مخطِّط الإرهاب الاستراتيجي... «الدولة الإسلامية» ملفات سرية تكشف بنيتها

نشر في 21-04-2015
آخر تحديث 21-04-2015 | 00:02
حين مات مهندس «الدولة الإسلامية»، ترك وراءه أمراً لطالما أراد إخفاءه: مخططاً خاصاً بتلك الدولة. إنه ملف مليء برسوم بيانية ولوائح وجداول تنظيمية مكتوبة بخط اليد، وهي تصف طريقة إخضاع البلدان بوتيرة تدريجية. تمكنت صحيفة «شبيغل» حصرياً من الحصول على 31 صفحة، ويتألف بعضها من بضع صفحات متلاصقة. هي تكشف عن تركيبة متعددة الطبقات وتوجيهات عن التحركات المرتقبة، وقد تم اختبار بعضها سابقاً قبل أن تصدر توجيهات حديثة أخرى للتعامل مع الوضع الفوضوي في الأراضي التي يسيطر عليها الثوار في سورية. تشكّل الوثائق مرجعاً مشفّراً لمعظم عناصر أنجح جيش إرهابي في التاريخ الحديث.

بقيت وثائق بكر محفوظة لفترة طويلة في منزل داخل شمال سورية المحاصرة. ذُكرت تلك الوثائق للمرة الأولى من شهود عيان كانوا قد شاهدوها في منزل حجّي بكر بعد فترة قصيرة على مقتله. في أبريل 2014، سُرّبت صفحة من الملفات إلى تركيا حيث تمكنت «شبيغل» من تحليلها للمرة الأولى. ثم لم يكن ممكناً بلوغ بلدة تل رفعت لتقييم المجموعة الكاملة من الوثائق المكتوبة بخط اليد قبل نوفمبر 2014.

قال الرجل الذي كان يحتفظ بملاحظات حجّي بكر بعد سحبها من تحت كومة كبيرة من صناديق وبطانيات: «أكثر ما كان يقلقنا وصول الخطط إلى الجهات الخاطئة واحتمال ألا نعرف بوجودها مطلقاً». يفضّل الرجل ألا يكشف عن هويته خوفاً من فِرَق الموت التابعة لتنظيم «الدولة الإسلامية».

الخطة الرئيسة

تبدأ قصة المجموعة من الوثائق في وقتٍ لم يكن كثيرون قد سمعوا فيه بعد باسم «الدولة الإسلامية». حين سافر العراقي حجّي بكر إلى سورية، كجزء من فريق استطلاعي صغير، في أواخر عام 2012، كان يحمل خطة سخيفة ظاهرياً: كان يجب أن تستولي «الدولة الإسلامية» على أكبر عدد ممكن من الأراضي في سورية. ومن خلال استعمال سورية كخط مواجهة موقّت، يمكن أن تغزو العراق في المرحلة اللاحقة.

أقام بكر في منزل عادي في بلدة تل رفعت، في شمال حلب. كانت تلك البلدة خياراً جيداً. خلال الثمانينات، ذهب عدد كبير من سكانها للعمل في دول الخليج، لا سيما المملكة العربية السعودية. ثم عاد بعضهم وهم يحملون قناعات ومعارف متطرفة. في عام 2013، أصبحت تل رفعت معقلاً لتنظيم «الدولة الإسلامية» في محافظة حلب، فقد تمركز فيها مئات المقاتلين.

في ذلك المكان تحديداً صمّم «سيد الظلال»، كما يسمّيه البعض، بنية «الدولة الإسلامية»، من أعلى المراتب وصولاً إلى المستوى المحلي، فجمع اللوائح المرتبطة بالتسلل التدريجي إلى القرى وحدد الجهات التي ستشرف على غيرها. استعمل قلم حبر لرسم مراتب القيادة في الجهاز الأمني على الورق. قد يكون الأمر مجرّد صدفة، لكن كانت تلك الأوراق مأخوذة من وزارة الدفاع السورية وقد حملت معلومات عن القسم المسؤول عن أماكن الإقامة والأثاث.

ما دوّنه بكر على الأوراق، صفحة تلو الأخرى، مع رسم مربّعات مصمّمة بحذر لتحديد المسؤوليات الفردية، يمكن اعتباره في الحد الأدنى مخططاً لفرض السيطرة. لم يكن للأمر علاقة بالإيمان بل بخطة دقيقة من الناحية التقنية تسمح بنشوء «دولة إسلامية استخبارية»، على شكل دولة خلافة تديرها منظمة تشبه وكالة الاستخبارات المحلية الشهيرة، «ستاسي»، في ألمانيا الشرقية.

نُفّذ ذلك المخطط بدقة مدهشة خلال الأشهر اللاحقة. تبدأ الخطة دوماً بالتفصيل نفسه: تجنّد الجماعة أتباعاً لها بحجة فتح مكاتب الدعوة، أي مراكز التبشير الإسلامي. من بين الأشخاص الذين قَدِموا لسماع المحاضرات وحضور الدورات عن الحياة الإسلامية، يتم اختيار رجل أو اثنين قبل منحهما التعليمات اللازمة للتجسس على بلدتهما وجمع معلومات وافرة.

طُلب من الجواسيس أن يدوّنوا تفاصيل متعلقة بهوية المجرمين أو المثليين أو الأشخاص المتورطين في نشاطات سرية، وكأنهم أرادوا الحصول على مواد تفيدهم لابتزاز الناس لاحقاً. ذكر بكر: «سنعيّن أذكى الأشخاص لأداء دور شيوخ الشريعة. سندرّبهم لفترة ثم نرسلهم لتنفيذ المهام». وفق إحدى الحواشي في الأوراق، ذكر بكر ضرورة اختيار عدد من «الإخوة» في كل بلدة كي يتزوجوا من بنات معظم العائلات النافذة، وذلك «لضمان اختراق تلك العائلات من دون علمها».

في ما يخص كل مجلس في المحافظات، خطط بكر لتعيين أمير، أو قائد، كي يكون مسؤولاً عن جرائم القتل والخطف والقنص والتواصل والتشفير، فضلاً عن تعيين أمير للإشراف على الأمراء الآخرين «في حال لم يؤدوا مهامهم بالشكل المطلوب». ستكون نواة هذه الدولة المتديّنة عبارة عن آلية شيطانية ترتكز على بنية من الخلايا والمغاوير وتهدف إلى نشر الخوف.

بدايات في العراق

بدا وكأن جورج أورويل من أوحى بهذا الشكل من المراقبة التي تنمّ عن جنون الارتياب. لكن كانت العملية أبسط من ذلك بكثير. كان بكر يغيّر بكل بساطة ما تعلّمه في الماضي: الجهاز الأمني النافذ في عهد صدام حسين حيث لم يكن أحد، ولا حتى الجنرالات في جهاز الاستخبارات، متأكداً من أنه لا يخضع التجسس.

وصف الكاتب العراقي المغترب كنعان مكية «جمهورية الخوف» هذه في أحد كتبه باعتبارها بلداً حيث يمكن أن يختفي أي شخص بكل بساطة وحيث تمكّن صدام من إنهاء حفل تنصيبه الرسمي في عام 1979 بالكشف عن مؤامرة وهمية.

ثمة سبب بسيط يفسر عدم ذكر النبوءات المرتبطة بإنشاء «الدولة الإسلامية» التي يُفترض أن يكون الله قد أمر بتأسيسها في كتابات بكر: كان الأخير يظن أن القناعات الدينية المتطرفة لا تكفي وحدها لتحقيق النصر. لكنه كان مقتنعاً بإمكان استغلال إيمان الآخرين.

في عام 2010، قام بكر ومجموعة صغيرة من الضباط السابقين في الاستخبارات العراقية بتنصيب أبي بكر البغدادي أميراً ثم «خليفة»، ما يعني أنه أصبح الزعيم الرسمي لتنظيم «الدولة الإسلامية». اعتبروا أن البغدادي، رجل الدين المثقف، سيعطي التنظيم وجهاً دينياً.

يقول الصحافي العراقي هشام الهاشمي، حين يتذكر الضابط المخضرم السابق الذي تمركز مع نسيبه في قاعدة الحبانية الجوية: كان بكر «قومياً وليس إسلامياً». كان «العقيد سمير»، كما يسمّيه الهاشمي، «خبيراً لوجستياً ذكياً جداً وصارماً وممتازاً». لكن حين أقدم بول بريمر، الذي قاد حينها السلطة المدنية للاحتلال الأميركي في بغداد، على «حلّ الجيش بموجب مرسوم صدر في مايو 2003، أصبح تعيساً وعاطلاً عن العمل».

حُرم آلاف الضباط السُّنة الذين يتمتعون بمستوى عالٍ من التدريب من لقمة عيشهم بشخطة قلم. بسبب هذا القرار، أنشأت الولايات المتحدة أسوأ أعدائها وأكثرهم ذكاءً. بدأ بكر يعمل في السر وقابل أبا مصعب الزرقاوي في محافظة الأنبار في غرب العراق. كان الزرقاوي المولود في الأردن أدار سابقاً مخيماً تدريبياً للحجاج الإرهابيين الدوليين في أفغانستان. بدءاً من عام 2003، كسب شهرة عالمية باعتباره العقل المدبّر للاعتداءات ضد الأمم المتحدة والقوات الأميركية والمسلمين الشيعة. حتى إنه كان متطرفاً أكثر من زعيم «القاعدة» السابق أسامة بن لادن. قُتل الزرقاوي نتيجة ضربة جوية أميركية في عام 2006.

رغم أن حزب البعث المسيطر على العراق كان علمانيا،ً سرعان ما تقاسم نظامان قناعة مفادها أن التحكم بالناس يجب أن يكون بيد نخبة صغيرة لا يمكن محاسبتها من أي طرف، لأنها تحكم وفق خطة كبرى شرّعها الله أو مجد التاريخ العربي. يكمن سر نجاح «الدولة الإسلامية» في خليط من القناعات المتناقضة والمتعصّبة التي تحملها جماعة واحدة وحسابات استراتيجية تحملها جماعة أخرى.

أصبح بكر تدريجاً أحد القادة العسكريين في العراق، وقد احتُجز بين عامَي 2006 و2008 في معسكر بوكا الأميركي وسجن أبو غريب. صمد في وجه موجات الاعتقال وعمليات القتل التي قادتها الوحدات الأميركية والعراقية الخاصة، ما أدى إلى تهديد وجود المنظمة التي أطلقت «الدولة الإسلامية» في عام 2010، أي «الدولة الإسلامية» في العراق.

    بالنسبة إلى بكر وعدد من الضباط المرموقين السابقين، شكّل هذا الوضع فرصة مؤاتية للاستيلاء على السلطة في أوساط المجاهدين الأصغر حجماً. فاستغلوا الوقت الذي تقاسموه في معسكر بوكا لإنشاء شبكة واسعة من المعارف. لكن كان كبار القادة يعرفون بعضهم منذ فترة طويلة. كان حجّي بكر وضابط آخر جزءاً من جهاز سري صغير يرتبط بقسم التصدي للطائرات. جاء قائدان آخران في «الدولة الإسلامية» من جماعة صغيرة من التركمان السُّنة في بلدة تلعفر. كان أحدهما ضابطاً استخبارياً رفيع المستوى أيضاً.

في عام 2010، بدت محاولة هزم قوات الحكومة العراقية عسكرياً فاشلة. لكن سرعان ما تشكلت منظمة سرية وقوية عبر أعمال إرهابية ومخططات لحماية الجهات النافذة. حين اندلعت الانتفاضة ضد النظام الدكتاتوري الذي تقوده عائلة الأسد في سورية المجاورة، شعر قادة المنظمة بأن الفرصة باتت مناسبة للتحرك. في أواخر عام 2012، وتحديداً في الشمال، هُزمت قوات النظام التي كانت تبسط سيطرتها سابقاً في كل مكان وطُردت من مواقعها. انتشرت في تلك المرحلة مئات المجالس المحلية وألوية الثوار، كجزءٍ من خليط فوضوي لا يمكن أن يواكبه أحد. سعت تلك الجماعة العالية التنظيم من الضباط السابقين إلى استغلال ذلك الوضع الهش.

لا تتقاسم «الدولة الإسلامية» الكثير مع التنظيمات التي سبقتها مثل «القاعدة»، باستثناء شعار الجهاد. ما من جانب ديني في تحركاتها وتخطيطها الاستراتيجي وتحالفاتها المتبدّلة بشكل جذري وخطاباتها الترويجية التي تطبّقها بدقة عالية. يُعتبر الإيمان، حتى بأكثر أشكاله المتطرفة، واحداً من وسائل متعددة لتحقيق الغايات. شعار «الدولة الإسلامية» الوحيد والدائم هو توسيع النفوذ بأي ثمن.

طريقة التنفيذ

بدأ توسّع «الدولة الإسلامية» بطريقة ضمنية لدرجة أنّ ثمة سوريين بدأوا يفكرون بعد سنة باللحظة التي ظهر فيها المجاهدون في وسطهم. كانت مكاتب الدعوة التي فتحت أبوابها في بلدات عدة من شمال سورية، في ربيع عام 2013، تبدو مجرّد مكاتب تبشيرية بريئة، وينطبق الأمر نفسه على الجمعيات الخيرية الإسلامية التي تم افتتاحها في أنحاء العالم.

حين فتح مكتب الدعوة أبوابه في الرقة، ذكر طبيب كان قد هرب من المدينة أنّ «كلّ ما قالوه هو أنهم «إخوة» ولم يتفوهوا بكلمة عن «الدولة الإسلامية»». فُتح مكتب مشابه في مدينة منبج الليبرالية في محافظة حلب، في ربيع عام 2013. يتذكر ناشط شاب في مجال الحقوق المدنية ما حصل قائلاً: «حتى إنني لم ألحظ ذلك في البداية. كان يُسمَح للجميع بفتح ما يريدونه. ما كان يمكن أن نشتبه بأن طرفاً آخر غير النظام يمكن أن يطرح تهديداً علينا. لكن حين اندلع القتال في شهر يناير، علمنا أن «داعش« كان قد استأجر شققاً عدة لتخزين الأسلحة وإخفاء رجاله«.

في نهاية عام 2012، نُظمت المعسكرات بطريقة دقيقة وحضر رجال من بلدان عدة ولم يتحدثوا مع الصحافيين. كان عدد القادمين من العراق قليلاً جداً. تلقى القادمون الجدد التدريبات طوال شهرين وتعلّموا أن يطيعوا أوامر القيادة المركزية بشكل غير مشروط. كانت الخطة ضمنية ولها منفعة إضافية: يجب أن تكون فوضوية في البداية قبل أن تنشأ قوات موالية بالكامل. لم يعرف الأجانب أحداً باستثناء زملائهم، ولم يملكوا سبباً كي يشفقوا على غيرهم، وكان يمكن إرسالهم بسرعة إلى أماكن مختلفة. كان ذلك الوضع متناقضاً بشدة مع وضع الثوار السوريين الذين ركزوا بشكل أساسي على الدفاع عن بلداتهم واضطروا إلى الاعتناء بعائلاتهم وتقديم المساعدة في موسم الحصاد. في خريف عام 2013، شملت لوائح «الدولة الإسلامية» 2650 مقاتلاً أجنبياً في محافظة حلب وحدها. شكّل التونسيون ثلث ذلك العدد، يليهم السعوديون والأتراك والمصريون، وبأعداد أقل الشيشان والأوروبيون والإندونيسيون.

السيطرة على الرقة

حين وقعت الرقة بيد الثوار في مارس 2013، انتُخب مجلس المدينة سريعاً. نظّم المحامون والأطباء والصحافيون نفسهم ونشأت جماعات نسائية أيضاً. كذلك تأسست «جمعية الشباب الحر» وحركة «من أجل حقوقنا» وانطلقت عشرات المبادرات الأخرى. بدا كل شيء ممكناً في الرقة. لكن بنظر بعض الأشخاص الذين هربوا من هناك، مهّد ذلك الوضع لبدء سقوط المدينة.

وفق خطة حجّي بكر، كان يجب التخلص من أي شخص يمكن أن يصبح زعيماً أو خصماً محتملاً بعد مرحلة التسلل. أول شخص تم استهدافه كان رئيس مجلس المدينة الذي خُطف في منتصف شهر مايو من عام 2013 على يد رجال مقنّعين. الشخص التالي الذي اختفى كان شقيق روائي معروف. بعد يومين، اختفى قائد الجماعة التي رسمت علم الثورة على جدران المدينة.

أوضح أحد أصدقائه: «كنا نملك فكرة عن هوية الخاطفين لكن لم يجرؤ أحد على فعل شيء». بدأ نظام الخوف يترسخ بين الناس. بدءاً من شهر يوليو، اختفى عشرات الأشخاص ثم المئات. كان يمكن العثور على جثثهم أحياناً لكنهم كانوا يختفون من دون ترك أي أثر في أغلب الأوقات. في شهر أغسطس، أرسلت القيادة العسكرية في تنظيم «الدولة الإسلامية» سيارات عدة يقودها انتحاريون إلى مقر لواء «أحفاد الرسول» التابع للجيش السوري الحر، فقتلوا عشرات المقاتلين ودفعوا الباقين إلى الهرب. اكتفى الثوار الآخرون بالتفرج على ما يحصل. أبرمت قيادة «الدولة الإسلامية» شبكة من الاتفاقات السرية مع بعض الألوية كي يظن كل لواء منها أن الألوية الأخرى قد تكون هدفاً لاعتداءات «الدولة الإسلامية».

في 17 أكتوبر 2013، دعت «الدولة الإسلامية» جميع قادة المجتمع المدني ورجال الدين والمحامين في المدينة إلى اجتماع. ظنَّ البعض حينها أن تلك الخطوة قد تكون مبادرة لعقد المصالحة. من أصل 300 شخص من الحاضرين، اعترض اثنان فقط على الغزو الحاصل وعمليات الخطف وجرائم القتل التي ترتكبها «الدولة الإسلامية».

كان أحدهما مهند حبايبنا، ناشط في مجال الحقوق المدنية وصحافي معروف في المدينة. وُجد بعد خمسة أيام مربوطاً ومقتولاً مع أثر رصاصة في رأسه. تلقى أصدقاؤه رسالة إلكترونية مجهولة المصدر فيها صورة جثته. ذكرت الرسالة عبارة واحدة: «هل تشعرون بالحزن على صديقكم الآن؟». خلال ساعات، هرب نحو 20 عضواً قيادياً من المعارضة إلى تركيا. هكذا انتهت الثورة في الرقة.

بعد فترة قصيرة، أقسم 14 قائداً لأكبر العشائر يمين الولاء للأمير أبي بكر البغدادي. ثمة فيلم للاحتفال أيضاً. ينتمي هؤلاء الشيوخ إلى العشائر نفسها التي أقسمت على الولاء للرئيس السوري بشار الأسد قبل سنتين فقط.

موت حجّي بكر

حتى نهاية عام 2013، كانت الأوضاع تسير وفق خطة «الدولة الإسلامية»، أو وفق خطة حجّي بكر على الأقل. كانت دولة الخلافة تتوسع في مختلف القرى بشكل متلاحق من دون أن تواجه أي مقاومة موحدة من الثوار السوريين. فقد بدا الثوار عاجزين أمام قوة «الدولة الإسلامية» الشريرة.

لكن حين عذَّب أتباع «الدولة الإسلامية» طبيباً وزعيماً محبوباً في صفوف الثوار بطريقة وحشية في ديسمبر 2013، حصل أمر غير متوقع. في أنحاء البلد، تكاتفت الألوية السورية (الجهات العلمانية وأجزاء من «جبهة النصرة» المتطرفة) لخوض المعركة ضد «الدولة الإسلامية». من خلال مهاجمة الأخيرة في كل مكان في الوقت نفسه، تمكنوا من حرمان الإسلاميين من تفوقهم التكتيكي، أي قدرتهم على نقل الوحدات سريعاً إلى المواقع التي تحتاج إليها.

خلال أسابيع، طُردت «الدولة الإسلامية» من مناطق واسعة في شمال سورية. حتى الرقة، عاصمة «الدولة الإسلامية»، كادت تسقط مع وصول 1300 مقاتل تابع لتنظيم «الدولة الإسلامية» من العراق. لكنهم لم يتجهوا مباشرةً لخوض المعركة. بل إنهم طبّقوا مقاربة أكثر خداعاً كما يتذكر الطبيب الذي هرب: «في الرقة، تعددت الألوية التي تحركت ولم يستطع أحد تحديد هويتها الحقيقية. فجأةً، بدأت جماعة ترتدي زيّ الثوار بإطلاق النار على الثوار الآخرين. فهربوا جميعاً بكل بساطة».

من خلال تنكّر بسيط، تمكّن مقاتلو «الدولة الإسلامية» من تحقيق النصر: كان يكفي تغيير الملابس السوداء وارتداء سراويل جينز وسترات. قاموا بالأمر نفسه في بلدة جرابلس الحدودية. في مناسبات عدة، احتجز الثوار في مواقع أخرى السائقين من المركبات الانتحارية التابعة لتنظيم «الدولة الإسلامية». فسألهم السائقون بكل دهشة: «أنتم سُنّة أيضاً؟ أخبرني أميرنا بأنكم كفّار من جيش الأسد».

عند اكتمال الصورة العامة، بدأ الوضع يبدو سخيفاً: اتجه الأشخاص الذين أخذوا على عاتقهم تنفيذ «خطة الله» على الأرض لغزو إمبراطورية دنيوية مستقبلية، لكن بأي طريقة؟ حصل ذلك باستعمال ملابس النينجا والحيل الرخيصة وخلايا التجسس تحت غطاء مكاتب التبشير. لكن نجحت الخطة. احتفظت «الدولة الإسلامية» بمدينة الرقة وتمكنت من استعادة بعض الأراضي التي كانت قد خسرتها. لكن حصل ذلك بعد فوات الأوان بالنسبة إلى المخطط اللامع حجّي بكر.

بقي حجّي بكر في بلدة تل رفعت حيث احتفظت «الدولة الإسلامية» بتفوقها. لكن حين هاجم الثوار في نهاية شهر يناير من عام 2014، انقسمت المدينة خلال ساعات قليلة. بقي نصفها تحت سيطرة «الدولة الإسلامية» بينما استولى أحد الألوية المحلية على النصف الآخر. بقي حجّي بكر عالقاً في الجزء الخاطئ من البلدة. للحفاظ على هويته السرية، امتنع عن الانتقال إلى أحد المربّعات العسكرية التي تخصّ «الدولة الإسلامية» وتخضع لحراسة مشددة. سرعان ما وشى به أحد جيرانه. هتف الرجل: «شيخ من داعش يعيش في جوارنا!». فحضر قائد محلي اسمه عبد المالك هادبي ورجاله إلى منزل بكر. فتحت امرأة الباب وقالت بفظاظة: «زوجي ليس هنا». فردّ الثوار أن سيارته مركونة أمام المنزل.

في تلك اللحظة، حضر حجّي بكر إلى الباب وهو يرتدي ملابس النوم. أمره هادبي بالمجيء معهم لكن احتجّ بكر لأنه أراد ارتداء ملابسه. فرفض هادبي وكرر: «تعال معنا فوراً!».

بدا بكر رشيقاً بالنسبة إلى عمره. قفز نحو الخلف وركل الباب وأقفله وفق شاهدَين على ما حدث. ثم اختبأ تحت السلالم وصرخ: «أحمل حزاماً ناسفاً! سأفجر نفسي وأفجرّكم جميعاً!». ثم خرج وهو يحمل سلاح كلاشنكوف وبدأ يطلق النار. لكن سرعان ما أطلق هادبي النار على بكر وقتله.

حين علم الرجال لاحقاً هوية الشخص الذي قتلوه، فتّشوا المنزل وجمعوا الحواسيب وجوازات السفر وبطاقات وحدة هوية المشترك للهواتف الخلوية وجهاز تحديد المواقع العالمي، لكن كانت الملفات أهمّ ما جمعوه. لكنهم لم يجدوأ القرآن في أي مكان.

قُتل حجّي بكر واحتجز الثوار المحليون زوجته. ثم قايضها الثوار بالرهائن الأتراك المحتجزين لدى «الدولة الإسلامية» بطلبٍ من أنقرة. في البداية، بقيت وثائق بكر القيّمة محفوظة في غرفة لأشهر عدة.

المستقبل

أعطت الانتكاسات التي واجهتها «الدولة الإسلامية» في الأشهر الأخيرة (الهزيمة في المعركة على المعقل الكردي كوباني، ثم خسارة مدينة تكريت العراقية) انطباعاً بأنّ نهاية «الدولة الإسلامية» أصبحت وشيكة. بدا وكأنها، وسط جنون العظمة الذي أصابها، تجاوزت قدراتها وخسرت غموضها وبدأت تتراجع تمهيداً لاختفائها قريباً. لكنّ هذا التفاؤل لا يزال مبكراً على الأرجح. ربما خسرت «الدولة الإسلامية» عدداً كبيراً من المقاتلين، لكنها تابعت التوسع في سورية.

صحيح أن تجارب المجاهدين لحكم منطقة جغرافية معينة فشلت في الماضي. لكن حصل ذلك بشكل أساسي بسبب قلة خبرتهم في إدارة المناطق أو حتى الدول. إنها نقطة الضعف التي لطالما أدركها الخبراء الاستراتيجيون في «الدولة الإسلامية» وقد تخلصوا منها. داخل «دولة الخلافة»، بنى المسؤولون النافذون نظاماً مستقراً ومرناً أكثر مما يبدو عليه من الخارج.

قد يكون أبو بكر البغدادي الزعيم المطلق رسمياً، لكن لم يتّضح بعد حجم النفوذ الذي يتمتع به. في مطلق الأحوال، حين تواصل مبعوث زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري مع «الدولة الإسلامية»، قرر التوجه إلى حجّي بكر وضباط آخرين في الاستخبارات وليس البغدادي. بعد ذلك، تذمر المبعوث من «هذه الثعابين المزيفة التي تخون معنى الجهاد الحقيقي».

داخل «الدولة الإسلامية»، ثمة هياكل لإنشاء الدول وإجراءات بيروقراطية وسلطات ناشئة. لكن ثمة بنية قيادية موازية أيضاً: وحدات نخبوية إلى جانب القوات العادية؛ قادة إضافيون إلى جانب القائد العسكري الظاهري عمر الشيشاني؛ سماسرة السلطة الذين ينقلون أو يخفّضون رتبة الأمراء في المحافظات والبلدات أو إنهم قد يجعلونهم يختفون إذا رغبوا في ذلك. كقاعدة عامة، لا يتم اتخاذ القرارات في مجالس الشورى، وتحديداً أعلى هيئة لصنع القرار. بل يتخذها «أهل الحل والعقد» (جماعة سرية اسمها مستوحى من الإسلام في العصور الوسطى).

تستطيع «الدولة الإسلامية»  التعرّف على جميع أنواع الثورات الداخلية وقمعها. في الوقت نفسه، تكون بنية المراقبة المشددة مفيدة أيضاً لاستغلال أفرادها مالياً.

ربما دمّرت الضربات الجوية التي أطلقها التحالف بقيادة الولايات المتحدة آبار ومصافي النفط. لكنّ أحداً لا يمنع السلطات المالية في «دولة الخلافة« من سحب المال من ملايين الناس الذين يعيشون في مناطق تحت سيطرة «الدولة الإسلامية»، ويتمّ ذلك من خلال فرض ضرائب ورسوم جديدة أو بكل بساطة من خلال مصادرة الأملاك. في النهاية، تعرف «الدولة الإسلامية» كل شيء بفضل جواسيسها والبيانات التي سرقتها من البنوك ومكاتب تسجيل الأراضي ومكاتب الصرافة.

بما أن تركيز الغرب يصبّ في المقام الأول على احتمال وقوع اعتداءات إرهابية، تمّ الاستخفاف بسيناريو مختلف: اقتراب اندلاع حرب إسلامية داخلية بين الشيعة والسُّنة. سيسمح هذا الصراع بتحويل «الدولة الإسلامية»من منظمة إرهابية مكروهة إلى قوة مركزية.

اليوم، تتبع الجبهات في سورية والعراق واليمن هذا الخط الطائفي، إذ يقاتل الأفغان الشيعة الأفغان السُّنة في سورية وتستفيد «الدولة الإسلامية» في العراق من همجية الميليشيات الشيعية الوحشية. إذا استمر هذا الصراع الإسلامي القديم بالتصاعد، قد يمتد إلى دول مختلطة طائفياً مثل المملكة العربية السعودية والكويت والبحرين ولبنان.

في هذه الحالة، قد تتحول الحملة الترويجية التي تقودها «الدولة الإسلامية» بشأن اقتراب النهاية الكارثية إلى حقيقة. إذا استمر الوضع القائم، يمكن أن تنشأ دكتاتورية استبدادية باسم الله.

وثائق

 تابعت «دولة» حجّي بكر العمل من دون مؤسسها. تأكّد حجم الدقة في تنفيذ خططه، بكامل تفاصيلها، عند اكتشاف ملف آخر. حين أُجبرت «الدولة الإسلامية» على التخلي سريعاً عن مقرها في حلب في يناير 2014، حاولت حرق أرشيفها لكنها واجهت مشكلة تشبه تلك التي واجهتها الشرطة السرية في ألمانيا الشرقية قبل 25 سنة: كانت الملفات كثيرة أكثر من اللزوم.

من خلال تحليل مئات الصفحات من الوثائق، تم الكشف عن نظام بالغ التعقيد وهو يشمل خططاً للتسلل ومراقبة مختلف الجماعات، بما في ذلك عناصر «الدولة الإسلامية». احتفظ الناشطون الجهاديون بلوائح طويلة تعدّد المخبرين الذين عيّنوهم في ألوية الثوار وميليشيات النظام. حتى إنها ذكرت الثوار الذين كانوا يتجسسون لصالح جهاز استخبارات الأسد.

أرادت «الدولة الإسلامية» معرفة كل شيء، لكنها أرادت في الوقت نفسه أن تخدع الجميع بشأن أهدافها الحقيقية. يعرض تقرير متعدد الصفحات مثلاً جميع الحجج التي يمكن أن تستعملها «الدولة الإسلامية» لتبرير الاستيلاء على أكبر مطحنة للدقيق في شمال سورية. يشمل حججاً مثل تُهَم الاختلاس فضلاً عن السلوك المشين للعاملين في المطحنة. كان يجب إبقاء الحقيقة خفيّة، أي ضرورة مصادرة جميع المنشآت المهمة استراتيجياً، مثل المخابز الصناعية وصوامع الغلال ومولّدات الكهرباء والمعدات التي يتم إرسالها إلى الرقة، عاصمة دولة الخلافة غير الرسمية.

تحالفات متبدّلة

خلال الأشهر الأولى من عام 2014، بدأ إرث آخر من حجّي بكر يلعب دوراً حاسماً: المعارف التي طورها طوال عشر سنوات داخل أجهزة الاستخبارات التابعة للأسد.

في عام 2003، شعر النظام في دمشق بالذعر لأن الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الإبن، بعد انتصاره على صدام حسين، طلب من قواته متابعة مسارها نحو سورية للإطاحة بالأسد أيضاً. خلال السنوات اللاحقة، نظّم مسؤولون في الاستخبارات السورية عملية لنقل آلاف المتطرفين من ليبيا والمملكة العربية السعودية وتونس إلى «القاعدة في العراق». دخل 90% من الانتحاريين إلى العراق عن طريق سورية. هكذا تطورت علاقة غريبة بين الجنرالات السوريين والمجاهدين الدوليين وضباط عراقيين سابقين كانوا موالين لصدام حسين، فتشكّل خليط من ألدّ الأعداء وكان عناصره يتقابلون بشكل متكرر في غرب دمشق.

في تلك الفترة، كان الهدف الأولي يقضي بتحويل حياة الأميركيين في العراق إلى جحيم حقيقي. بعد عشر سنوات، كان لبشار الأسد دافع مختلف لبث حياة جديدة في ذلك التحالف: لقد أراد أن يقنع العالم بأنه أهون الشرور. كان الإرهاب الإسلامي أهم من أن يبقى بيد الإرهابيين، وكان وضع الأسد ليتحسن كلما زاد ذلك الإرهاب فظاعة. اتّسمت علاقة النظام مع «الدولة الإسلامية» (مثلما كانت علاقته مع التنظيمات التي سبقتها قبل عقد من الزمن) ببراغماتية تكتيكية بالكامل.

بعد أن غزت «الدولة الإسلامية» الموصل وسيطرت على مخزون الأسلحة العملاق هناك، شعر المجاهدون بأنهم يتمتعون بقوة كافية لمهاجمة مساعديهم السابقين. اجتاح المقاتلون التابعون لتنظيم «الدولة الإسلامية» «الشعبة 17» وذبحوا الجنود بعد أن كانوا يحمونهم منذ فترة قصيرة.

* كريستوف رويتر | Christoph Reuter

back to top