مساعد طيَّار {جيرمان وينغز}... جنون الانتحار

نشر في 01-04-2015 | 00:02
آخر تحديث 01-04-2015 | 00:02
كانت الرحلة عادية، إلا أنها انتهت بكارثة. فيبدو أن مساعد طيار طائرة «جيرمان وينغز» تعمد إسقاط الرحلة 4U9525، مودياً بحياته وحياة 149 شخصاً آخرين. ولكن من المستبعد أن نعلم لمَ أقدم على ذلك.

لا شك في أن السؤال الملح في أعقاب هذه الكارثة لم يكن {لماذا؟}، بل ما إذا عانى ركاب رحلة جيرمان وينغز رقم 4U9525 في اللحظات الأخيرة من حياتهم. هل علموا أو حتى ارتابوا في أن سقوط طائرتهم الذي دام ثماني دقائق فوق جبال الألب لم يكن تصحيحاً عادياً للمسار بل كان جزءاً من خطة جهنمية لتنفيذ عملية قتل جماعي؟ هل راح الركاب يصرخون أو يصيحون،

أو يصلون؟ هل ساد الذعر متن الطائرة؟ ولمَ يقرر شخص فجأة أن ينتحر، قاتلاً معه 149 شخصاً آخر؟ وكيف استطاع شخص يحمل بذور جنون مماثل أن يصبح طياراً؟ لمَ تحوَّل أندرياس لوبيتز (27 سنة) من موتاباور، الذي يعمل في شركة الطيران هذه منذ سنة ونصف السنة، إلى أحد قتلة العالم الأكثر إجراماً خلال السنوات الأخيرة؟

قد يبدو من السخرية أن نقول إننا كنا سنتقبل هذه المأساة بسهولة أكبر على الأمد الطويل، لو كان سبب التحطم عطلاً تقنياً. {شبيغل} بحثت عن إجابات.

• يبدو أن أندرياس لوبيتز تسبب في مأساة سيبقى مصدرها الفعلي لغزاً محيراً. فلم يترك وراءه ما قد يمنحنا لمحة إضافية عن أفكاره. كان على ما يبدو رجلاً من دون أجندة، من دون دافع، ومن دون خطة. صحيح أن المحققين ورجال الشرطة الذين أمضوا ساعات في تفتيش منزله بدقة عثروا على ما يشير إلى إصابته بمرض نفسي، لكن التفاصيل بشأن ماهية هذا المرض لم تتضح بعد.

أخفى لوبيتز  ما يظهر مرضه عن {جيرمان وينغز}. وخلال عملية تفتيش شقته، عثر المحققون على {ملاحظة ممزقة عن مرضه الحالي} تحمل أيضاً تاريخ التحطم، حسبما ذكر المدعون العامون في دوسلدورف. عُثر أيضاً على وثائق {تشير إلى مرض حالي والعلاج الطبي المناسب له}. لكنهم لم يجدوا البتة إعلاناً يشير إلى تحمله مسؤولية هذه الجريمة.

استخدم لوبيتز السلاح عينه الذي استخدمه منفذو اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر. ولكن بخلافهم، ما كان يحمل أي رسالة كبيرة. لذلك يبدو أقرب إلى النرويجي المجنون أندرس بريفيك. ولكن بخلافه، لم يخلف وراءه رسالة مبهمة. ربما قتل لأنه نرجسي عدمي يعاني جنون العظمة فحسب.

كان لوبيتز بالتأكيد مساعد الطيار على متن طائر آيرباص 320 متوجهة من برشلونة إلى دوسلدورف. في قمرة القيادة مع لوبيتز كان قائد الطائرة باتريك سوندهايمر (34 سنة). كانت الطائرة تقل 144 راكباً وعدداً من أفراد الطاقم. كانت رحلة عادية لخطوط لوفتنزا الجوية، التي تملك جيرمان وينغز، وقد اعتادت طائراتها القيام بهذه الرحلة آلاف المرات، فضلاً عن أن هذه الخطوط الجوية التي تحمل العلم الألماني لم تتعرض لحادث منذ أكثر من 22 سنة. ولكن في الساعة العاشرة والدقيقة الحادية والثلاثين بالتحديد، بدأت الطائرة تفقد الارتفاع بمعدل ثابت بلغ ألف متر في الدقيقة، كما لو أنها تستعد لهبوط عادي. لكنها ما كانت متجهة إلى المدرج، بل نحو جبال الألب.

شعر مراقبو الحركة الجوية الفرنسيون، الذين كانوا يتتبعون الرحلة 4U955 على شاشاتهم، بالقلق في الحال. حاولوا الاتصال بالطاقم مستخدمين موجات راديوية عادية، إلا أنهم لم يتلقوا أي رد. فعملوا بعد ذلك على استخدام موجة الطوارئ 121.5 ميغاهرتز، التي يُفترض بالطائرات كافة مراقبتها طوال الوقت. ومرة أخرى لم يحصلوا على أي رد.

في الساعة العاشرة والدقيقة السادسة والثلاثين، قام مراقبو الحركة الجوية بمحاولة أخيرة ليواجَهوا بالصمت مجدداً. فبدأوا بتطبيق روتين جديد لحالات الطوارئ. انطلقت طائرة ميراج حربية بسرعة من قاعدتها في منطقة أورانج في فرنسا للتحقق من مشكلة طائرة الركاب الألمانية هذه ووُضعت مجموعات الدفاع المدني على الأرض في حالة تأهب. وفي الساعة العاشرة والدقيقة أربعين، اختفت طائرة {جيرمان وينغز} من نوع آيرباص عن شاشات الرادارات. وهكذا لقي 150 شخصاً حتفهم.

ما لم يُقل

من الطبيعي أن يبدأ الخبراء بمحاولة تخمين ما حدث في الحال بالاستناد إلى تحليل مسار الرحلة. فهل حاول الطيار خفض الارتفاع نتيجة خسارته الضغط داخل الطائرة، ما دفعه إلى اختيار ارتفاع أكثر أماناً؟ لكن التخمينات الأولى ركَّزت على احتمال حدوث خطأ تقني، أو ربما فقد الطيار وعيه.

لكن الوضع سرعان ما تبدل. أفادت صحيفة {نيويورك تايمز}، نقلاً عن محققين حللوا أصوات مقصورة القيادة، أن الطيار غادر المقصورة وعاد بعد بضع دقائق ليجد الباب موصداً. وفي التسجيل، من الممكن سماع ضرب على الباب فضلاً عن صوت الطيار يطلب من مساعده أن يفتح الباب. ثم ازداد صوت الضربات ارتفاعاً إلى أن وصلت في النهاية إلى درجة تظن معها أن الطيار كان يحاول كسر الباب.

داخل المقصورة، ساد صمت لم يخترقه سوى صوت تنفس لوبيتز، الذي التقطه جهاز التسجيل. لكن الأصوات على الباب ازدادت قوة إلى حد يمكن التأكيد معه أن الركاب رأوا وسمعوا ما كان يحدث، وربما أدركوا أن حالتهم ميؤوس منها.

لفهم لمَ كان من المستحيل وقف أندرياس لوبيتز في تلك اللحظة، يجب أن نكوِّن فكرة عن تغييرات أُدخلت على باب مقصورة القيادة في الطائرات عقب اعتداءات 11 سبتمبر الإرهابية في الولايات المتحدة. كانت التعديلات، التي صُممت لحماية فريق القيادة من المعتدين، ما حوَّل ركاب الرحلة 4U9525 إلى رهائن.

في ظلِّ الظروف العادية، يدخل طاقم الطائرة المقصورة بإدخال رمز يعرفه الطياران وسائر الفريق على رقعة أرقام. ولكن بغية منع الخاطفين من إرغام أفراد الطاقم على الكشف عن الرمز، منح الطيارون داخل المقصورة سيطرة كامل على الباب وما إذا كان من الممكن فتحه أو لا، وذلك بالضغط على زر وسط لوحة القيادة. فإن دُفع إلى الأمام، يفتح الباب. وإن دُفع إلى الوراء، يظلّ الباب موصداً.

ارتفع ارتفع!

في حال فقد الطيار الوعي داخل المقصورة حين يكون الطيار الآخر خارجها، يمكن الاستعانة برمز طوارئ. فعندما يدخله الطيار من الخارج، ينفتح الباب في غضون 30 ثانية، إن لم يستخدم الطيار داخل المقصور الزر لإلغائه. بدا المحققون الفرنسيون أكيدين من أن هذا ما حدث في طائرة الآيرباص التابعة لجيرمان وينغز.

بعد 55 ثانية من الساعة العاشرة والدقيقة الثلاثين صباحاً، أعاد لوبيتز برمجة الطيار الآلي. حافظ على مسار الطائرة، إلا أنه بدل الارتفاع من 38 ألف قدم إلى 96 قدماً.

بدأت الطائرة تهبط بمعدل ألف متر في الدقيقة. كان لوبيتز يجلس في المقعد الأيمن وتجاهل القرع على الباب، كذلك نداءات الطيار ونداءات لاسلكية وجهها إليه مراقبو الحركة الجوية القلقون بشأن خسارته الارتفاع. تجاهل أيضاً أدوات الطائرة والصوت الإلكتروني الذي كان يحذره من أنه اقترب جداً من الأرض: {ارتفع! ارتفع!}.

ظلَّ يتنفس بشكل طبيعي، ولم يحرك ساكناً أو ينطق بكلمة. ربما راح يراقب جبال الألب وهي تقترب تدريجاً من النافذة. ونحو نهاية التسجيلات الصوتية، من الممكن سماع الصراخ الآتي من خارج المقصورة.

تقطن عائلة لوبيتز في منزل منفرد جميل على أطراف مونتباور. عندما بدأت التقارير تشير إلى طبيعة الحادث، سارع رجل متوسط القامة خفيف الشعر إلى إقفال بوابة الحديقة قبل أن يهرب إلى المنزل. بعيد ذلك، ذكر عبارتين قصيرتين عبر جهاز الهاتف الداخلي على مدخل المنزل: {نشعر بأسف كبير}، ثم طلب تفهم وضعه ورفضه الإدلاء بأي تعليقات إضافية.

كان ابن هذا الرجل، أندرياس لوبيتز، في الرابعة عشرة من العمر حين بدأ الطيران. في نهاية كل أسبوع تقريباً في الصيف، كان يتوجه إلى هضبة قريبة حيث يقع المدرج العشبي التابع لنادي الطيران الشراعي LSC Westerwald. بدأ بقيادة طائرة انزلاقية ذات مقعدين مع مدرّس طيران قبل أن يتمكن من التحليق بمفرده. يخبر مدير النادي كلاوس رادكي (66 سنة): {أحب الطيران}.

كان آندي، كما اعتادوا مناداته، يقوم عادةً بثماني إلى 10 طلعات يومياً، مستخدماً جهاز إطلاق لدفع طائراته الشراعية في الهواء فوق تلال ميتلجبيردج الممتدة، وهي سلسلة جبال منخفضة الارتفاع في ولاية راينلند بالاتينات الألمانية.

ضمَّ النادي عدداً من مهووسي الطيران الشبان الذين تعلم لوبيتز التحليق معهم. وهكذا شكَّلوا مجموعة من 10 إلى 12 صبياً وفتاة كانوا يلتقون باستمرار على مدرج النادي. يذكر بيتر روكر، تقني في النادي: {اعتادوا أيضاً الاحتفال معاً وإقامة حفلات الشواء. كذلك درسوا معاً للامتحانات النهائية في المدرسة الثانوية، فيما كانوا ينتظرون دورهم للرحلة التالية. كان آندي شاباً محبوباً، وكنا نضحك معاً كثيراً}.

لا يحب البروز

نجح لوبيتز في امتحاناته الأخيرة عام 2007 في مونتباور ونجح بعيد ذلك في تحقيق حلمه المهني: قُبل في مدرسة لوفتنزا للطيران في بريمن. احتفل بإنجازه في نادي الطائرات الشراعية، وأخبر لاحقاً صديقه بأنه حصل على عرض لوظيفة مساعد طيار مع الخطوط الجوية {جيرمان وينغز}، وليس للأسف مع الشركة الأم {لوفتنزا}، التي تقدم شروط عمل أفضل لطياريها الشبان. لكن رئيس النادي رادكي يقول إن الحظ حالف لوبيتز رغم ذلك. فعلى الطيارين اليوم الذين ينهون تدريبهم مع لوفتنزا أن ينتظروا غالباً فترات طويلة من الوقت قبل أن يحصلوا على وظيفة.

يضيف رادكي أنه رأى لوبيتز في النادي للمرة الأخيرة في الخريف الماضي. احتاج هو وعدد من مجموعة أصدقائه إلى تجديد أذن قيادة الطائرة الشرائعية، فقدموا معاً خلال نهايات أسابيع عدة متعاقبة للقيام بعمليات الإقلاع والهبوط الضرورية. يروي رادكي أن آندي بدا {طبيعياً بالكامل} ولم تظهر عليه أي علامات تشير إلى أنه حزين أو يحتاج إلى مساعدة. يتابع راكي: {جلسوا معاً بسعادة وأقاموا حفل شواء بعد انتهائهم من الطيران كما اعتادوا تماماً}.

 تتوافق رواية رادكي مع كل ما نعرفه عن حياة لوبيتز. فكان على ما يبدو شاباً عادياً سعيداً لا يحب البروز، وهذا ما تُظهره أيضاً صوره في الكتاب السنوي في مدرسته الثانوية. في الصورة، ظهر شاباً مرحاً قصير الشعر لا ترى فيه ما قد يلفت نظرك. وعن مستقبله، يشير الكتاب السنوي إلى أنه سيصبح {طياراً محترفاً كي يتمكَّن من بيع مشروباته التي يعدها حول العالم. وبعد سنوات من التدريب، سيشارك في Iron Man في هاواي}. وعلى الجهة الخلفية من الكتاب السنوي تقرأ إعلاناً للوفتنزا يقدم {فرصاً مذهلة}. نشر الإعلان قسم التوظيف في الشركة، وهو يشير إلى أن لوفتنزا تبحث عن مرشحين لبرنامجها التدريبي.

لا تتلاءم هذه الأشياء والصور من الماضي مع الحاضر على ما يبدو، فلا نعثر فيها على ما يجيب عن السؤال: لماذا؟ لا يساعدنا أي من الأدلة السابقة في توضيح ما قد يدفع طيار شاب إلى الإقدام على أمر مروع مماثل. وربما لم نعثر على ما قد يكشف لنا أعمق أفكار قاتل جامعي لأنه ربما لا يملك أفكاراً عميقة، ولم تراوده أي منها.

بعد يومين من الكارثة، وقف ماكس ترانشار على العشب غير المشذب في معسكر لو فيرنيه الميداني. في الجوار، المنازل الخشبية المنخفضة الارتفاع مبنية على جوانب التلال، وأمامه توقفت سيارتا فان زرقاوان تابعتان للشرطة، فضلاً عن سيارتي دفع رباعي حمراوين تابعتين لدائرة إطفاء الحرائق. كانت الجبال تحيط به من كل جانب، إنها جبال ترانشار. بفضل عقود من الخبرة كدليل في هذه الجبال، بات يعرف المنطقة أكثر من أي شخص آخر.

جروف حادة

يوم تحطم الطائرة، تلقى ماكس ترانشار (63 سنة) اتصالاً من صديقه فرانسوا، الذي يشغل منصب عمدة لو فيرنيه منذ ثلاثة عقود. أعلمه العمدة أن طائرة ألمانية تحطمت وطلب منه إن كان بإمكانه قيادة فرقة من الشرطة الفدرالية الفرنسية تضم 20 عنصراً إلى الموقع الذي يعتقدون أن الطائرة سقطت فيه.

بعد ساعة ونصف الساعة، أمضت أربع آليات مجهزة للطرقات غير المعبدة 40 دقيقة على طرقات جبلية ترابية، ثم انتقلت المجموعة سيراً على الأقدام، مجتازة بصعوبة الأراضي الوعرة. فلا تضم هذه المنطقة حتى دروباً ترابية صغيرة، بل تقتصر على المنحدرات القاسية والجروف الجبلية الحادة.

عندما بلغوا الموقع، لاحظوا أن الحطام مجزأ ومهمش وما عاد يحمل ما يدل على أنه حطام طائرة، وفق ترانشار. فقد بدا له، على حد قوله، كما لو أن الجبل ابتلع الطائرة ككل ولم يترك وراءه إلا الفتات. ضم الموقع قطعاً صغيرة من بدن الطائرة وبعض الحطام الذي لا يمكن تحديد معالمه. فقد ذاب الجزء الكبير منه متحولاً إلى كتل. سارع رجال الشرطة عندئذٍ إلى تأمين الموقع، الذي تسكنه عادةً الذئاب والطيور الجارحة.

كان درب ضيق كثير التعرجات يربط قرية ترانشار، لو فيرنيه، بسيان ليه ألب، بلدة تضم 1400 شخص يعيشون في منازل حجرية قديمة لها مصاريع نوافذ ملونة وتخترقها أزقة معبدة. لكن حادث التحطم حوَّل البلدة إلى مركز لوجستي مبتكر. فقد حطَّت طائرة مروحية تحمل الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية في حقل بين سوبرماركت ومنشرة للأخشاب، علماً أن الحقل لا يُستخدم عادةً إلا لإطلاق الطائرات الشراعية. وفيما تحلَّق حولهما الأهل المفجوعون والمساعدون والمسؤولون والسكان المحليون، قدما مع رئيس الوزراء الإسباني ماريانو راهوي إحدى تلك اللحظات الأوروبية المؤثرة. في تلك المرحلة، كانوا لا يزالون يتكلمون عن حادث وكانوا يجهلون أنهم يزورون في الواقع موقع جريمة. كان تضامن السياسيين واستنكارهم  صادقاً وواضحاً. وكانت هذه الروح عينها التي أعرب عنها سكان سيان ليه ألب، الذين لم يترددوا في تقديم المساعدة.

استُقبلت عائلات الضحايا في مركز محلي للشبان، وحُوّل نادٍ رياضي محلي إلى كنيسة مؤقتة. اصطفت باقات الورود وتشكيلات الأزهار تحت سلة كرة السلة، فيما رُفع العلم الألماني في إحدى الزوايا. ومع وصول العائلة الألمانية الأولى، كان أطباء النفس والمترجمون جاهزين لتقديم المساعدة والدعم.

أما دار البلدية، وهي عبارة عن مبنى حجري بسيط في شارع غران رو يرفرف فوق مدخله العلم الفرنسي بألوانه الثلاثة، فتحوَّل إلى مركز عمليات لمعالجة هذه الكارثة. وبما أن العمدة كان في حالة تنقل دائمة، انتقل نائبه، ميشال أستيه (66 سنة) إلى مكتبه. راح أستيه يهز رأسه وقال إنه لم يمر بتجربة مماثلة سابقاً. وأضاف: {ولا أود أن أعيش هذه التجربة مجدداً}.

تتبع المسار

تولى جنديان حراسة المدخل والدراجات الحجرية التي يحدها سور خشبي والتي تقود إلى الطابق الأول. نظر أستيه عبر نافذة طويلة إلى ما بعد سطوح منازل بلدته، إلى مركز الشباب. دفع هو ومساعده طاولتي مكتبيهما حتى باتتا متلاصقتين وفرشا عليها الخرائط. كذلك ضمَّ المكتب مَن عينتهم شرطة الجبال الفرنسية لتولي تنظيم جهود الإنقاذ. حددت نجمة حمراء على الخارطة موقع اصطدام الطائرة: جرف جبلي يبلغ ارتفاعه نحو 2100 متر. وكان عضوان من فرقة المشاة الجبلية منحنيين فوق الخارطة وراحا يتتبعان المسار بإصبعيهما.

كانت أشلاء الجثث تُحمل إلى موقع على أطراف البلدة يقع على بعد 200 متر فقط عن المكان الذي نزل فيه أهل الضحايا. وكان المحققون الجنائيون يتولون مهمة استلام الأشلاء. نُصبت خيم بيضاء تتولى مولدات عملية تبريدها في باحة للأخشاب تحجبها الأبنية المحيطة عن الأنظار. جهز المحققون الجنائيون، الذين ارتدوا ملابس بيضاء وأقنعة تغطي كامل الوجه، الخيم بمعدات تقنية. وتولى نحو 12 شرطياً حراسة المكان وأبعدوا كل مَن حاول الاقتراب منه.

ميول انتحارية

لا شك في أن الطيارين، الذين يعانون اضطرابات نفسية، يملكون أسباباً وجيهة ليخفوا حالتهم. فما إن يعلموا مستخدمهم بذلك، حتى يفقدون أهليتهم للطيران ويخسرون بالتالي وظيفتهم. في حالة أندرياس لوبيتز، تشير الأدلة إلى أنه اضطر إلى تعليق تدريبه كطيار لفترة وجيزة لأنه كان يعاني الكآبة. ولكن في وقت لاحق، اعتبره الأطباء {صالحاً للطيران}. من المؤكد أن شركة الطيران ستواجه مساءلة إضافية بشأن تشخيصها. ولكن حتى لو تبين أن لوبيتز كان يعاني حقاً الكآبة، فلن يكون التوضيح كافياً بالتأكيد. فهذه الجريمة مريعة بكل ما للكلمة من معنى، جامعة بطبيعتها اثنين من أكبر المخاوف في زمننا: القتل الجماعي وتحطم الطائرات.

يؤكد مَن يعرفون لوبيتز باسم آندي، أناس مثل زملاء الصف من أيام الدراسة ومعلميه، أنهم يعجزون عن تفسير ما الذي دفعه إلى أمر مماثل. يخبر أحد مدرسي لوبيتز السابقين في Mons Tabor Gymnasium أن كل زملاء صف مساعد الطيار هذا الذي تحدث إليهم لم يعرفوا مطلقاً أنه كان يعاني الكآبة أو اضطرابات سلوكية أو ميولاً انتحاية ولم يسمعوا بأمر مماثل.

لا شك في أن هذا لا يعني الكثير وأن حياة الإنسان قد تتبدل بين ليلة وضحاها. ولكن يبدو لوهلة أن أحداً لا يفهم حقاً ما حدث. يقول المدرس السابق: {يملك الجميع ذكريات إيجابية عنه}. إنها ذكريات عن رجل كان أشبه بصفحة بيضاء. لا يملك لوبيتز أي سجل إجرامي ولا يمكن العثور على اسمه في أي قاعدة بيانات كبيرة تابعة للشرطة. بالإضافة إلى ذلك، يُعتبر شخصاً مجهولاً بالنسبة إلى الشرطة الجنائية، فضلاً عن وكالة الاستخبارات المحلية، التي تتولى عملية مراقبة النشاطات المتطرفة المحتملة في ألمانيا.

انخفاض تدريجي

في شهر نوفمبر 2013، أقلعت طائرة الخطوط الجوية LAM من طراز {إمبراير 190} من الموزنبيق متوجهة إلى أنغولا. كان عمر الطائرة سنة وما كانت تعاني مشاكل تقنية. رغم ذلك، تحطمت في ناميبيا بعدما قطعت نصف المسافة، مودية بحياة 33 شخصاً.

تمكَّن المحققون من إعادة تركيب التطورات التي أدت إلى التحطم. حلقت الطائرة إلى ارتفاع 38 ألف قدم. عندئذٍ غادر مساعد الطيار المقصورة ليدخل الحمام. ظلَّ الطيار في المقصورة، إلا أن المحققين اكتشفوا لاحقاً أنه كان يعاني مشاكل زوجية وقد فقد ابنه. برمج الطيار ثلاثة ارتفاعات متتالية في الطيار الآلي، وكان كل منها أكثر انخفاضاً.

تقدم البيانات من التسجيل الصوتي أدلة واضحة في هذه الحالة. طوال دقائق، يمكننا سماع مساعد الطيار يضرب بقوة على الباب من دون جدوى. كذلك لم يتجاوب الطيار مع محاولات مراقبي ملاحة الجوية التواصل معه. ثم شغَّل أجهزة التعطيل في الجناحين، دافعاً الطائرة بسرعة أكبر نحو الأرض. في تلك اللحظة، نجح المساعد في العودة إلى المقصورة، إلا أن الأوان كان قد فات، وتحطمت الطائرة عند الاصطدام.

ثمة أمثلة أخرى عن أعمال انتحار-قتل من هذا القبيل. في شهر ديسمبر عام 1990، نشب صراع بقاء على متن رحلة الخطوط الجوية المصرية 990 بعيد انطلاقها متوجهة من نيويورك إلى القاهرة. عمد الطيار المساعد إلى دفع مقبض التحكم بعنف نحو الأمام، فيما راح الطيار يسحب بكل ما أوتي من قوة ليرفع مقدمة الطائرة ليمنعها من التحطم. لكن الطيار المساعد، الذي عانى بكل وضوح من اضطرابات نفسية، تفوَّق عليه. وراح يصيح {أؤمن بالله}، فيما دفع بالطائرة نحو المحيط، قاتلاً الركاب المئتين والسبعة عشر على متنها. استخلص المحققون الأميركيون في تلك الفترة أنهم يملكون أدلة كافية ليعتبروا الحادثة جريمة قتل وانتحاراً، إلا أن السلطات المصرية لم تقبل مطلقاً النتيجة.

كانت طائرة خطوط {سيلك} الجوية من طراز بوينغ 737، التي أقلعت من سنغافورة، قد وُضعت قيد الاستعمال قبل سنة فقط، وكانت بحالة ممتازة عندما بدأت تهبط بسرعة من ارتفاع 10600 متر في ديسمبر عام 1997. وما هي إلا دقيقة حتى اصطدمت بالأرض، ما أودى بحياة الركاب المئة والأربعة على متنها. استخلص المحققون أن الطيار تسو واي مينغ أرغم الطائرة على السقوط بشكل عمودي، ما جعلها تخترق جدار الصوت قبل أن تصطدم بالأرض.

أضف إلى ذلك لغز الرحلة MH370. بعد سنة من اختفائها في شهر مارس عام 2014، ما زال الجميع يجهلون ما حدث على متن الطائرة. صحيح أن احتمال وقوع عطل يبقى قائماً، لكن المحققين يبحثون أيضاً في إمكان أن يكون الطيار قد انتحر.

الضحايا

بين مَن لقوا حتفهم في حادث التحطم ماريا رادنر (33 سنة)، مغنية أوبرا ألتو من دوسلدورف، وأليغ بريجاك (54 سنة)، باس تينور ولد في كازاخستان. كذلك ضمت الطائرة مانفد جوكهيك من دورتموند، زوج وأب، سياسي محلي، فنان ومحاضر جامعي يتبوأ عدداً من المناصب الفخرية. لقيت زوجته سابين أيضاً حتفها في الحادث. ممن ماتوا أيضاً رامون دي سانتياغو، مقاول في الستين من عمره من بلدة ماتارو قرب برشلونة يعرفه الناس باسم دون رامون، وكان برفقته ابنه الذي يحمل الاسم ذاته وابن أخيه ومدير قسم التصنيع في شركته. أضف إلى هؤلاء جوسيب بوريل، مهندس ميكانيكي في السادسة والستين من العمر من أنجليس في إسبانيا، رجل اعتبر نشيطاً وجادً في عمل وعلى خلق عالية. وثمة أيضاً محمد الطهريوي (24 سنة)، مهاجر من أصول مغربية يعيش في لا لاغوستا قرب برشلونة كان قد عثر لتوه على وظيفة في دويسبورغ بألمانيا. ولقي حتفه مع زوجته أسماء أحدو، علماً أنه ما كان قد مرَّ على زواجهم سوى بضعة أيام. أما مارينا باندريس، امرأة في الثامنة والثلاثين من عمرها من جاكا بإسبانيا، فماتت مع طفلها وهي في طريقها إلى مانشستر في بريطانيا، شأنها في ذلك شأن لورا ألتيميرا باري، مديرة تنفيذية في سلسلة الملابس الشهيرة Desigual أرادت أن تزور أحد متاجر الشركة قرب دوسلدورف.

شمل الضحايا أيضاً سونيا سيرسيك وستيفاني تيجيثوف، وهما مدرستان فيJoseph König Gymnasium في منطقة هالترن أم سي في ولاية شمال الراين-وستفاليا، و16 صبياً وفتاة كانوا من تلامذتهما. كذلك قضت إيفون وإيميلي سيلكي، أم وابنتها من الولايات المتحدة كانتا تقومان بجولة في أوروبا. وماتت أيضاً غابريالا موموس وصديقها سيباستيان غريكو من بوينس آيرس. كانا يقضيان عطلة في إسبانيا. ومن الضحايا بول براملي، شاب في الثامنة والعشرين من العمر يدرس السياحة وإدارة الفنادق في جامعة كينغستون أبون هل. أما ميلاد حجة الإسلام، صحافي إيراني من وكالة أنباء تسنيم، فلقي حتفه مع زميله حسين جوادي من الصحيفة الإيرانية {وطن امروز}. كانا قد سافرا معاً إلى برشلونة لتغطية مباراة كرة قدم بين فريقي برشلونة وريال مدريد. كذلك ضمَّ الضحايا يابانيين، كولومبيين، بريطانيين، ألماناً، أميركيين، وإسباناً.

مات كل هؤلاء بسبب أندرياس لوبيتز. صحيح أن هذه الجريمة قد تبدو فريدة وبعيدة عن التصور، إلا أن تاريخ السفر جواً سبق أن شهد حوادث مماثلة

إن كان هنالك من درس نتعلمه من هذه المأساة، فيتعلق بتنظيم العمل داخل مقصورة القيادة في الطائرة. تفرض خطوط جوية أميركية كثيرة على طاقمها عدم ترك أي طيار وحده في المقصورة. وإن احتاج أحد الطيارين إلى دخول الحمام، فعلى أحد أفراد طاقم العمل أن يستلم مكانه ويعمل على مراقبة الطيار الآخر. لم تفرض لوفتنزا شروطاً مماثلة على طياريها، مع أن شركات عدة عمدت أخيراً إلى تبديل قواعدها، طالبة تواجد اثنين من طاقم الطائرة في مقصورة القيادة طوال الوقت.

بخلاف ما يظنه كثيرون، يجب ألا نتخيل أن الجالسين في مقصورة القيادة في الطائرة يشكلون دوماً فريقاً أو شركاء يعرفون أحدهم الآخر جيداً وسافروا معاً مرات عدة. العكس صحيح. في الخطوط الجوية الكبرى، لا يعرف الطيارون أحدهم الآخر جيداً، هذا إن كانوا قد تقابلوا سابقاً. تختار شركات الطيران بشكل عشوائي مَن سيكون الطيار ومساعده في كل رحلة. بعيد ذلك، يأخذ الطيارون استراحة لبضعة أيام ليحلقوا بعدها مجدداً مع زميل آخر. وتتعمد الشركات تفادي نشوء جو من الألفة بين الطيارين لأنها لا ترغب في أن يصلوا إلى مرحلة تصبح معها ثقتهم أحدهم بالآخر قوية. فمن الضروري أن يلتزم الجميع بالقوانين، لا أن يتحولوا إلى زوجين يضعان قواعدهما الخاصة. ويُعتبر غياب الألفة هذا مفيداً من ناحيتي الأمن والسلامة. ولكن هل هذا صحيح؟ وهل كان من الممكن اكتشاف مشكلة لوبيتز في وقت أبكر لو أن شخصاً ما تمكَّن من التقرب منه؟

من نواحٍ كثيرة، يُعتبر واقع أن التأمل عن كثب في حياة أندرياس لوبيتز لا يقربنا من حل هذا اللغز مقلقاً أكثر مما لو تمكنا من العثور على دافع مقنع. فعندما ننظر بتمعن إلى حياة هذا الطيار المساعد، الذي تحول إلى قاتل، نرى إشارات كثيرة إلى أنه كان إنساناً عادياً لا تحتوي حياته على ما يوحي بأنه كان قريباً من الهاوية. فطوال حياته، أطلق لوبيتز الدعابات العادية، استمع إلى موسيقى عادية، وكتب أموراً عادية. وهكذا بدا في كل أوجه حياته رجلاً عادياً.

من الممكن أن جنونه كان مدفوناً عميقاً في عقله، حتى إن صديقته لم تلحظه. أشارت التقارير إلى أنهما عاشا في دوسلدورف، وأنهما أرادا الزواج. كانت تعمل مدرسة رياضيات. ويُقال إنها كانت في طريقها إلى موقع التحطم في جنوب فرنسا عندما علمت أن صديقها لم يكن ضحية، بل هو على الأرجح مجرم مسؤول عن مقتل 149 شخصاً.

back to top