفكر بتنظيم حدث لإحياء تلك الذكرى وكان المسؤول الإداري في  الرعية أرمين يتعلم اللغة الأرمنية، كان صحافيان، رجل وامرأة، يعملان في مكتب مفتوح في اسطنبول، على بُعد 1020 كلم. يجلسان على مكتبين متجاورين ويحاربان قمع الاعتراف بالإبادة بطريقتهما الخاصة. يقولان إنهما يناضلان من أجل بلدهما ومن أجل نشوء مجتمع يريدان أن يفخرا به يوماً. قد تبدو تلك الكلمات لاذعة في سياق آخر، لكنها منطقية جداً في هذا السياق.

الشاب اسمه غوكان ديلر وهو تركي، والشابة اسمها مارال دينك وهي أرمنية. دينك عائلة شهيرة في اسطنبول، حتى أنها معروفة من الناس في أنحاء أوروبا. كان عمّ مارال، هرانت دينك، احد أفضل الصحافيين والكتّاب المعروفين في تركيا قبل اغتياله.

يعمل الاثنان في صحيفة {أغوس} الأسبوعية التي شارك عمّ مارال في تأسيسها. تُطبَع باللغتين التركية والأرمنية وتوزع 5 آلاف نسخة. صحيح أن {أغوس} إحدى أصغر الصحف في تركيا، لكنها من أكثرها شجاعة.

ديلر ودينك من أصغر النجوم في فريق التحرير. غالباً ما يتعاونان لتغطية قصص تتناول مواضيع مثل الإرهاب وحقوق المرأة والثقافات الفرعية. لكن يبقى تاريخ الإبادة الأرمنية الموضوع الذي يشغل بالهما.

كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة صباحاً لتوها حين وصل غوكان إلى مكاتب صحيفة {أغوس}. يعيش هذا الصحافي الشاب في شرق اسطنبول حيث إيجارات الشقق أقل كلفة. خلال تنقلاته على الطرقات، يضطر إلى ركوب عبّارة طوال 22 دقيقة وعبور {القرن الذهبي}، ويستغل هذا الوقت لقراءة صحيفتين والتحقق من رسائله الإلكترونية.

حين سُئل عن شعور الشخص التركي حين يعمل مع الأرمن، أجاب: {يجب أن أعترف بأنني شعرتُ بالتوتر في اليوم الأول. هل سيكرهني الأرمن؟ هل سأسمع كلمات قاسية؟ لكن لم يحصل ذلك. نحن نعمل بشكل موضوعي جداً. لدينا الأهداف نفسها وبدأتُ أنسى في هذه الأيام أن الشخص الذي أتعامل معه أرمني أو كردي أو تركي}.

زيادة التفاؤل

مارال امرأة جذابة ولها عينان واسعتان. تصل إلى المكتب بعد غوكان بقليل، فتطلّ بإشراقتها الدائمة وتعلّق وشاحها على ظهر كرسيّها وتتجه إلى مطبخ القهوة حيث تعانق زميلاً لها. في تلك اللحظة، يرفع غوكان نظره عن ملاحظاته.

تقول مارال إنها تشعر بالتفاؤل بشأن التغيرات المرتقبة في المجتمع التركي. بحسب رأيها، يدرك عدد كبير من الأتراك الآن أن بلدهم يحتاج إلى التصالح مع ماضيه.

يقول غوكان: {مارال محقة. قمع هذه الحقيقة استنزف طاقة هائلة}.

بدأ التغير الاجتماعي الذي تتحدث عنه مارال وغوكان بعد فوز رجب طيب أردوغان و}حزب العدالة والتنمية} في الانتخابات عام 2002، مع أن هذا الأمر قد يبدو غريباً نظراً إلى المعطيات الراهنة. منذ ذلك الحين، أصبح الحزب أكثر تحفظاً وتديّناً. لكن خلال أولى سنواته في الحكم، طبّق {حزب العدالة والتنمية} الإصلاحات وقام بتحديث البلد والترويج لمناخ أكثر ليبرالية. في عام 2005، عُقد مؤتمر للمؤرخين في اسطنبول وركز على مسألة الإبادة الجماعية رغم الاحتجاجات الغاضبة التي أطلقها القوميون. للمرة الأولى في تاريخ تركيا، سُمح للباحثين النقاد بالتعبير عن شكوكهم علناً بشأن موقف الحكومة الرسمي الذي ينكر حصول الإبادة.

خلال السنة نفسها، أكد الروائي أورهان باموك، الذي فاز لاحقاً بجائزة نوبل في الآداب، أن {30 ألف كردي ومليون أرمني قُتلوا في هذه الأراضي، ولا أحد غيري يجرؤ على التحدث عن هذا الموضوع}.

انطلقت الاحتجاجات واتُّهم باموك بإهانة بلده. لكن ما كان يمكن قمع هذه المسألة بعد الآن: لقد خرج الجني من القمقم وبدأ الأتراك يناقشون الموضوع!

أدت حملات الطرد والإبادة إلى ترحيل الأرمن إلى أماكن بعيدة مثل موسكو ولوس أنجلس وباريس وبيروت. اليوم، تضمّ اسطنبول نحو 65 ألف أرمني. بما أن الأرمن الذين بقوا في البلد اضطروا للمضي قدماً وسط بيئة عدائية، واجهوا ظروفاً أصعب من أولئك الذين رحلوا.

هذا ما يزيد أهمية خرق المواضيع المحظورة والبدء بمناقشة مسألة الإبادة اليوم. لا يتضح هذا التغيير بالنسبة إلى اسطنبول أو الكنيسة الأرمنية في ديار بكر فحسب، بل بالنسبة إلى القرى البعيدة في الأناضول أيضاً. مثل أرمين، مسؤول الشؤون الإدارية في الرعية، بدأ أرمن آخرون يكتشفون هوياتهم الحقيقية ويعيدون النظر بحياتهم.

لكنّ عملية الاستكشاف هذه ليست سهلة كما تثبت قصة آسيا ألتاي.

هرانت دينك وإرثه

منذ ثماني سنوات، في فترة بعد الظهر من يوم 19 يناير 2007، قُتل دينك على يد شاب عمره 16 عاماً بعدما أطلق النار عليه في الرأس والعنق. ارتبط الرجال المسؤولون عن الاغتيال بأوساط {الدولة العميقة}، وهي شبكة سرية لطالما أثرت على السياسة في تركيا، وربما لا يزال تأثيرها مستمراً حتى اليوم. قُتل دينك في الشارع عن عمر 52 عاماً.

في تلك الفترة، كان يسهل أن نفترض أن موته سيؤدي إلى انهيار صحيفة {أغوس} وكل ما كان دينك يمثله. لكن لم يحصل ذلك.

جذبت جريمة القتل الانتباه إلى صحيفة {أغوس} وأنتجت تعاطفاً واسعاً ما كانت لتحققه الصحيفة يوماً. في ليلة جريمة القتل، اجتمع الآلاف في وسط مدينة اسطنبول ثم تحولت جنازته إلى حدث رمزي سياسياً.

شكّل مقتل هرانت دينك نقطة تحول كبرى في حياة غوكان ديلر ومارال دينك.

كان غوكان يوشك على نيل شهادة دكتوراه في الاقتصاد. لقد أراد أن يصبح أستاذاً في أحد الأيام وأن {يعيش حياة هادئة في برج عاجي جميل}. وكانت مارال قد قُبلت للتو لدراسة الرياضيات في إحدى جامعات لندن. لكن شكّلت جريمة القتل صدمة قوية لعائلتها ولا تزال الصدمة مستمرة   حتى اليوم. تلقى أفراد عائلة دينك تهديدات كثيرة بالقتل.

قرر كل واحد منهما، بشكل مستقل عن الآخر، التخلي عن خططه وتقديم طلب للعمل في صحيفة {أغوس}. هما يعملان الآن مقابل راتب زهيد مقارنةً بما يمكن جنيه في مكان آخر. لكن لا أهمية لذلك.

سر قديم يلازم الحياة كلها

تقع بلدة جونكوش على بُعد ساعة ونصف بالسيارة من ديار بكر. تبدو المناظر الطبيعية وعرة وجبلية وتمتلئ الفجوات في التلال بشجر اللوز والفستق. تطفو المنازل على طرف التلال في جونكوش وهي مطليّة بالأصفر والأخضر ولون الخردل.

يقع منزل آسيا ألتاي على طرف البلدة. تجلس هناك على كرسي خشبي صغير. هي امرأة قصيرة وكبيرة في السن لكنّ يديها ثقيلتان وقويتان ومعتادتان على العمل الشاق. جلس حفيدها الذي يبلغ 5 أو 6 سنوات بالقرب منها. تبلغ ألتاي نحو 98 عاماً مع أنها ليست متأكدة من عمرها المحدد.

حين توقفت سيارة أمام منزلها وخرج منها أشخاص مجهولون وبدأوا يتجهون نحوها، وقفت فوراً. ثم وضعت يديها على جبين الصبي الذي كان يقف أمامها وكأنها تحميه. حاول زوج ابنتها ريكاي تهدئتها. لكنها أصرت على عدم التحدث عن ماضيها. فأكد لها زوج ابنتها أنه أمر ضروري.

وُلدت ألتاي في زمن القتل. تعرف أن اسم والدتها كان صفية، وهو اسم أرمني مسيحي مرادف لصوفي. كانت صفية جزءاً من مسيرة الموت مع والديها في الصحراء السورية حين شاهدها عنصر من عصابة كردية عندما كان عمرها 12 سنة، فوقع في غرامها أو أراد اغتصابها. في مطلق الأحوال، أنقذ ذلك الرجل حياة صفية من خلال انتزاعها من والديها.

هذا الرجل كان والد آسيا على الأرجح لكن يبدو أنه مات بعد فترة قصيرة من ولادتها. لم تعرفه آسيا يوماً. نشأت في جونكوش وقد عجزت والدتها عن الوثوق بنساء أخريات في البلدة، لذا جعلت ابنتها أول صديقة تأتمنها على أسرارها. كما أنها جعلت ابنتها تعدها بعدم الكشف عن سر جذورها المريع.

لا تزال ألتاي تشعر بأنها ملزمة بذلك الوعد حتى اليوم. تضطر ابنتها وزوجها إلى سحب الكلام منها بالقوة. كما أن والدتها تلقت على الأرجح تحذيرات تمنعها من التكلم  حول ما حدث.

يقول زوج ابنتها ريكاي: {لكن لم يعد ذلك التحذير ساري المفعول اليوم!}.

تضيف ابنتها عايشة: {لا بأس بالتحدث عن الموضوع}.

{اختفى الأرمن بكل بساطة!}

تقول ألتاي : {عاش هناك عدد كبير من الأرمن. وكانت البلدة تشمل كنيسة وديراً. لا يزال الركام موجوداً حتى الآن. ثم اختفى الأرمن بكل بساطة في أحد الأيام، بلمح البصر!}.

حين انتهت المقابلة، اقترح ريكاي العودة عبر الطريق الموازية لنهر دودان، على بُعد 15 دقيقة.

يقول إن كثيرين قُتلوا هناك ثم رُميت جثثهم وقُذفت في المضيق. بحسب قوله، كان كبار السن في البلدات المجاورة يعرفون ما كان يحصل، حتى أنهم كانوا يتكلمون عن الموضوع في ما بينهم. يلفت  ريكاي إلى أن الناس في البلدة يتجنبون المرور بذلك الموقع لأنهم يعتبرونه ملعوناً.

تشكّل المياه الجبلية الخضراء رغوة فيما تشق طريقها نحو نهر دودان، فتقطع ممراً ضيقاً في البداية قبل أن تتعثر بأحد التصدعات. الموقع أشبه بشلال تحت الأرض. ثمة حفرة هائلة ومظلمة بعمق 15 أو 20 متراً وتتصاعد منها نفحات من الضباب.

قال السائق الذي بقي هادئاً حتى تلك اللحظة إن وقت الرحيل حان. لا يريد أن يبقى هناك. لا يعني ذلك أنه يؤمن بالأشباح. لكن لا أحد يعلم ما يمكن أن يحصل!

back to top