دراما طشقند الشكسبيرية فضيحة تهز عائلة أوزبكستان الحاكمة

نشر في 15-04-2015
آخر تحديث 15-04-2015 | 00:01
حليف ألمانيا الأقرب في وسط آسيا حاكم مستبد عنيف. حكم إسلام كريموف أوزبكستان بقبضة من حديد طوال ربع قرن. لكن حبكة شكسبيرية داخل عائلته الخاصة تثير اليوم الكثير من الأسئلة حول مَن سيخلف هذا القائد المسن الذي يبلغ من العمر 77 سنة.

 التفاصيل من «شبيغل}.

يقع استوديو فياشيسلاف أوخونوف الفني السري في جزء متداعٍ من طشقند، عاصمة أوزبكستان. ترتفع مجموعة بائسة من الأبنية الإسمنتية التي تعود إلى الحقبة السوفياتية فوق الوحول والحفر، وترى الطلاء المقشر الممتد إلى ما لانهاية. قبل أن يفتح الفنان الباب الحديد، يتلفت بحذر إلى اليمين وإلى اليسار ليرى إن كان أحد رجال أجهزة الاستخبارات يلاحقه. لكن هذه المرة، لم يلحظ أحداً.

قال أوخونوف بلحيته الرمادية اللماعة: {آسف لأن الارضية هنا غير مستوية. يتقطر عليها الماء من الأعلى}. ثم هز كتفيه، كما يفعل دوماً، وتسللت إلى ثغره ابتسامة تحمل مزيجاً من السخرية والاستسلام. تسود الفوضى الخلاقة مشغله. تنتشر فيه لوحات ومنحوتات كبيرة تحمل رموزاً مسلمة ومسيحية، وعلى الجدار يبرز قرنا غزال كبيران. هذا هو عالم أهم فناني أوبكستان، شخصية مُنعت من السفر إلى الخارج بسبب انتقادها النظام.

يشبه أوخونوف (66 سنة) آي ويوي في وسط آسيا. فقد عُرضت أعماله في مركز بومبيدو في باريس وفي معرض Documenta الفني الدولي الشهير في كاسل، فضلا عن معرض Venice Biennale. ومن بين أشهر أعماله مجموعة {قفص للقائد}، التي تشمل 250 تمثالاً للينين مصنوعة من البوليستيرين ومحشوة في علبة ضيقة مغطاة بقضبان شبيهة بحديد السجن.

عند سؤاله عما إذا كان يعتبر نفسه منشقاً سياسياً، تردد أوخونوف ومن ثم أجاب: «أجد نفسي دوماً في حالة تناقض مع النظام المستبد. إسلام كريموف رجل مستبد. يزرع الخوف في قلوبنا مع مجموعته المافيوية. ولا تنفك المسائل تزداد سوءاً معه». كذلك توقع أوخونوف أن «ما يُدعى اقتراعاً» يوم الأحد الماضي لم يكن إلا «مهزلة». ففي النهاية، حصد كريموف 90% من الدعم في انتخابات أعلن المراقبون أنها قصرت عن بلوغ المعايير الدولية.

قبضة من حديد

أهلاً بكم إلى أوزبكستان، دولة شهدت في الأشهر الأخيرة دراما تخال أن شكسبير انتهى لتوه من كتابتها. أما الممثلون الرئيسيون، فهم حاكم مستبد يمسك ببلده بقبضة من حديد منذ أكثر من ربع قرن، ابنته الجميلة التي تعد العدة لتخلفه، وزوجته التي تآمرت مع رئيس جهاز الاستخبارات في الدولة ضد هذه الخطة. تدور هذه الدراما حول السلطة، مليارات الدولارات، والفساد. كذلك ثمة احتمال أن نشهد إجراءات قانونية قد ترسل ابنته المفضلة إلى السجن لفترة طويلة. ويؤدي الفنان أوخونوف دوراً مسانداً صغيراً إنما مهماً: المراقب الناقد.

تُعتبر أوزبكستان ثاني أهم دولة في وسط آسيا بعد كازاخستان. يضم هذا البلد عدداً من المواقع الأثرية المدرجة على لائحة اليونسكو للتراث العالمي، بما فيها مدن طريق الحرير سمرقند وبخارى وخيوة، التي تتصل معاً كما لو أنها عقد من اللؤلؤ، بقببها الزرقاء ومساجدها المغطاة بالفسيفساء وخانات القوافل. كذلك تتمتع أوزبكستان بثروات كثيرة مع احتياطها الكبير من اليورانيوم والغاز الطبيعي، فضلاً عن مناجم الذهب. بالإضافة إلى ذلك، تشكل أحد أكبر مصدري القطن في العالم. يضم هذا البلد نحو 30 مليون نسمة، فيما تفوق مساحته مساحة ألمانيا بنحو الثلث. كذلك تشكل أوزبكستان الخط الفاصل في الحرب الباردة الجديدة، مع سعي روسيا والصين والولايات المتحدة إلى التقرب منها.

انتهاكات فاضحة لحقوق الإنسان

لكن المنظمات الدولية المستقلة، مثل منظمة {مراقبة حقوق الإنسان}، اتهمت القيادة في طشقند بارتكاب انتهاكات فاضحة لحقوق الإنسان. تذكر هذه المنظمات أن أياً من أشكال المعارضة يتعرض للقمع، مضيفة أن عمليات التعذيب (تشمل نزع الأظفار، صب الماء الحارق على أجسام السجناء العارية والاغتصاب) تتحول إلى عرف متبع. نتيجة لذلك تُدرج منظمة {الشفافية الدولية} أوزبكستان بين الدول العشر الأكثر فساداً في العالم. رغم كل ذلك، حظي كريموف باستقبال كبير في بروكسل عام 2011 من رئيس المفوضية الأوروبية خوسيه مانويل باروسو، كذلك فتح حلف شمال الأطلسي مكتب تنسيق في طشقند.

أعربت ألمانيا، على وجه الخصوص، عن تفهم كبير للنظام الأوزبكي. فقد ذللت برلين العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي عام 2005 عقب مجزرة أنديجان التي أدت إلى مقتل أكثر من 500 مدني. فقد رُفعت العقوبات منذ ذلك الحين. كذلك سمحت الحكومة الألمانية للضباط الأوزبكيين بتلقي التدريب في ألمانيا وحولت المال بالملايين كل سنة إلى أوزبكستان لقاء استخدامها قاعدة في مدينة ترمذ تحتاج إليها لنشر الجنود الألمان في أفغانستان وسحبهم في الآونة الأخيرة. وربما تأمل برلين أيضاً أن تستفيد ذات يوم من خطوط أنابيب الغاز الطبيعي المقرر مدها في وسط آسيا.

هاجم الفنان أوخونوف مراراً النظام في مدونته، مقالاته، وأعماله الفنية. ولكن بخلاف الصين، ما من أمر يشبه وإن من بعيد المجتمع المدني في أوزبكستان، ما يجعل أوخونوف أقرب إلى مقاتل ويحارب في معركة ضد فساد النظام. يوضح أوخونوف: {حضرت يوم أمس حفل افتتاح فني، وحاول الجميع الابتعاد عني. لم يتجرأ أحد على مصافحة يدي}.

كوريا الشمالية

تبدو أوزبكستان اليوم أقرب إلى كوريا الشمالية منها إلى الصين. فقلما تبدأ نشرة إخبارية بخبر غير قص إسلام كريموف شريط منشأة جديدة ما في مكان ما. وتدفعك وسائل الإعلام التي تتحكم فيها الدولة إلى الاعتقاد بأن أوزبكستان بلد يسوده التقدم ورعاياه سعداء. علاوة على ذلك، ظل كل أفراد عائلة الرئيس، بمن فيهم ابنتاه، لفترة طويلة بعيدين عن أي انتقاد، على غرار القائد الأوزبكي نفسه. ولكن يبدو أن هذه الأيام قد ولت.

حتى خلال العهد السوفياتي، أعرب إسلام كريموف (77 سنة) عن مهارة في التخلص من خصومه في الحزب الشيوعي. وفي عام 1989، أصبح رئيس الحزب الأوزبكي. وبعدما نال بلده استقلاله عن الاتحاد السوفياتي عام 1991 وانتخب رئيساً، اشتكى كريموف من أن الاتحاد السوفياتي استغل أوزبكستان {كمستعمرة مواد خام}، واتهم أيضاً موسكو بالقضاء على التعددية السياسية. لكنه عمد، بعد ذلك، إلى حظر كل أحزاب المعارضة وأجرى استفتاء ليعزز سلطته. فحظي بنسبة شبه مستحيلة من الأصوات وصلت إلى 99.6%.

عندما شنَّ الإرهابيون الإسلاميون سلسلة من التفجيرات عام 2004، لم يكتفِ كريموف بملاحقة المتطرفين الذين نفذوا هذه الاعتداءات، بل جعل رجال الشرطة يستخدمون ذخيرة حية لإطلاق النار على المتظاهرين المشاركين في مسيرات مناهضة للحكومة في تلك المرحلة، كذلك ألقى آلاف المسلمين في السجن. لكن الصيحات المنددة في الغرب لا تزال خافتة. فعلى غرار أوروبا، اعتبرت الولايات المتحدة أوزبكستان، في المقام الأول، حليفاً في حرب ضد تنظيم القاعدة وحركة طالبان في أفغانستان. وعندما عمد كريموف علانية إلى معارضة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في شهر يونيو 2012، وسحب أوزبكستان من تحالف عسكري تتحكم فيه روسيا، كان واثقاً من أن هذه الخطوة ستمنحه حظوة في الغرب.

مرطبان مليء بالعناكب

على نحو مماثل، برهن كريموف أنه خبير في التلاعب بالعائلات النافذة في أوزبكستان للتخلص منها. يصف المحلل السياسي أليشر إلخاموف، الذي نفي مع عدد كبير من الأوزبيك الآخرين، نظام سلطة كريموف على النحو التالي: {إن تخيلت المعركة بين مختلف العشائر في البلد على أنها مرطبان مليء بالعناكب، تكون قد فهمت فكرة نموذج السلطة هذا. يضمن كريموف باستمرار، علماً أنه القائد فضلاً عن أدائه دور القاضي ومروض الحيوانات، أن يفرغ هذا المرطبان ويُملأ بعناكب جديدة}.

لطالما شكلت عائلة كريموف الخاصة عنصراً ثابتاً في هذه اللعبة. فقد قضت الرسالة التي اعتاد القصر الرئاسي إطلاقها باستمرار بأن أحد أفراد عائلته سيخلفه. وكان الأكثر حظوة بينهم ابنته الكبرى الجميلة والذكية.

درست جلنارة كريموفا (42 سنة) في طشقند، ومن ثم في جامعة هارفارد. وعملت في سفارة أوزبكستان في موسكو في سن مبكرة. علاوة على ذلك، قيل إنها اشترت أسهماً في شركات النفط وتصدير القطن المربحة. وبتلقيها الدعم من أبيها، ستكون كل الأبواب مفتوحة أمامها.

خطوط الموضة والبوب

لكن شغفها الأساسي يتمحور حول الموضة وموسيقى البوب، حتى إنها أسست شركة ملابس ومجوهرات خاصة بها تحت اسم {غولي} انطلاقاً من لقبها، وعرضت مجموعتها في أسبوع الموضة في نيويورك عام 2011. علاوة على ذلك، سجلت أغنية Bésame Mucho مع خوليو إيغليسياس وشاركت جيرار ديبارديو في أغنية حب. وفي عملية تصوير معقدة لأغنية ديسكو، أحضرت خبيراً خاصاً من الخارج ليؤدي المجازفات في المشاهد التي يظهر فيها وهو يتسلق أسوار بخارى التي تعود إلى القرون الوسطى. وهكذا علق هو وجلنارة الحياة في هذه المدينة طوال يوم كامل. وتشير إحدى البرقيات الدبلوماسية الأميركية التي نشرتها ويكيليكس عام 2011 إلى أنها {أكثر امرأة مكروهة} في كل أوزبكستان.

في تلك الفترة، كتب معارض النظام أوخونوف نقداً لاذعاً عن جنون العظمة والترف المفرط. يقول إن عنوان مقاله كان {غولي تحب غولي}. نشره أوخونوف على أحد المواقع الإلكترونية، إلا أنه لم يبقَ على شبكة الإنترنت إلا فترة وجيزة قبل أن تزيله الرقابة.

حدثت، بعد ذلك، قطيعة بين جلنارة وأبيها. ففي مارس 2014، أعلن المدعوون العامون الفدراليون السويسريون أنهم يجرون تحقيقات بشأنها لاشتباههم {بتورطها في عملية تبييض أموال}. وأطلقت تحقيقات مماثلة في اسكندينافيا، مع أنها أنكرت أي صلة لها بعمليات تحويل الأموال المشبوهة.

ظل والد جلنارة صامتاً بشأن التهم الموجهة ضد ابنته. لكن أختها الصغرى تحدثت علانية ضدها. فقد أعلنت لولا كريموفا التي تحتل منصب سفيرة أوزبكستان إلى اليونسكو وتسكن في منزل ثمنه 40 مليون دولار في جنيف: {ما عدت أعتبرها جزءاً من العائلة}. واتهمت أختها بالفساد وبضعف الشخصية أيضاً.

تغريدة

لكن جلنارة سارعت إلى الرد، مغردةً على تويتر: {لا أحد منا نظيفاً}. وتابعت أن أختها تتعاطى الكوكاين وأنها تتآمر ضدها. كذلك اتهمت لولا بأنها وقعت ضحية السحر الأسود، وأنها تحيك الخطط السرية مع أمها وتخفي كميات طائلة من الدولارات في مخبأ سري تحت حوض للاستحمام في القصر الرئاسي. إلا أن جلنارة كريموفا وُضعت تحت الإقامة الجبرية منذ شهر فبراير 2014.

تدعي أنها مُنعت هي وابنتها البالغة من العمر 16 سنة من الاقتراب من الرئيس. وتشتكي: {حاول رجال الشرطة كسر أصابعي وأعاني مشقة كبيرة}. كذلك أكدت أن السلطات رفضت أن تقدم لها أي علاج طبي أو نفسي. تقول: {يعاملوننا أسوأ من الكلاب}. أما الإشارات الأخيرة إلى أن جلنارة فما زالت على قيد الحياة، فهي مجموعة من الصور بدت فيها غير مرتبة، بخلاف عادتها، وكانت محاطة بحراس يرتدون بزات رسمية. وفي الخريف الماضي، أعلن مكتب المدعي العام أنه سيفتح تحقيقاً بحق جلنارة لاشتباهه بارتكابها أعمال فساد.

ما الذي يعنيه هذا السقوط المدوي لنظام كريموف. ولمَ التزمت وسائل الإعلام الرسمية في أوزبكستان الصمت حيال الفضيحة المحيطة بابنة الرئيس؟ وهل عملية المساءلة هذه مجرد مهزلة أو جهد لترك انطباع جيد لدى المجتمع الدولي؟

يوضح معارض النظام أوخونوف أن هذا الحاكم المستبد لا يملك، في رأيه، ما يخشاه {غير ماضيه الخاص}.

خلال جولة أخيرة في طشقند ليلاً، رأينا قلّة من الناس على الطرقات التي بناها كريموف في المدينة، فضلاً عن الحراس المسلحين الواقفين أمام أبنية جديدة ضخمة بناها. فعلى غرار حكام مستبدين كثر، يعمل كريموف على نشر هندسته الخاصة. يريد أن يخلف وراءه عالماً جديداً يشكل إرثه. ولكن كما هي الحال مع سلالة كيم في كوريا الشمالية، لا ترى أمامك إلا جنون العظمة المطبق.

تشمل أعمال أوخونوف الأخيرة شريط فيديو يظهر فيه أناس يركضون بشكل متكرر ويصطدمون بجدار ويسقطون أرضاً قبل أن ينهضوا ويستديروا ويعيدوا الكرة ليسقطوا مجدداً. فما من مفر لليائسين في هذا العمل الفني، لذلك يدعوه {طريقاً مسدوداً}.

* إريك فولاث

back to top