{شبكة الحمض النووي}... ثورة عالم الأدوية

نشر في 22-04-2015 | 00:02
آخر تحديث 22-04-2015 | 00:02
No Image Caption
نواه ولد في السادسة من عمره يعاني اضطراباً لا اسم له. سيبدأ أطباؤه هذه السنة بإرسال معلوماته الجينية عبر الإنترنت لمعرفة أهناك شخص آخر في العالم يعاني الحالة عينها.
لا شك في أن العثور على تطابق يحدث فرقاً. توضح «تكنولوجي ريفيو» أن نواه يعاني تأخراً في النمو، يستخدم جهازاً يساعده على المشي، ولا ينطق إلا بكلمات قليلة. كذلك يتفاقم مرضه. فيُظهر التصوير بالرنين المغناطيسي أن مخيخه يتقلص. حلل حمضه النووي علماء وراثة طبية في مستشفى شرق أونتاريو للأطفال. وفي مكان ما وسط أشرطة الحمض النووي خطأ ما، وربما مفتاح العلاج. ولكن ما لم يتوصل أطباؤه إلى ولد آخر يعاني العوارض ذاتها أو إلى خطأ مماثل في الحمض النووي، فلن يتمكنوا من تحديد الخطأ الأساسي في حالة نواه.
في يناير، بدأ مبرمجون في تورنتو اختبار نظام لتبادل معلومات جينية مع مستشفيات أخرى. تُعالج هذه المنشآت في مواقع مثل ميامي وبالتيمور وكامبريدج في المملكة المتحدة، أولاداً يعانون اضطرابات مندلية تسببها طفرات ناتجة في جينة واحدة. ويمثل هذا النظام، الذي يُدعى MatchMaker Exchange، خطوة جديدة: طريقة لأتمتة مقاربة الحمض النووي من أناس مرضى حول العالم.

من المبتكرين الذين يقفون وراء هذا المشروع ديفيد هوسلر، خبير في مجال المعلوماتية الحيوية مقره في جامعة كاليفورنيا بسانتا كروز. لكن المشكلة التي يواجهها هوسلر راهناً أن تسلسل الجينوم منفصل إلى حد كبير عن أكبر أداة لتشاطر المعلومات: الإنترنت. ويعود ذلك للأسف إلى أن أكثر من 200 ألف شخص خضعوا لتسلسل الجينوم، ولا شك في أن هذا العدد سيرتفع ليصل إلى الملايين في السنوات المقبلة. لكن الحقبة الجديدة من الطب تعتمد، إلى حد كبير، على المقارنات الواسعة النطاق بين هذه الجينومات، مهمة يعتبر هوسلر أن العلماء غير مستعدين لها. يقول: «يمكنني استعمال بطاقة اعتمادي في أي منطقة من العالم، إلا أن البيانات الحيوية الطبية غير متوافرة على شبكة الإنترنت. فكلها ناقصة وغير متوافرة للجميع». تنقل الجينومات غالباً على أقراص صلبة وبواسطة شركة FedEx.

هوسلر مؤسس {التحالف العالمي لعلم الجينوم والصحة} وأحد قادتها التقنيين، علماً أن هذه منظمة لا تتوخى الربح تشكلت عام  2013 تُقارن نفسها بـW3C، منظمة المعايير التي تحرص على عمل الشبكة بالشكل الصحيح. يُعرف هذا التحالف أيضاً بالاسم المختصر GA4GH، وقد نجح في ضم أعضاء مهمين، بمن فيهم شركات تكنولوجيا كبيرة مثل غوغل. وتشمل منتجاتها لغاية  اليوم بروتوكولات، واجهات برمجة التطبيقات، وصيغ ملفات محسّنة لنقل الحمض النووي على شبكة الإنترنت. لكن المشاكل الحقيقية التي تحلها غير تقنية عموماً. بدلاً من ذلك، تُعتبر اجتماعية: يتردد العلماء في تشاطر البيانات الجينية، وبسبب قواعد الخصوصية، من الخطر عموماً نشر الجينومات على شبكة الإنترنت.

لكن الضغط يتراكم لاستخدام التكنولوجيا بغية دراسة الكثير من الجينومات دفعة واحدة، والبدء بمقارنة تلك المعلومات الجينية مع السجلات الطبية. ويعود ذلك إلى أن العلماء يعتقدون أنهم يحتاجون إلى البحث في ملايين الجينومات لإيجاد حلول  لحالات، مثل نواه، تشمل حرفاً واحداً شاذاً من الحمض النووي، أو للتوصل إلى اكتشافات بشأن المعلومات الجينية لأمراض شائعة تشمل مجموعة معقدة من الجينات. ولكن ما من مركز واحد يملك راهناً معلومات شاملة إلى هذا الحد أو موارد مالية لجمعها.

يراهن هوسلر والتحالف على أن جزءاً من الحل يكمن في إنشاء شبكة بين مؤسسات علمية متشابهة يمكنها توحيد هذه البيانات الموزعة في كل حدب وصوب. على سبيل المثال، تسمح معاييرهم للباحث بإرسال استعلامات لمستشفيات أخرى، التي تحدد مقدار المعلومات التي تعتبر أنها مستعدة لمشاطرتها ومع مَن. ومن الممكن لعملية الضبط هذه أن تخفف من المخاوف المنتشرة بشأن الخصوصية. وبإضافة مستوى جديد من التعقيد، قد تطلب واجهات برمجة التوجيهات من قواعد البيانات إجراء حسابات (إعادة تحليل، مثلاً، الجينومات تخزنها) وإرسال الجواب.

تبديل الحياة

يوم التقيت هوسلر، كان يرتدي قميصاً مزركشاً باهت اللون ويعقد الاجتماعات على كرسي حديقة بلاستيكي قرب حوض سباحة في فندق في سان دييغو. قصدنا كلانا هذا المكان للمشاركة في أحد التجمعات السنوية الكبرى في العالم في مجال علم الوراثة. أخبرني أنه قلق من أن علم الوراثة يبتعد عن مقاربة مفتوحة جعلت الجينوم قوياً جداً. فإن أصبحت بيانات حمض الناس النووي متوافرة لعدد كبير من العلماء، يأمل هوسلر أن يحقق الطب فائدة كبرى من النوع ذاته من {تأثيرات الشبكة} التي تحفز الكثير من الأوجه التجارية على شبكة الإنترنت. ويبقى البديل أن تظل هذه المعلومات الأساسية محتجزة في ما يشبه نظام سجلات المستشفيات الكارثي في الولايات المتحدة، علماً أن هذه الأنظمة قلما تشاطر المعلومات.

 من الحجج الأساسية التي تفرض ضرورة اتخاذ خطوة سريعة واقع أن كمية بيانات الجينومات تزداد بسرعة. فتستطيع المختبرات الكبرى اليوم إجراء تسلسل الجينومات البشرية بإتقان بسرعة تصل إلى جينومين في الساعة (علماً أن الجينوم الأول يتطلب نحو 13 سنة). وتُظهر الحسابات الإجمالية أن أسرع آلات تسلسل الحمض النووي ستتمكن من إنتاج ما يُعادل 85 بيتابايت من البيانات حول العالم هذه السنة. على سبيل المقارنة، تحتل النسخ الأساسية من الأفلام في Netflix مساحة تخزين تصل إلى 2.6 بيتابايت.

يذكر آدم بيري، المدير التنفيذي في Curoverse، شركة حديثة العهد في بوسطن تستخدم معايير التحالف في تطوير برنامج مجاني للمستشفيات: {المسألة تقنية. ستملك بين يديك كمية هائلة من البيانات حول العالم لا يود أحد نقلها. فكيف يمكنك إجراء بحث فيها كلها دفعة واحدة؟ يكمن الجواب في عدم نقل هذه المعلومات، بل نقل الأسئلة. ما من قطاع يقوم بذلك. لا شك في أن هذه المشكلة بالغة الصعوبة، إلا أنها قد تساهم في تبديل كامل حياة الإنسان}.

توثيق وتغيير

يصب العلماء اليوم كل اهتمامهم على مشروع هدفه توثيق أي تغيير في كل جينة بشرية وتحديد عواقب هذه الاختلافات. يختلف البشر في نحو 3 ملايين موضع حمض نووي، أو واحد في كل ألف حرف جيني. لا أهمية لمعظم هذه الاختلافات، إلا أن الاختلافات الباقية توضح الكثير من المسائل البالغة الأهمية، مثل اضطرابات نواه المحزنة أو ارتفاع خطر الإصابة بالساد.

إذاً، تخيل أنك أصبت للأسف بالسرطان في المستقبل القريب. قد يطلب منك الطبيب الخضوع لاختبارات حمض نووي للورم الذي تعانيه، لأنه يعرف أن كل سرطان ينجم عن طفرات محددة. وإن تمكن هذا الطبيب من الاطلاع على تجربة كل مَن عانوا طفرات ورمك الخاصة، فضلاً عن الأدوية التي تناولوها وكم عاشوا، فقد يكوّن فكرة جيدة عن الطريقة الفضلى لعلاجك. لكن المأساة الكبرى في علم الوراثة اليوم تبقى أن الكمية الكبرى من هذه المعلومات المنقذة للحياة، مع أنها جُمعت، تبقى بعيدة عن متناول العلماء. يوضح ديفيد شايفيتز، كبير المسؤولين الطبيين في DNAnexus، شركة معلوماتية حيوية تضم مجموعات كبيرة من البيانات الجينية: {لا تشكل التكنولوجيا العامل المقيّد، بل استعداد الناس لتشاطر هذه المعلومات}.

في الصيف الماضي، أطلق تحالف هوسلر محرك بحث أساسياً للحمض النووي يُدعى «بيكون» (Beacon). يبحث {بيكون} راهناً في نحو 20 قاعدة بيانات تضم جينومات بشرية، سبق أن نُشرت للعلن، وتطبق بروتوكولات التحالف. يجيب {بيكون} بنعم أو لا فحسب على نوع واحد من الأسئلة. على سبيل المثال، يمكنك أن تسأله: {أي من جينوماتك يحمل الحرف ت في الموقع 1520301 على الصبغي 1؟}. يقول هوسلر: {يُعتبر هذا السؤال الأساس: هل سبق أن رأى هذا المتغيّر؟ فإن صادفت أمراً جديداً، تريد على الأرجح أن تعرف ما إذا كان هذا أول مريض في العالم يعاني هذه المشكلة}. يستطيع {بيكون} اليوم ولوج حمض آلاف الناس النووي، بما فيها مئات الجينومات التي نشرتها غوغل على شبكة الإنترنت.

يحتل ديفيد ألتشولر، أحد مؤسسي التحالف العالمي، منصب المدير العلمي لشركة Wertex Pharmaceuticals، إلا أنه كان حتى وقت ليس ببعيد نائب رئيس معهد Board التابع لجامعة هارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أحد أهم مراكز تسلسل الحمص النووي الأكاديمية في الولايات المتحدة. في اليوم الذي زرت فيه ألتشولر في مكتبه في Board، كان لوحه الأبيض مغطى بمخططات إرث عائلات الجينات، فضلاً عن كلمة Napster مكتوبة بأحرف زرقاء كبيرة، علماً أن هذه إشارة إلى خدمة تشاطر الموسيقى المثيرة للجدل في تسعينيات القرن الماضي.

أمراض شائعة

لألتشولر أسبابه الخاصة وراء رغبته في ربط كميات ضخمة من البيانات الجينية. كباحث أكاديمي، يفتش عن الأسباب الجينية وراء الأمراض الشائعة مثل الداء السكري. يشمل هذا العمل مقارنة الحمض النووي لأناس مرضى وآخرين أصحاء، محاولاً تحديد أوجه الاختلاف التي تظهر غالباً. وبعد استهلاكه عدداً كبيراً من المنح في هذا العمل، أدرك علماء الوراثة أنهم لن يتوصلوا إلى جواب سهل، ما من {جينات داء سكري} أو {جينات كآبة}. فقد اتضح أن الأمراض الشائعة لا تعود إلى عيب واحد محدد. بدلاً من ذلك، اكتشف العلماء أن الخطر الذي يواجهه الشخص يُحدَّد من خلال تركيبة من مئات أو حتى عشرات آلات المتغييرات النادرة في شفرة الحمض النووي.

لكن هذا سبب صداعاً إحصائياً، ففي تقرير أعده 300 كاتب، في يوليو الماضي، تناول Board جينات 36989 شخصاً يعانون الفصام. صحيح أن هذا المرض وراثي إلى حد كبير، إلا أن مواضع الجينات الـ108 التي حددها العلماء لا توضح سوى نسبة صغيرة من الخطر الذي يجعل الإنسان أكثر عرضة لهذا المرض. رغم ذلك، يعتقد ألتشولر أن الدراسات الجينية الكبرى لا تزال تشكل طريقة جيدة {لحل ألغاز} هذه الأمراض. لكنه يظن أن هذه العملية تتطلب على الأرجح ملايين الجينومات.

حسبما تُظهر هذه الحسابات، يشكل تشاطر البيانات ضرورة ملحة، سواء كان الباحثون يحاولون كشف أسباب أمراض شائعة أو نادرة جداً. يؤكد أرثر توغا، باحث يترأس منتدى لدراسة علم الألزهايمر في جامعة جنوب كاليفورنيا: {سنشهد تغيراً كبيراً في العمل العلمي. ويعود ذلك إلى أن نسبة الإشارة إلى الضجيج تتطلب ذلك. لا يمكنك الحصول على النتائج المرجوة مع 10 آلاف مريض فحسب، بل ستحتاج إلى عدد أكبر بكثير. سيعمد العلماء إلى المشاطرة لأنهم مضطرون إلى ذلك}.

لا شك في أن الخصوصية تمثل عقبة أمام عملية التشاطر هذه. فبيانات حمض الناس النووي محمية لأنها تعكس هويتهم، على غرار بصمات الأصابع، فضلاً عن أن سجلاتهم الطبية شخصية أيضاً. لذلك لا تسمح بعض البلدان بتصدير المعلومات الشخصية وإن لأغراض علمية. لكن هوسلر يعتقد أن الشبكة بين المؤسسات العلمية المتشابهة قد تتخطى بعض هذه المخاوف، بما أن البيانات لن تُنقل وسيكون ولوجها محمياً. يقول إن أكثر من نصف الأوروبيين والأميركيين يتقبلون فكرة تشاطر الجينومات، ويعتقد بعض العلماء أن استمارات موافقة المريض يجب أن تكون تفاعلية، على غرار ضوابط الخصوصية التي تعتمدها غوغل، تاركة للأفراد تحديد ما يودون مشاطرته ومع مَن، ومن ثم تبديل رأيهم. توضح شارون تيري، مديرة التحالف الجيني، منظمة كبيرة تدافع عن حقوق المريض: {يريد أعضاؤنا اتخاذ قرارات بأنفسهم، إلا أنهم ليسوا قلقين بشأن الخصوصية. إنهم مرضى}.

تعثر وإشارات

يكمن خطر عدم تنظيم البيانات بشكل جيد في تعثر ثورة الجينوم. يشير بعض الباحثين إلى رؤيتهم إشارات إلى أن هذا ما بدأ يحدث بالفعل. توضح كيم بويكوت، رئيسة فريق الأبحاث الذي أعد تسلسل جينوم نواه، أن فريقها عندما تبنى تسلسل الجينوم كأداة بحث عام 2010، لاقى نجاحاً كبيراً. وعلى مدى سنتين، بين 2011 و2013، اكتشفت شبكة من علماء الوراثة الكنديين الأسباب الجزيئية المحددة لنحو 146 حالة، مقدمةً الحل لنحو 55% من حالتهم غير المشخصة.

لكن معدل النجاح بدأ يتراجع على ما يبدو، وفق بويكوت. فلم يتبقَ راهناً إلا الحالات الصعبة، مثل نواه، وقد تراجع احتمال حلها إلى نصف ما شهدناه سابقاً. وتضيف: {ما عدنا نصادف مريضين يعانيان المشاكل ذاتها. ولهذا السبب نحتاج إلى عملية التبادل هذه. يلزمنا عدد أكبر من المرضى والتشاطر المنظم لنرفع مجدداً معدل النجاح}.

عندما سألتها في أواخر يناير ما إذا كانت MatchMaker Exchange قد نجحت في العثور على نظير مشابه، اعترضت، مؤكدةً أن هذا النظام لن يعمل بكامل طاقته قبل بضعة أسابيع. أما عن نواه، فقالت: {ما زلنا ننتظر للعمل على حالته. وهذا مهم بالتأكيد بالنسبة إلى هذا الوليد الصغير}.

back to top