حمراء كالدم

نشر في 18-04-2015 | 00:01
آخر تحديث 18-04-2015 | 00:01
No Image Caption
في يوم من أيام الشتاء الباردة، وبينما أخذت ندف الثلج تتساقط كالريش الأبيض من السماء، جلست إحدى الملكات تخيط بجانب نافذتها التي يحيط بها إطار من خشب الأبنوس الأسود البديع.

وبينما هي تخيط وتتأمل هطول الثلج، شكت الإبرة إصبعها، فنـزفت منها ثلاث قطرات من الدم وسقطت على الثلج. تأملت الملكة جمال اللون الأحمر على اللون الأبيض، وفكرت بينها وبين نفسها قائلة:

«ليتني أنجب طفلة بيضاء كالثلج، وحمراء كالدم، وسوداء الشعر كخشب الأبنوس الحالك الذي صنع منه إطار هذه النافذة}.

الأحد 28 فبراير

غطى بساط أبيض ناصع متلألئ كل المكان حولها. فقبل خمس عشرة دقيقة، تشكلت على الثلج القديم طبقة جديدة نظيفة من رقاقات الثلج. قبل خمس عشرة دقيقة فقط، بدا كل شيء في نظرها ممكناً وقابلاً للتحقق. فالعالم جميل ومشرق، والمستقبل يلمع في الأفق البعيد بضوء ساطع ومفعم بالسلام والحرية؛ كل ذلك وجدته يستحق المراهنة عليه بكل ما تملك؛ حتى الورقة الأخيرة.

قبل خمس عشرة دقيقة، تناثرت ندف الثلج الزغبة كالريش، وانتشرت على الثلج القديم، ثم اختفت فجأة كما أتت وتبعتها خيوط أشعة الشمس متسللة من بين الغيوم. لم يأت أي يوم من أيام الشتاء بهذا الجمال والروعة.

أما الآن، فقد شهدت كل لحظة تمر امتزاجاً أكبر بين الأبيض والأحمر الذي أخذ ينتشر مؤكداً على وجوده القاني، ويتسرب من بين قطع الثلج البلّورية ويخضبها بلونه القرمزي. امتد اللون الأحمر الصارخ أكثر فأكثر حتى بات يشبه بقعة قرمزية ساطعة تلطخ الثلج.

حدقت ناتاليا سميرنوفا بعينيها البنيتين بالثلج الملطخ بالبقع الحمراء من دون أن ترى شيئاً أو تظن شيئاً أو تتمنى شيئاً أو تخشى شيئاً.

قبل عشر دقائق فقط، امتلأت نفس ناتاليا بالآمال والمخاوف أكثر من أي وقت مضى في حياتها؛ وهي تدس تلك الأوراق النقدية بيدين مرتجفتين داخل حقيبتها الباهظة، وترهف سمعها لأي صوت حفيف يصدر من الخارج؛ مهما كان خافتاً. حاولت أن تهدئ أعصابها وتطمئن نفسها بأن كل شيء على ما يرام. فقد وضعت خطة محكمة لهروبها، ولكنها أدركت في الوقت ذاته أنه لا توجد خطة مثالية وخالية من الأخطاء. فإن صرحاً مبنياً بكل دقة وعناية على مدى شهور طويلة من الممكن أن تنهار أركانه لأبسط هزة تُلم به.

قبل ذلك، وضعت في حقيبتها جواز سفر وتذكرة طائرة إلى موسكو. ولم تأخذ معها أي شيء آخر. فقد وعدها شقيقها أن ينتظرها في مطار موسكو ومعه سيارة مستأجرة مستعدة لنقلها مسافة مئات الكيلومترات إلى بيت ريفي لا يعرفه سوى عدد قليل من الناس، وهناك ستجد أمها بانتظارها برفقة ابنتها أولغا ذات السنوات الثلاث، تلك الابنة التي لم ترها منذ أكثر من سنة. ترى، هل ستتذكرها طفلتها الصغيرة؟ ولكن، لا يهم. فاختباؤها لشهر أو شهرين في الريف سيمنحهما متسعاً من الوقت للتعرف إلى بعضهما بعضاً من جديد؛ إلى أن تصبحا على يقين من أنهما بأمان بعد أن ينسى العالم كل ما يتعلق بامرأة اسمها ناتاليا سميرنوفا.

أخمدت ناتاليا ذلك الصوت اللجوج الذي راح يلح في رأسها ويردّد أن أحداً لن ينساها على الإطلاق، وأنهم لن يسمحوا لها بالاختفاء بهذه البساطة. وأكدت لنفسها أنها ليست على هذا القدر من الأهمية، وأن بوسعهم استبدالها بغيرها عندما تنشأ الحاجة لذلك، كما أن بذل الجهد في اقتفاء أثرها سيزعجهم بلا أي طائل.

في هذا النوع من المهن، يختفي بعض الناس بين الحين والآخر وبحوزتهم مبالغ من المال. فهذا الأمر مجرد إحدى مخاطر ممارسة هذه المهنة، أي خسارة لا يمكن تفاديها مثل التخلص من حبة فاكهة فاسدة في أحد محلات “السوبر ماركت}.

لم تعدّ ناتاليا المبلغ المالي، بل قامت بمجرد حشو أكبر قدر منه في حقيبتها، فتجعدت بعض الأوراق النقدية، ولكن ذلك لا يهم. فورقة مجعدة من فئة خمسمائة يورو تساوي القيمة نفسها التي تساويها ورقة جديدة غير مجعدة. فلا يزال بإمكان المرء أن يشتري بها مؤونة ثلاثة أشهر من الطعام أو ربما أربعة أشهر إن توخى المزيد من الحرص، أو أن يدفعها ثمناً لقبول أحدهم التزام الصمت. بالنسبة للكثير من الناس، إن ورقة بخمسمائة يورو تساوي ثمن كتمان أحد الأسرار.

أما الآن، فقد تمددت ناتاليا سميرنوفا البالغة من العمر عشرين عاماً على بطنها، وخدها يلامس الثلج البارد من دون أن تشعر بلسع الجليد على بشرتها، أو ببرودة خمس وعشرين درجة تحت الصفر على شحمة أذنها العارية.

الأرض غريبة وربيعها بارد...

ناتاليا، أنت تتجمدين.

غنى ذلك الرجل لها هذه الأغنية بصوته الأجش بنبرة نشاز، فلم تعجب الأغنية ناتاليا. فنتاليا المذكورة فيها من أوكرانيا وهي من روسيا. ومع ذلك، فقد أحبت غناء ذلك الرجل الذي راح يترنم بكلمات الأغنية وهو يربت على شعرها. حاولت ألا تصغي إلى الكلمات، ولحسن الحظ، وجدت ذلك سهلاً. فرغم أنها تعلمت بعض اللغة الفنلندية وباتت تفهم أكثر مما تستطيع أن تتحدث، غير أنها عندما توقفت عن بذل أي مجهود للفهم وسمحت لعقلها بالاسترخاء، تدفقت الكلمات الأجنبية خلف بعضها، وفقدت معناها، وتحولت إلى مجرد مجموعات من الأصوات التي تخرج من فم الرجل وهو يترنم بها بجانب أذن ناتاليا.

قبل خمس دقائق، فكرت ناتاليا بذلك الرجل ويديه الخرقاوين بعض الشيء. ترى، هل سيفتقدها؟ ربما سيفتقدها قليلاً؛ قليلاً فقط. ولكن ليس بالقدر الكافي؛ لأنه لم يحبّها حباً فعلياً. ولو أنه أحبها، لحل مشاكلها نيابة عنها كما وعدها مرات عديدة. والآن، توجب على ناتاليا أن تحل مشاكلها بنفسها.

قبل دقيقتين، أغلقت ناتاليا حقيبتها المنتفخة والمليئة بالأوراق النقدية. فأصلحت هندامها بسرعة، ثم ألقت نظرة خاطفة على نفسها في المرآة في القاعة الأمامية: شعر أشقر باهت، وعينان بنيتان، وحاجبان رقيقان، وشفتان حمراوان لامعتان. بدت شاحبة وتحيط بعينيها هالتان سوداوان بسبب السهر ليلاً. همت بالمغادرة، وشعرت في فمها بطعم الحرية والخوف، ولكل منهما طعم لاذع.

قبل دقيقتين، نظرت إلى انعكاس صورة عينيها ورفعت ذقنها. لقد أدركت أن هذه هي فرصتها للهرب، وقررت أن تستغلها.

سمعت ناتاليا المفتاح يدور في القفل، فتسمرت في مكانها وأرهفت السمع. وسمعت وقع خطوات قليلة، ثم وقع خطوات شخص ثانٍ ثم ثالث. إنهم الثلاثي! نعم، الثلاثي قادمون عبر الباب.

كل ما عليها فعله الآن هو الهرب.

قبل دقيقة واحدة، أسرعت عبر المطبخ متجهة نحو الشرفة. وعبثت بالقفل بارتباك محاولة أن تفتحه. وأخذت يداها ترتجفان بشدة لدرجة أنها لم تستطع أن تفتح الباب. وعندئذ، انفتح الباب بأعجوبة ما، فأسرعت ناتاليا عبر الشرفة المغطاة بطبقة من الثلج متجهة إلى الحديقة. وغاصت جزمتها الجلدية داخل ركام الثلج، ولكنها حثت الخطى من دون أن تنظر إلى الوراء. لم تسمع أي شيء، ففكرت للحظة أنها قادرة على النجاة بجلدها، وأنها تستطيع أن تهرب من مصيرها، وأنها على وشك أن تفوز أخيراً.

قبل ثلاثين ثانية، أطلق مسدس مزوّد بكاتم صوت طلقة مكتومة، فاخترقت ظهر معطف ناتاليا وجلدها، وبالكاد أخطأت عمودها الفقري ومزقت أعضاءها الداخلية وأخيراً مقبض حقيبتها الجلدية الباهظة التي تشبثت بها أمام صدرها. فسقطت منكبّة على وجهها فوق الثلج النقي الذي لم يمسه أحد بعد.

والآن، تابعت بركة الدم الحمراء تحت ناتاليا تمددها في كل الاتجاهات صابغة الثلج الأبيض من حولها باللون الأحمر. ابتلع اللون الأحمر الدافئ ما حوله بشراهة، ولكنه بدأ يبرد بمرور كل دقيقة. اقترب وقع خطوات بطيئة وثقيلة من جثة ناتاليا سميرنوفا الممددة على الثلج، ولكنها لم تسمع شيئاً.

الاثنين 29 فبراير

في وقت مبكر من الصباح تدافع ثلاثة أشخاص عند أحد الأبواب، وكل واحد منهم يريد أن يكون أول من يدخل.

«هيا، أفسح لي المجال لكي أتمكن من إدخال المفتاح في الثقب}.

«لا يمكنك ذلك، أيها الأخرق}.

تردّد صوت ضحك وهمس والمزيد من الضحك.

«توقفا عن الضجيج! ها نحن ذا. نعم، نجحت. والآن، أديره ببطء... ببطء شديد. هذا مدهش. أعني، هل يمكن التصديق أنه بوسع المرء أن يفتح باباً بمجرد إدارة مفتاح؟ كيف توصل أحدهم إلى ابتكار نظام مدهش كهذا؟ إن أردتما رأيي، فهذه هي الأعجوبة الثالثة عشرة من عجائب الدنيا}.

«هيا، اخرس وافتح الباب}.

دفع الثلاثة الباب وفتحوه على مصراعيه، ثم ولجوا منه جميعاً متزاحمين حتى كاد أحدهم يسقط على الأرض. بدأ آخر يطلق صيحات عالية ثم يضحك بسبب كيفية تردد صدى الصيحات في الغرفة الخالية. وحك الثالث رأسه، ثم بدأ يدخل رمز جهاز التنبيه من اللصوص رقماً تلو آخر.

«واحد... سبعة... ثلاثة... اثنان. يا للروعة! لقد نجحت. وهذه هي الأعجوبة الرابعة عشرة من عجائب الدنيا، أي أن تتمكن من تعطيل منبه بمجرد ضغط بعض الأزرار. رائع! الآن، عرفت ما سأصبح عليه عندما أكبر. نعم، سأصبح حداد أقفال. هذه مهنة جيدة، أليست كذلك؟ أي أن أقوم بتصنيع الأقفال، هذا ما أعنيه حقاً، أو ربما أصبح حارساً}.

لم يعد الاثنان الآخران يصغيان إليه بعد الآن، وبدلاً من ذلك راحا يركضان على طول الممرات الفارغة في الظلام وهما يصرخان ويضحكان ضحاً مكبوتاً. فانطلق الثالث خلفهما، وتردد صدى ضحكهم بين الجدران نحو الدرج.

«نحن الأبطال}.

«ونحن فاحشو الثراء}.

ارتطموا ببعضهم عن قصد، وسقطوا على الأرض وهم يتدحرجون ويضحكون، وتمددوا فاردين أذرعهم وسيقانهم على الأرض المكسوة بالسيراميك، ثم تذكر أحدهم شيئاً ما}.

«إننا أغنياء بالفعل، ولكن النقود ملوثة}.

«نعم، إنها نقود قذرة قذرة قذرة}.

«يفترض بنا الدخول إلى غرفة التحميض لتنظيفها، لهذا السبب أتينا إلى هنا}.

ليتهم وحسب استطاعوا أن يتذكروا ما حدث. فقد كانت ذاكرة كل منهم أشبه بسديم مبهم تلوح فيه ومضات من أحداث فردية تلمع في أذهانهم وتفصل بينها فواصل عشوائية: شخص ما يتقيأ، وآخرون يغطسون في إحدى البحيرات، وباب مقفل لا ينبغي أن يكون مقفلاً، وزهرية كريستالية مكسورة جرحت قدم أحدهم، ودماء تنـزف، وموسيقى صاخبة تصدح بصوت مرتفع: عفواً، لقد فعلتها مرة أخرى! من يدري لماذا، ولكنني لعبت بقلبك وخسرت في اللعبة، وفتاة تبكي بكاء مريراً وتقول إنها لا تريد مساعدة من أحد، وأرضيات زلقة من الشراب المنسكب عليها تفوح منها رائحة حادة وحلوة في آن معاً.

رفضت الذكريات في أذهانهم أن تتخذ أي ترتيب منطقي. من أحضر الكيس؟ متى أحضره؟ من فتحه ووضع يده فيه ثم نـزعها بسرعة ولعق إصبعه؟ متى فهموا ما يجري؟

يجب عليهم أن يأخذوا شيئاً بسرعة الآن.

«هل بقي لديكم شيء، يا شباب؟}.

«لدي هذه}.

ثلاثة حبوب، واحدة لكل منهم. وضع كل منهم واحدة على لسانه وتركها تذوب ببطء.

«هذا ممتع جداً. نعم، إنه ممتع جداً}.

في غرفة التحميض ساد الظلام. فأشعل أحدهم الضوء.

«ليكن هناك ضوء}.

كان الكيس على الطاولة مفتوحاً على وسعه.

«يا إلهي! رائحته كريهة}.

«إن رائحة المال ليست كريهة. المال لا تفوح منه رائحة كريهة أبداً}.

«هذه كومة كبيرة من المال ذي الرائحة الكريهة}.

«وسوف نتقاسمه نحن الثلاثة بالتساوي}.

«هذا مقزز جداً! لم يحدث لي شيء من هذا القبيل في حياتي. أحبكما، أحب العالم كله»

back to top