بائع الحكمة

نشر في 28-03-2015 | 00:01
آخر تحديث 28-03-2015 | 00:01
No Image Caption
1

{الإعدام بالمقصلة}.

نطق بها الحاكم فتردد صداها في قاعة القصر، فألقى قائد الجيش التحية للحاكم ثم أمر جنوده ليقتادوني إلى ساحة الإعدام!

***

في تلك الليلة تعبت قدماي وأنا أسير عبر تلك الصحراء الصامتة الموحشة، القمر يلقي بظلاله على الرمال الناعمة فتتألق كأنها في وضح النهار، أحاول السير بقرب آثار عجلات العربات أو خيول العابرين.

لم أتوقع أن تكون مدينة النار بهذا البعد، لقد تسرعت في الموافقة على العمل في مدرسة تلك المدينة، أخبرني صديقي أن مدرسة النار بحاجة إلى معلم حساب، لم أسأل عن أي شيء يخص تلك المدينة، كان العمل هدفي الأول، لقد تم طردي من أكثر من مدرسة، لم يكن ذلك إلا لأن سياستي لا تتماشى مع أية مدرسة واجهتها.

كانت النار بالنسبة إلي مدينة غامضة، لم أكلف نفسي عناء السؤال عنها، كل الذي أعرفه أنها تقع على شاطئ البحر باتجاه الغرب، لقد تواصل معهم صديقي ليبلغهم عن حضوري.

تمنيت لو أنني اشتريت فرساً، على الأقل استطعت الوصول في وقت أقصر، ولكن المال الذي جمعته في خلال الأعوام السبعة الماضية، بعثرته على اللاشيء، ولكن لا بأس سأشتري فرساً أو حصاناً عندما يصبح لدي المال الكافي.

في خلال سيري كنت أحاول تبديد الخوف من قلبـي، من خلال ترديد بعض الأغاني الريفية التي كنت أسمعها في صغري من والدتي والتي جعلتني أكتشف أن لدي حنجرة لا بأس بها.

لقد ساعدني ضوء القمر الساطع على رؤية آثار حوافر لأحد الخيول... انحنيت وتأملتها... كانت باتجاه الشرق... أي بعكس اتجاه مدينة النار... هذا يدل على أن أحدهم غادر المدينة وأنه ربما سيعود إليها.

اقتربت من شجرة عارية من الأوراق كانت على قارعة الطريق، لقد كانت مكاناً مناسباً للنوم، سأنام تحتها وغداً...

استوقفني شبح لشيء ممدد بجانب الشجر.. ليس ذئباً.. إنه أكبر بقليل.. ليس حصاناً.. إنه أصغر بقليل.. إلى جانبه متاع وحذاء.. الأمر لا يحتاج إلى ذكاء خارق كي أدرك أنه إنسان.

عندما اقتربت منه نهض ببطء، وحدق بـي للحظات، كان كهلاً في الخمسين أو الستين من عمره، شعره الأبيض المائل إلى الفضي تألق مع ضوء القمر، كانت له لحية قصيرة بيضاء، نحيل الجسد.. أشار لي بيده مرحباً ودعاني للجلوس.

لم أكن أعلم أن لقائي بهذا الكهل.. كان بداية لقصة.. غريبة جداً..

***

جلست إلى جانبه، وقد لاحظت أنه لا يوجد أي أثر يدل على أنه أوقد ناراً قال لي وهو مركز نظراته على عيني:

«أنت مستغرباً من عدم إشعالي النار؟}.

لقد قرأ أفكاري بسرعة، جعلني ذلك أفقد ثقتي بنفسي، حاولت أن أبدو طبيعياً وأنا أقول: «حسناً.. ربما لأنك تخشى أن تراك السباع؟}.

«كلا، فالسباع حتى وإن امتلكت أنياب فهي تخاف النار، لقد وصلت لتوي إلى هذا المكان، وعند رؤيتك استلقيت على الأرض متظاهراً بالنوم}.

شعرت بالحرج، فكيف غفلت عن هذا الأمر، فقلت وأنا أشير بيدي إلى الشجرة: «لديك هنا خمسة أغصان جافة باستطاعتك أن تشعلها}.

سألني الكهل عن وجهتي، فأخبرته أنني متجه إلى مدينة النار، فقال: «إن هذا الطريق ينتهي ببحر، وأنت بحاجة إلى عبوره لتصل إلى مدينة النار}.

ثم أضاف: «تلك المدينة يحكمها رجل من داخل حجرته منذ سنوات طويلة}.

«يبدو أنني أسمع بهذا لأول مرة، وأياً يكن سأمضي في طريقي، فعملي هناك، ويجب أن أمضي إلى حيث توجد مدرسة}.

مرت فترة قصيرة من الصمت، قال بعدها الكهل: {أنت معلم حساب}.

نطق بتلك العبارة وهو يتأمل الأفق حيث يتدرج سواد الليل مع ظلال الأشجار البعيدة، صعقت للحظة، شعرت بأنه ساحر، لقد قرأ ما أفكر فيه بخصوص النار، وها هو يعرف طبيعة عملي من دون أن أخبره، وقبل أن أتكلم قال: «أعلم أنك مندهشاً من معرفتي لذلك، لكنها خبرة رجل مسن، أغصان الشجرة الخمسة، توحي بالكثير.. أنت تتعامل مع الحياة على أنها مجرد أرقام}.

ساد الصمت للحظات كنا في خلالها نسمع أصوات حشرات الليل، بعدها تحدث عن البحر: «في نهاية هذا الطريق يكون البحر، ولن يمكننا عبوره بتأمل أمواجه، يجب أن نركب السفينة التي ستقلنا إلى النار.. فأنا ذاهب إلى هناك أيضاً}.

ثم أضاف: «أنت تفكر في سبب ذهابـي إلى هناك..، أنا أبيع الحكمة، أعطي الحكمة مقابل المال}.

وددت أن أسمع شيئاً من الحكم التي لديه ولكن لا يوجد لدي مال حالياً، كما أنني لم أثق به بعد، ربما يكون لصاً.

«كلا لست لصاً، أنا بائع الحكمة، وأحياناً أعطيها بلا مقابل}.

نبض قلبـي للحظة، تعجبت من فراسته، وقراءته للأفكار، حتى أنني خشيت أن أفكر في أموري الخاصة خشيةَ أن يقرأها.

قال وهو يستلقي ويتوسد حقيبته: «الحكمة تؤخذ عندما يدفع الناس ثمنها، وعندما يحصلون عليها بلا مقابل لا تكن لها قيمة عندهم، نحن لا ندرك أهمية الشيء إلا عندما يكلفنا الكثير}.

وبعد ذلك ساد الصمت، تلاه صوت خافت لشخير الكهل، أما أنا فلم أستطع النوم، كنت مرتاباً منه، ماذا لو نمت وسرق أمتعتي؟.. آه نسيت.. أنا لا أملك أي مال في حقيبتي}.

استلقيت على الرمال الناعمة متوسداً حقيبتي كما فعل هذا العجوز، تأملت النجوم في السماء للاستئناس بها، وأنا أتخيل طبيعة الحياة التي تنتظرني هناك، فجأة لمع شهاب في السماء ليشق البساط الأسود في نعومة.. سيأتي الصباح.. مهما طال الليل.

***

فتحت عينيَّ على صوت الكهل وهو يوقظني، فوجدت أن الشمس لم تشرق بعد، فقال لي: «أعلم أن الشمس لم تشرق، ولكنني أسمع أصوات عربة وخيل قادمة من بعيد، يجب أن نركب معهم}.

قلت وأنا أستدير إلى جانبـي الآخر: «لننم الآن، وعند الصباح، ننتظر عربات أخرى، فهذا طريق للعابرين}.

«يجب أن نركب الآن، فلا نعلم متى ستمر العربة القادمة ربما بعد أيام، هذه فرصتنا، أحياناً تأتي الفرصة مرة واحدة}.

سألت نفسي: هل أنا ملزم أن أرافقه؟

حمل أمتعته، وعصاه ثم شرب من جرة الماء التي كانت معه، ثم دعاني للشرب فشكرته، فقد كنت أمتلك واحدة بها ماء.

نهضت بتثاقل، وأنا أفكر، هل أنا ملزم أن أسافر مع هذه الساحر، وبالتدريج تناهى إلى سمعي صوت حوافر الخيل، ممزوجة بأصوات بشر.

من بعيد لمع ضوء المصباح المعلق أمام العربة، فأشار لهم الكهل بعصاه، فقال سائق العربة الضخم بعد أن سحب زمام الخيول لتتوقف العربة بهدوء:

«بقطعتين للشخص الواحد}.

فقال بائع الحكمة: «لك ذلك}.

وهم بالركوب في العربة المغلقة، فأمسكته من يده وقلت له بصوت منخفض: «لا أستطيع الركوب معكم، فليس لدي مال}.

«ولا أنا.. أركب.. ألم تلاحظ أن السائق ثمل؟}.

***

2

صعدنا إلى العربة المغلقة، وهناك وجدنا سيدتين ترخيان قبعتيهما على وجهيهما، نائمتين على المقعد المقابل للمقعد الذي جلسنا عليه، وحين جلسنا انتبهت إلى وجود فتاة أخرى تجلس معنا على المقعد نفسه، نظرت إلينا في ريبة، كان مصباح العربة قوياً بما فيه الكفاية، ليتسلل ضوءه من خلال فتحات صغيرة في العربة، صحيح أنني لم أتبين وجهها جيداً، لكن صمتها يحكي الكثير.

سارت العربة لفترة، كان علي أن أشارك الجميع الصمت، وددت أن أسأل بائع الحكمة عن المأزق الذي وضعنا به، لكنني آثرت الصمت.

السيدتان النائمتان، لم تستيقظا إلا عندما توقفت العربة، وصاح بنا السائق بأننا سننام لفترة وجيزة في هذا المكان ثم نكمل السفر مع شروق الشمس.

نـزلنا جميعاً، ثلاث فتيات وثلاثة رجال..! أشعلنا النار وتحلقنا جميعاً حولها، أخذت أتأمل الوجوه من خلال ضوء النار المتراقص، تبادلنا بعض الأحاديث الخفيفة، ما عدا النساء وخاصة تلك الفتاة فقد آثرت الصمت، يبدو عليها القلق لسبب ما.

أحضر السائق فخذاً من لحم لا أعلم لأي حيوان ينتمي، وقطعه إلى قطع صغيرة وبدأ في الشواء..

بعد الانتهاء من تناول الطعام، بدأ السائق يعزف على آلة غريبة تشبه العود ويغني، فشاركته الغناء... وبدأت النساء يرقصن حافيات حول النار، ما عدا الفتاة الصامتة!

back to top