فجر يوم جديد: {نيجاتيف} الشاروط!

نشر في 24-04-2015
آخر تحديث 24-04-2015 | 00:01
 مجدي الطيب  {في السفر سبع فوائد} من بينها صحبة الأمجاد، ومن بين {الأمجاد} الذين عرفتهم، وتوطدت علاقتي بهم، وسعدت بصحبتهم، في كل مرة أحضر فيها فعاليات مهرجان {دبي السينمائي الدولي}،  الناقد العراقي د. فراس عبد الجليل الشاروط، الذي أدركت في ما بعد أنه أكاديمي مرموق تخرّج في قسم السينما بكلية الفنون الجميلة في جامعة بغداد، وحصل على شهادة الماجستير بالإخراج والنقد السينمائي ثم الدكتوراه بالنقد السينمائي، وأستاذ مادة مبادئ الإخراج في كلية الفنون الجميلة بجامعة القادسية العراقية، بالإضافة إلى كونه كاتباً في عدد من الإصدارات العراقية، مثل: صحيفة {المدى} اليومية، صحيفة {العالم الجديد}، مجلة {الشبكة} الأسبوعية، ومشاركاً في دراسات عدة، مثل: {بنية الصورة بين الشعر والسينما} ضمن كتاب {السينما الشعرية} و{الشخصية في الفيلم الوثائقي: آليات اشتغالها دراميا} ضمن كتاب {الفيلم القصير}، وصدر كلا الكتابين عن مسابقة أفلام الإمارات في أبو ظبي (2005 و2006)، كذلك  أثرى المكتبة العربية بكتب حول الثقافة السينمائية، أهمها: {الجنس والوعي: دراسة في دلالات الجنس بالسينما}، {الواقعية الجديدة وما بعدها في السينما الإيطالية} و{دلالة السينما}.

 غير أنني فوجئت عندما علمت أن ملكات {الشاروط} الإبداعية تجاوزت ذلك إلى موهبة صنع أفلام قصيرة، فأخرج الوثائقي {يطير الحمام… يحط الحمام} (1996)، الروائي القصير {روما ترانزيت} (2010)، الروائي القصير {نيجاتيف} (2014)، الذي أسعدني الحظ بمشاهدته، فأيقنت أن مبدعاً كبيراً خلفه، ذلك أن الفيلم الذي لا تتجاوز مدة عرضه على الشاشة حوالى ست دقائق ونصف دقيقة، بلغ مستوى من الإبداع التقني والفكري يؤهل {الشاروط} لأن يحتل مكانة رفيعة بين السينمائيين العرب، ويحملني للظن بأن تجربته الأولى في إخراج الفيلم الروائي الطويل ستكون محل حفاوة وتقدير.

  أول ما يسترعي الانتباه في فيلم {نيجاتيف} الموسيقى التي وضعها المايسترو حسين فج، كونها حملت، بتركيزها على الآلات الوترية، فيضاً من مشاعر الحزن والشجن والأسى، بالقدر نفسه الذي أحالت فيه الإضاءة والتصوير (حيدر خيون) الحجرة الضيقة، التي لا تخرج عنها أحداث الفيلم، إلى آفاق رحبة من السحر والعذوبة، بما يجعل المتلقي يغرق إلى أذنيه في الاندماج،  والسيناريو الذي كتبه  بشاعرية مفرطة، ملاك عبد علي، فقبل أن تنزل العناوين نرى أنفسنا مع امرأة في قميص نوم أسود عاري الصدر، وهي تدخن سيجارة وبصيص ضوء يتسلل من نافذة قريبة تتطلع إليها، وكأنها تنتظر شيئاً ما، ثم تشيح بنظرها جانباً وهي تنفث الدخان ويحل الظلام.

 هنا تغمر الموسيقى الحجرة المتواضعة الحال التي تتصدر الشاشة في لقطة ثابتة طويلة، تتيح لنا تأمل تفاصيلها ومحتوياتها، الجدران التي دُمرت بفعل الرطوبة، السرير القديم المتهالك، الأريكة التي هزمها الزمن ومنضدة الزينة العتيقة التي تتكئ على حجر لينقذها من السقوط، بينما  نلمح لوحة على الحائط سرعان ما نعرف، في لقطة تالية، أنها لسورة يس، بينما تخترق قطرات الماء التي تتسرب إلى الجدران الصمت الذي لا يقطعه سوى صوت الريح، وهي تحاول اقتلاع خيوط العنكبوت المتشبثة بالمكان الذي يعتمد على ضوء بسيط تسلل من نافذتين بائستين!

 هدوء مُخيف يطبق على الحجرة، التي تأخذ شكلاً تجريدياً، تمتد بعده أصابع امرأة إلى مؤشر المذياع، الذي يُصدر صوتاً مزعجاً كالحشرجة، باحثة بين المحطات إلى أن تستقر عند أغنية للمطربة زكية جورج، أول عراقية غنت في إذاعة بغداد بعد تأسيسها،  تتحدث عن لوعة الفراق وخيبة الأمل في الحبيب، وتبدو المرأة في قميص النوم، كأنها تتزين لاستقبال الحبيب، ويتحول الجدار بفعل قطرات الماء إلى لوحة تشكيلية قبل أن تهب ريح عاتية تُطيح بصور الأفلام المصرية، التي تتذكر المرأة مقاطع من حواراتها، وتندمج معها، وتتحسس جسدها العاري، لكنها تستيقظ على جملة يسرا اللوزي في فيلم {بالألوان الطبيعية}: {أنا حاسة بالذنب... وخايفة من عقاب ربنا}.

 وفي توقيت متزامن يُعلن المذياع قيام الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وتتطلع المرأة إلى بصيص الضوء المتبقي، ويسيطر عليها خوف من المقبل، في اللحظة التي يظهر فيها عقرب، وذنبه ومخالبه في وضع استعداد للدغ الضحية، وهو يُسرع الخطى، في تكثيف رائع للمعنى، فوق صور نجوم ونجمات السينما المصرية، فيما يؤكد البيان أن التنظيم اقترب من التمكين، وتدخل صبية الصورة، وهي جالسة على كرسي متحرك، في إيحاء بالعجز، وتتداخل أصوات طلقات الرصاص، والتكبيرات، مع ضجيج المحطات الإذاعية ثم يحل الظلام، ويعود الشجن مع الموسيقى، وتهبط العناوين باللون الأبيض لكن الخلفية السوداء لا تغيب عن اللوحة!

 {الشاروط} لا يصنع فيلماً، إنما يتبنى موقفاً عندما يتأسى على الواقع الراهن، ويُحذر من اللدغة التي تنتظر السينما.. ويا لها من رسالة!    

back to top