مذكرات امرأة شيعيّة

نشر في 28-03-2015 | 00:01
آخر تحديث 28-03-2015 | 00:01
No Image Caption
تعليق أشبه بسؤال ألقته عليّ الشابّة كاترين. تعرّفت بها في اليمن وكانت تعمل مع إحدى المنظّمات المهتمّة بتعليم الفتيات. طبيعة أنشطتنا وطّدت بيننا الصلة، فأخذنا نتبادل الزيارات والأحاديث بعيداً عن هموم العمل. وبمرور الوقت صارت تسألني عن خصوصيّاتي: أصولي، نشأتي، وديانتي. أخبرتها بأنّي مسلمة من لبنان.

معقول؟! هتفت!

وما هو غير المعقول؟

عفواً، لا أقصد... ولكن...

لكن ماذا؟

لأيّ المذاهب الإسلاميّة ترجع أصولك؟

للمذهب الشيعيّ.

إذن أنت شيعيّة؟!

مذ ذاك غدوت موضوع فضول كبير لدى كاترين. فضول تترجمه بأسئلة، بعضها صريح والآخر مبطّن، من تلك التي تحمل تصوّرات وأحكاماً مسبقة والتي بدأت، في الآونة الأخيرة، تشهد ازدهاراً كبيراً في العالم.

في معرض فضولها سألتني كاترين عمّا جاء بي إلى اليمن؟

«لا عجب، قلت، جدّتي الفينيقيّة «أليسار»، قبل آلاف السنين، سبقتني إلى الساحل الجنوبيّ للبحر المتوّسط، أسّست مدينة «قرطاج» حيث نشرت الأبجديّة».

في ذاكرة الشعوب، قد يدوّن التاريخ ما سبق للأسطورة أن روته. شأن أسطورة «قدموس وأخته أوروبا»: كان الإله «زوس» قد تنكّر بهيئة ثور ليخطف «أوروبا» من فينيقيا إلى قارات بعيدة. صار يترصّد خطاها، في عبورها ساحل مدينتها صور باتّجاه صيدا، قام «الإله» بخطفها. لكنّ أخاها قدموس لم يستسلم. لحق بأخته لإعادتها إلى الأرض التي ينبغي أنّ تُعاد إليها. على أنّ رحلته أثمرت ما من شأنه تغيير وجه التاريخ: نشر الأبجديّة، أصل الكتابة التجريديّة التي نستخدمها اليوم.

الأسطورة تلك، كانت في صغرنا، من قلائل دروس التاريخ التي نتشوّق إلى سماعها وتأمّل الصورة المرافقة للنصّ، والتي تمثّل الشابّة على ظهر الثور. المشهد كان يثير في نفوسنا الهلع، كما تثير خيالنا رحلة الصبيّة الجميلة عبر القارّات، وأخوها قدموس يمخر عباب البحار لاحقاً بها.

كان «لأليسار» و«فأوروبا» وقع السحر في نفس كاترين:

يا إلهي، كلّ يوم نكتشف مشتركاً جديداً بين الشعوب. ونكتشف فضل النساء على الحضارات: أليسار. أوروبا. أليزابيت الأولى وغيرهنّ كثيرات!

ومازحتها بالقول:

إذن لا تنسي صلات القربى... أنت من قارّة تحمل اسم جدّتي الفينيقيّة التي ولدت حيث ولدتُ...

فعلاً...

{ولعلّه ليس من ضروب المصادفات أن آتي أنا، من مسقط رأسها صور، وأنت من قلب أوروبا، لنتابع المهمّة التي بدأتها الجدّة العظيمة تلك...}

تقول كاترين، إنّ اهتمامها بثقافات «الجنوب» دفع بها إلى معهد الاستشراق. فكانت دراستها مدخلاً لعملها في اليمن. تعتبر نفسها محظوظة؛ فالحياة هنا مثيرة!

{مثيرة جداً}!

حين حملتها الطائرة إلى صنعاء، ما كان يخطر لها أنّها قد تكتب عن تجربتها {هنا} رواية، هي التي لم يسبق لها أن كتبت سوى الأبحاث والتقارير. على أنّ نمط الحياة {هنا} يحفزها لذلك. وتلمع عيناها وهي تحكي حكايات سمعت بها، تدور في غالبيّتها حول حياة النساء في اليمن. وبين الحكاية والأخرى تكرّر: {تصوّري}!

لم يدهشني أن تنجذب الشابّة الفرنسيّة إلى ما هو مختلف، في زمن ينشغل فيه الإعلام {بغرائب} البلدان {الأخرى}: امرأة سجنتها القبيلة، ضربها أخ أو زوج، فلجأت إلى جمعيّة عطوفة أو سفارة أجنبيّة طلباً للحماية.

«حدّثيني عن نفسك، تقول كاترين. عن النساء في بلدك. يقال إنّ اللبنانيّين يتميّزون من سائر العرب. هؤلاء حتماً مسيحيّون، تأثّروا بأوروبا. كيف هي إذن حياة المسلمين. والمرأة الشيعية كيف تعيش»؟

وتسألني كيف عشت أنا حياتي ووصلت إلى ما وصلت إليه؟!

كان من الصعب الإجابة عن أسئلتها. صحيح أنّ للأديان شأناً كبيراً في تاريخ الناس، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ الثقافات لا يمكننا اختزالها. فكيف لو تعلّق الأمر بمنطقة هي من أكثر مناطق العالم تنوعاً وتمازجاً؟! منطقة ظهرت فيها الأديان السماويّة الثلاثة، ونشأت فيها أو جاورتها الحضارات المؤسّسة للعالم؟!

أو لو تعلّق الأمر بجيل القرن العشرين؟

أكثر الأجيال تفاعلاً بينها وبين أفكار النهضة؟ نحن هنا نتاج حضارات إسلاميّة مسيحيّة ويهوديّة، شرقيّة غربيّة، مغرقة في القدم، ومشرّعة في آنٍ معاً على آخر تجلّيات الحداثة. شعوب كثيرة وفدت إلى المنطقة أو غزتها وخالطت سكّانها...

وسألت كاترين هل تعتبر نفسها وريثة الكاثوليكيّة أو غيرها ليس إلاّ؟!

فاجأتها المقارنة!

ثم أوضحت أن الكنيسة التي يذهب إليها أهلها، وهي معهم أحياناً كاثوليكيّة: {لكن هل بلدكم مثل أوروبا؟ وهل كاثوليك لبنان مثل مسلميها؟ وهل أنت...}

كدت أجيب بأنّني أرى نفسي إنسانة عاديّة لم تمرّ بالتجارب الخارقة أو المريرة التي تتخيّلها. ولا تجد في حياتها عبرة أو أمثولة. بل تشبه الكثيرات من نساء جيلها في لبنان، مسلمات كنّ، مسيحيات أو حتّى يهوديات. في ما عدا ظاهرة الفوارق، يبقى الجوهر الثقافي نفسه.

ولا أدري لمَ خطر لي يومذاك أن أقول لها ما قلت: لعلّني ذات يوم أكتب مذكراتي، فتعثر هي فيها على الأجوبة الكثيرة التي تشغل بالها! على أني لو كتبتها، فهل سأفعل لكوني مسلمة شيعيّة؟ أم لكوني يساريّة من جيل...}.

لسماعها كلمة {يساريّة} انفرجت أسارير كاترين:

«لدينا بعض الأصدقاء اليساريّين، بالأحرى كان ذووهم كذلك. من روّاد «الستيّنيّات». يا لحظّهم! كان لنمط حياتهم «نكهة». حياتنا نحن، الجيل الذي جاء بعد ذلك، رتيبة، مملّة وتفتقر إلى الإثارة. لكم أنتم محظوظون!

{نحن بالفعل محظوظون. قلت. حتماً، لا يمكننا الزعم أنّنا {لم نعشها}.

عشناها، شأن الأجيال التي تولد وتحيا في زمن مغاير. وأنا أعتبر نفسي ابنة هذا العصر. كان عصراً خارقاً برغم اضطراباته، رائعاً برغم قسوته، بهيجاً برغم مآسيه. عصراً صاخباً ترك أثراً فريداً في التاريخ، تاريخ الأفراد وتاريخ الشعوب، الغربيّة منها والشرقيّة. على أنّه من غير المؤكّد أنّك إن عشت في عصر فريد كنت بالضرورة من صانعيه.

منذ طفولتي، كان لديّ شغف بالذكريات، على أنني ما اهتممت مرّة بتدوينها أو اعتماد {اليوميّات} شأن كثيرين من هواة الكتابة. فإيقاع الحياة، وتقلّب الأحداث وتواتر التغيّرات، كان أكثر حيويّة وإثارة من أن يدعنا ننشغل بتسجيلها.

تعارفنا أنا وكاترين جرى منذ سنوات. كلتانا لم يخطر لها ما سيحدث: أن أبدأ بكتابة مذكّراتي، وأن تكفّ هي عن التفكير في روايتها. أن يصبح مدخلها إلى العالم القصصيّ، هو نفسه الذي ستخرج منه إلى صخب المعاش. فالانطباعات التي بدأت تكوّنها عن اليمن، والحكايات التي جذبتها لإجراء مقابلات مع نساء كثيرات وندرة من الرجال، ستشكّل منعطفاً في حياة هذه الشابّة الآتية من وراء البحار، يحوّلها من مشاهدة لمجتمع {مثير} إلى واحدة منه، تعصف في حياتها دراما تغدو هي بطلتها. بطولة كنت شاهدة على ولادتها قبل أن نتباعد، وعلى بعض فصولها حين نعود ونلتقي. لا أعلم أين انتهى بها المطاف. استقرّت في اليمن، أم عادت إلى بلادها. أينما حطّت بها الرحال، أتمنّى أن تقع على هذه المذكّرات التي كان لها فضل في إشعال أولى شراراتها. أتمنىّ أن تقرأها بالفرنسيّة، إذا ما قيّض لهذه المذكّرات أن تترجم، أو بالعربيّة إذا ما تيسّر لكاترين أن تتابع دراسة اللغة التي بدأتها، في حمّى شغفها الأنتروبولوجيّ {بالشعوب الأخرى}.

***

في الظلّ أيقونة

في صغري، كان يخيّل إليّ أنّ الناس جميعاً شيعة!

جميعاً، ما عدا قلّة من السكّان تقيم في «حارة المسيحيّين»، في «صور». نساؤهم يعلّقن الأيقونات في رقابهنّ والصلبان في بيوتهنّ.

وهناك قلّة أخرى، لهم لكنة خاصّة في الكلام، يسكنون في حيّ «المصاروة». يقال عنهم «سنّة»، جاؤوا على الأغلب في منتصف القرن التاسع عشر مع حملة إبراهيم باشا المصريّ على بلاد الشام «لإنهاضها» من «كبوة» العهد العثمانيّ.

وكان يخيّل إليّ أنّ الشيعة علية القوم. منهم التجّار وملاّك الأرض، وتتمّيز شابّاتهـــم بحـــــسن المــلامـــــح، ولا سيّما في مقاييس ذاك الوقت، حيث التقاسيم الأوروبيّة وصبغتها كانت من العناصر الأساسيّة لذاك الحسن.

وكنت أعرف أن الشيعة مسلمون. كبيرات السنّ من نسائهم محجّبات. الزيّ الأسود يغطّيهنّ من قمّة الرأس حتّى الكاحل. والشابّات منهنّ يضعن غلالة رقيقة على الرأس أو الوجه.

وأعرف أنّ الشيعة يؤدّون الفروض. يصلّون ويصومون، الأتقياء منهم يحرصون على دفع «الزكاة» وأداء فريضة الحجّ إلى بيت الله الحرام. وأعرف أنّهم يقدّسون كتابهم القرآن الكريم، وبعضهم، تأكيداً لحرارة القسم، يقسم باسمه. كانت أمي في بعض الأصابيح تقرأ بصوتها العذب آيات منه قبل أن ننهض نحن من النوم، وتنصرف هي إلى تدبير أمور العائلة الكبيرة التي كنتُ صغرى بناتها. كان لقراءتها وقع ملتبس على نفسي يراوح بين طمأنينة عميقة وحزن شفّاف. وهو ما يمكننا وصفه بالشجن.

back to top