سرقة أرواحنا!

نشر في 25-03-2015
آخر تحديث 25-03-2015 | 00:01
 طالب الرفاعي أشعر أن لحظات أعمارنا صارت تحترق وقوداً مجانياً لرسائل التلفون، وتغريدات "التويتر"، ومواضيع "الفيسبوك" وصور "الإنستغرام"، ورسائل "الإيميل"، ومحركات البحث على شبكة الإنترنت، ومواد الـ"يوتيوب" الفنية والثقافية والرياضية. جميع وسائل التواصل والاجتماعي هذه وغيرها باتت تسرق كلاً منا مما يحيط به، وتبتعد به عن نبض لحظته لتعتاش على لحظات عمره.

الخيار صعب، وربما صعب جداً، بين الابتعاد عن حياة وعالم وسائل التواصل الاجتماعي وبين الانغماس فيه. ويتخذ هذه الأمر بعداً مختلفاً بالنسبة للكاتب، والكاتب الشاب تحديداً. العديد من الكتّاب الشباب يرون في التواصل مع الآخر عبر شبكات التواصل درباً للتعارف والمتعة والشهرة والانتشار، دون أن يدركوا أن هذا صحيح في وجه منه، وقاتل في الوجه الآخر.

إذا كان من شيء يشترك فيه جميع كتّاب العالم الكِبار الذين خلّفوا إرثاً إبداعياً عظيماً فهو إخلاصهم للقراءة والقراءة المتعمقة في الأدب والفلسفة والشعر. وهم في كل ما كتبوا إنما كانوا يخطون تجارب حياتهم بقناعاتهم وخيالاتهم، مطعّمة بفيض ثقافتهم التي اكتسبوها عبر القراءة. لذا فالأمر لا يحتاج لكثير جدل، باستحالة أن يبني كاتب لنفسه مجداً دون القراءة. ومؤكد أن الانشغال بعوالم مواقع التواصل الاجتماعي، ما عاد يأتي على حساب القراءة وحدها، بل صار يأكل لحظات أعمارنا الأجمل، حتى ونحن وسط لقاء أحبتنا الأقرب!

أحد الكتّاب الشباب أخبرني، وهو يهدي إليّ إصداره الجديد، أنه ما عاد يفارق تلفونه الذكي حتى أثناء قيادته للسيارة. ويبدو الأمر دالاً بأن وصل العالم الافتراضي، يأتي على حساب روح الحياة نفسها. وحين سألت الكاتب الشاب عن آخر قراءاته، ردَّ عليَّ بصراحة:

"لا وقت لدي للقراءة".

فارقني مستعجلاً بعد أن تمنّى عليَّ قراءة كتابه، فلاحت على وجهي ابتسامة خجلة. فكيف بمن لا يقرأ أن يطلب من الآخر أن يقرأ نتاجه؟ وكيف بمن لا يقرأ أن يحسن الكتابة؟

في الكويت جيل من الشباب متحمس لنشر أعماله القصصية والروائية والشعرية، وهذا مفرح للقلب لأن الشباب هم رهان المستقبل الأجمل. لكن ما يهم مصارحة الشباب فيه هو أن لا شيء يمكن أن يميّز أحدهم عن الآخر سوى القراءة. وأن أي شاب يتخذ من القراءة صديقاً له فإنه بذلك يضرب موعداً مؤكداً مع الكتابة، بشيء من الموهبة، وشيء من نصيحة من سبقوه.

الجامعات والمعاهد العالمية الأميركية والغربية، ومنذ ما يزيد على النصف قرن، قالت كلمتها الواضحة بأن الكتابة الإبداعية في أي جنس أدبي هي علمٌ كأي من العلوم. وأن الموهبة في أفضل حالاتها قد تمثل ما

نسبته (4 في المئة) من العطاء الإبداعي للكاتب، في حين يمثل الدرس والعلم والتعلم النسبة الكبرى. ولذا فإن الجامعات والمعاهد الغربية تعتمد مبدأ الورش الفنية، لصقل موهبة الشاب الكاتب، وذلك عبر قراءة النماذج الإبداعية الإنسانية الخالدة، وعبر كتابة تستند إلى مدرّس يؤمن بقواعد وأصول الكتابة الإبداعية.

استعجال النشر لدى الشباب يشكّل هاجساً مقلقاً، وبالنظر إلى توفر سبل النشر وسهولتها، فإن الأمر يبدو مغرياً تصعب مغامرته. ولذا صارت المكتبة الكويتية تعج بالعديد من الإصدارات الشبابية التي يلزم الناقد التفتيش بينها ليقع على نتاج مكتمل، يتوفر على العناصر الفنية الضرورية لكل جنس أدبي.

أرى أنه من الصعب التوفيق بين الانتماء إلى عالم وسائل التواصل الاجتماعي وبين خلوة القراءة. وإذا كانت القراءة تقدم زاداً للفكر والروح، فإن مواقع التواصل تسرق نبض أرواحنا، وتعتاش على تسطيح فكرنا. وليس أقل من أن نقنن ونجدول توزعنا بين تلك وهذه، وإلا سرق التلفون الذكي منا أرواحنا الغالية!

back to top