جورج أورويل 1984 (2)

نشر في 24-03-2015
آخر تحديث 24-03-2015 | 00:01
 د. نجمة إدريس تضرب رواية "1984" لجورج أورويل على وتر البعد الإنساني أكثر من أي أبعاد سياسية أو فكرية محتملة. لذلك لم يشأ الكاتب أن يجعلها مجرد منشور سياسي فجّ أو نافذة من غبار تطل على نُذُر مستقبلية مفجعة، وإنما وظف قدراته الأدبية والحكائية لصياغة فكرته في قالب إنساني مؤثر.

"ونستون سميث" كان الشخصية مدار الحدث، رجل في التاسعة والثلاثين، يعيش في مدينة لندن عام 1984م، وهو الزمن المستقبلي (*) الذي يحمل نبوءة انهيار أنظمة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ومشاريع التنمية البشرية وانحسار العلوم والتكنولوجيا سوى ما كان في خدمة الدمار والتسلح. أما مدينة لندن فقد صورها الكاتب بقعة من الكآبة والتلوث والفقر والأحياء الموبوءة بالرعاع والرثاثة وندرة الطعام، بعد أن آلت معالمها إلى القِدم والبِلى، وحولت القذائف الصاروخية الغامضة المصدر أحياءها إلى أنقاض وأوكار للبؤس والفاقة. هذا حال العامة الذين استكانوا لهذا النمط من الحياة وألفوه، بينما ظل الحزب الحاكم بتدرجاته المعروفة يتمتع بامتيازات وصلاحيات تتدرج حسب الرتبة والمكانة.

أما علة "ونستون"، ومدار قلقه، فقد كان التفكير والتأمل في واقع حياة بهذه النوعية. فهو رغم اعتباره من رجال الحزب، فإنه ليس سوى رقم أو ترس من الطبقة العاملة التي تعمل ضمن منظومة آلة "الأخ الأكبر"، ينفذ ويطيع ويمتثل دون التجرؤ على التساؤل أو التفكير خارج دائرة المسموح به. وحسب طبيعة عمله في "وزارة الحقيقة" – وهذا تعريف تهكمي يعني النقيض – كان يقوم بتحريف كل ما يرد إليه من أخبار تخص حروب بلده مع القوى الأخرى، وبما يتناسب مع تعاليم قادة الحزب. كما يطال التحريف الوقائع التاريخية المكتوبة أو المصورة، وإعدام كل المعلومات التي تتعلق بالأفراد الذين اختطفوا أو اعتقلوا أو تمت تصفيتهم حتى كأنهم لم يوجدوا في الأصل. وكان على "ونستون" أن يكرّس سحابة نهاره لهذا اللون من العمل الآلي، وتحت رقابة مستمرة لشاشات الرصد التي تترصده في عمله وبيته، وأنى سار أو نام أو تناول الطعام. ورغم أن "ونستون" كان قد وعى منذ طفولته على هذا الواقع المناقض للكرامة الإنسانية، بل تم تدريبه وبرمجته طوال حياته على أن يكون هذا الرقم الآلي الصامت، إلا أن بقايا من فطرة بشرية قادرة على التفكير والشعور والفهم ظلت عالقة في ذهنه، الأمر الذي عاد عليه بنتائج وخيمة.

أما بوادر الاختلاف عند "ونستون" فقد بدأت بكرهه لمراقبة الشاشات الدائمة، ثم بتدوينه جملة من التساؤلات المتشككة في دفتر ملاحظات يخصه حول حقائق التاريخ وسير بعض الشخصيات التي أدينت بالخيانة وهذا من الأمور المجرّمة. ثم وسّعت مشاعر الكراهية والشك مداها نحو الأخ الأكبر، وهذا ما كانت تلتقطه شاشات الرصد في تعابير الوجه والحركات العصبية لدى "ونستون". وأخيراً اكتملت دائرة الجرم بوقوعه في حب زميلته "جوليا"، الأمر الذي يُعد من محظورات مبادئ الحزب.

يتم اعتقال "ونستون"، ويخضع لسلسلة من الاستجوابات والتحقيقات تحت التعذيب، الذي تركه في النهاية هيكلاً لبقايا جثة بشرية بلا عقل أو مشاعر. وكان الهدف النهائي من هذا الإجراء هو إعادة برمجته العصبية والعقلية، ليتخلص من داء التفكير وسطوة المشاعر، وأخيراً حتى يتأهل من جديد ببرمجة أخرى يكون من أولوياتها الولاء التام لمبادئ الحزب والحب المطلق للأخ الأكبر. وهذا ما كان.

 يقول الكاتب في آخر فقرة من الرواية بعد خروج ونستون من المعتقل: "حدّق ونستون في الوجه الضخم، لقد استغرق الأمر أربعين سنة حتى فهم معنى الابتسامة التي كان يخفيها الأخ الأكبر تحت شاربيه الأسودين، وقال في نفسه: أي غشاوة قاسية لم يكن لها داعٍ تلك التي رانت على فهمي، وعلام كان العناد والنأي من جانبي عن هذا الصدر الحنون. وسالت دمعتان سخيتان على جانبي أنفه. وكان لسان حاله يقول: لكن لا بأس، لا بأس فقد انتهى النضال، وها قد انتصرتُ على نفسي وصرتُ أحب الأخ الكبير".

بعد هذه السياحة المرهقة في رواية 1984، لعل أحدنا يتساءل: كم يا ترى من (أخ أكبر) تناسل من دكتاتوريات عديدة وبأشكال وأقنعة وتوجهات شتى، كان هدفها النهائي إفراغ الإنسان من محتواه العقلي وفطرته السليمة؟ وكم من نماذج مبرمجة صاغها (الأخ الأكبر) لتتحول إلى آلات لتخريب وتدمير منجزات الإنسان وتاريخه وآثاره وفنونه وثقافته؟ إن (الأخ الأكبر) باقٍ بيننا وحولنا، تماماً كما تنبأ جورج أورويل وإن بنسخ إقليمية أو عقائدية أو دينية.

• صدرت رواية "1984" عام 1949م.

back to top