سامي معروف في «قبور الشهوة»...

نشر في 24-04-2015 | 00:02
آخر تحديث 24-04-2015 | 00:02
No Image Caption
حين يتنافس العقل والقلب على بساط القصيدة

قليلون هم الذين يكتبون على احتراف، ويتركون لقارئهم ألاّ يُعجب بعَرق عقولهم وقلوبهم على الورق. فالكثيرون، الكثيرون، يرون نقصاً في قرّائهم إن لم يعتنقوا قوافيهم بحرارة، رافضين سرّاً وجهراً أن تكون المشكلة في النص الذي يُرى لا في العين التي تَرى.
في مقدّمة جديده الشعري «قبور الشهوة» يتساءل الشاعر سامي معروف حول ماهيّة كتابته، فهل هي تحت قنطرة القصيدة أم في فيء النثر ذي البساط الواسع: «أشِعرٌ هذا الذي أقول! أم هو النثر؟» إلاّ أنّ الجواب سيختلف من قارئ إلى آخر، وقد يكون معروف بتساؤله معلناً أنّه لم يجد من مانع في ضمّ النثر إلى الشعر في كتاب واحد.
من كلام مقدّمة جديده الشعري «قبور الشهوة» طلب الشاعر سامي معروف المسامحة من القارئ على كتابة تنتمي إلى رمادٍ مقيم في زمن: «أعذرني يا أخي... وسامحني / هذا أنا في زمن رماديّ»، وبعد المسامحة يطلب صاحب القبول من الذي لم يجد لذّة في الفاكهة الطازجة على سطوح قبور شهوته أن يمضي رامياً عن شرفة ذاكرته ما قرأه في بحيرة النسيان: «فالتقط لو شئت من هذه الحبّات في شلح جرحي وتذوّقها... قد تجدها لذيذة! وإن كرهتها ارمها وامضِ في سبيلك وانسَ ما سمعت».

يستهلّ معروف إبحاره من ميناء العشق. فـ{العاشقة» لا تملك القدرة على البغض، في حين أنّ عينيها تحترفان لمعاناً توراتيّاً، وتعلوان شفتين آخذتين احمرارهما من مذبح لا يتّسع للأوثان، أمّا القلب فإناء موشوم بغربة ناره وغرابتها: «عيناي مرآة توراتيّة، وشفتاي مذبح وثنيّ، وفؤادي نار غريبة». وبإيقاع صوفيّ تواصل العاشقة الكشف عن ذاتها، إذ هي تخبّئ في أعماقها المحبّة لترتفع هيكلاً أخذت فيه الدموع مكان الحجارة: «أحشائي قبضة من المحبّة، وأنا هيكل من الدموع». ولا تعرف هذه المرأة إذا كانت تنتمي إلى ظلمة تنير أم إلى نور تسيل من جروحه الظلمة، لأنّ الحبّ جمع لها الدمعة والضحكة في شجرة واحدة: «أنتَ بيدكَ أطعمتني من شجرة الدمع والابتسام.../ فأنا جاهلة هويّتي: أظلامٌ زاهٍ هي أم نور حزين؟» وترتاح «عاشقة» معروف للحبّ حاملاً كيس جروحه بطرف عصاه، ولو كان بعكّازه السحريّ يسلّم بياض الفجر إلى حمرة المغيب: «تحمل عكّازك الغرائبيّ وتمسخ فراشات الفجر أقواساً من المغيب»...

وبين نصّ وآخر، يروق لمعروف أن يعطي للعقل مساحة على حساب القلب، فيلجأ إلى مفردات مشدودة إلى بعضها بعلاقة جدليّة لا تسمح للانفعال بأن يقول نفسه، كما في كلامه على النار: «... نارٌ من فوق، ونار من تحت. يتراشق السّلب والإيجاب بلا رؤيا أو رؤية! والمِسخان الجميلان هما العبثيّة والانتظام». وربّما ينتبه الشاعر إلى تمادي العقل فيخرج من جفاف المعادلات إلى الصورة التي تدعو القارئ إلى احتضان النصّ بشبكة مشاعره: «أنا نارٌ تحرق نفسها، والآخرون النقيض! ربّما لأنّ ضوئي متشامخ، أو قناديلي تأبى الاستشهاد إلاّ في الشوارع الفقيرة».

حكاية مع القصيدة

ولمعروف في قبور شهوته حكاية مع القصيدة العربية الكلاسيكية الحاضرة بين بوح وآخر. إلاّ أنّ الشاعر لم يكن كلاسيكياً في قصيدته، إنّه فيها كما هو في النصّ الحرّ، يلوذ بالإبهام والضباب الكثيف كما في قوله: «هي صرخةٌ وثَبَتْ على ريش الظّما/ وتدحرجت ملء الفراغ الصامت»... لا يستطيع معروف الإفلات من أسر عقله الذي يبدو بوصلة تتحكّم بخطو قلمه في ساحة القصيدة التي تحتاج إلى نسيم عليل آتٍ من جهة القلب، ومن جهة الخيال القريب جدّاً من صدق الانفعال...

في قصيدة «سرياليّة» تظهر لمعروف علاقة حميمة بالريح التي تنفخ في نايات الرمل كاتبة القصيدة التي تعلن الشوق من نافذة الخرس: «رسمت على الرمل الغريب قصيدة/ تروي وتسرد شوقها خرساء»، ومن خلال كلام كهذا، يبدو الشاعر ذا قدرة على الوضوح الجميل، الذي لا مكان فيه للسهولة الفارغة والابتذال، والذي يستطيع أن يصل إلى ما يدركه الغموض، لا سيّما حين تتعطل القنوات السامحة لنسغ المعنى بأن يسيل من جبين القصيدة إلى أخمص قدميها. ومن الأبيات التي تروي الغليل في «سرياليّة» معروف: «يا ريح هُبّي في تلال ربوعنا/ ما الأرض غير نسائم خضراء...» فالمجاز المعتدل ينقذ القصيدة من الضياع في متاهة الطلسمة، إلاّ أن الشاعر يصرّ على أبيات هي بمثابة أيدٍ تُمَدّ لقارئه حامية إيّاه من الغرق، وأبياتٍ أخرى هي بمثابة أيدٍ تمعن في الإغراق وتحترف لعبته...

ويستمرّ معروف في «قبور الشهوة» منتقلاً من معنى إلى آخر كاسراً طقس الرتابة الموضوعيّة، وها هو يقف في حضرة الحبّ معتمراً قلبه، مخاطباً أنثاه، مبلّغاً إيّاها أنّ قلبه دائم الإقامة في صدره وليس للماء أن يذيقه طعم الغرق: «أتعلمين؟/ قلبي لا ينزلق على وجه الماء، وما تريته هو الظلّ». وإذا كان لا بدّ من الحبّ، فإنّه ممكن، ولكن في زمن مضى يوم كان الشاعر على مسافة من المعرفة ويوم كان للحبّ كبرياء جارحة: «ليتكِ أحببتِني منذ ألف عام./ كان الحبّ يجرحني بظفر كبريائه، وكنت أسير الغباوة والذهول». ولا يطيل معروف الكلام لتنجلي غيمة السرّ وتشرق سماء الحقيقة، فهو مأخوذ برائحة التراب، بينما حبيبته تبحث عن وجهها في مرآة الذهب: «إن أردتِني، وافيني عند القناطر المتيّمة وليس بين عرائش الشموخ والأرستقراطيّة»... ورغم كل شيء يعترف الشاعر: «أحبّكِ»، ويكمل حكايته طمعاً بأن يعلم الجميع أنّه غريب في هذا العالم، وأنّه يعرف المدن من مشانقها التي تتباهى بأعناق الغرباء: «أنا غريب يا قوم، وسترت عنكم غرابتي دهراً، في المدن التي يُشنَق فيها الغرباء»... وإذا لا بدّ من تشبيه يختصر وجع معروف العاشق فقد لجأ إلى تشبيه واضح، ليكون هو شاعراً من نسل الغيم وأنثاه القصيدة التي أنجبها التراب من رحم خصوبته: «أحبّكِ،/ لأنّي شاعر من المطر،/ وأنتِ قصيدة من التراب».

قصيدة مستديرة

وتكاد تكون قصيدة «مستديرة» رسماً تقريبياً للشاعر الذي يحمل وجهاً نازفاً دون أن يتمكّن الفكر من أسره في مذهب معيّن: «وجهي نزيفٌ أنا... ماتت سواكبه/ والفكر أعيث على جرّي مذاهبه»... وهو الناذر عمره لكلّ بعيد حيث الإبحار البكر، وحيث قوارب تحمل على حناجرها الأناشيد الحزينة: «على الشواطي البِعاد السّمر تشهدني/ طفلاً... يغنّي له الأحزان قاربه»... غير أن هذا الطفل وطئ القمم حاملاً شيباً على رأسه ونبوءة في صدره: «وفي الذّرى، في خريف الماء تعرفني/ شيخاً نبيّاً تغاويه تجاربه»... ولهذه القصيدة امتداد في قصيدة «هذيان عند قبر أيّوب»، حيث يواصل معروف البوح بذاته. ويتصاعد المعنى المتألّم أكثر فأكثر، عندما تتساوى الهواجس والحقائق ولا يعود من إصبع تدلّ أو غربال يقول الكلمة الفصل: «ولَكَم بحثتُ عن الهواجس فارتَمَت / أشباحها في مخدعي كحقائق»...

في «قبور الشهوة» كتب الشاعر سامي معروف ألماً وجوديّاً وأظهر أنّه من الذين يصافحون الجمال يداً بيد، ومن الذين يعرفون تماماً من أين تؤكل الكتف في القصيدة العربية الكلاسيكيّة.

back to top