رحلة البزول وأيام النزول إمارة المنتفق (1546 – 1913م) (الحلقة الأخيرة)

نشر في 24-03-2015 | 00:01
آخر تحديث 24-03-2015 | 00:01
كانت المنطقة الواقعة بين بغداد والشاطئ الشمالي للخليج العربي تعجّ بالفوضى بعد هجمة المغول، وفي خضم هذه الفوضى، ظهرت إلى الوجود إمارة عربية استطاعت أن تؤدي أدواراً كبيرة على الساحتين المحلية والإقليمية منذ نشأتها منتصف القرن السادس عشر حتى بداية القرن العشرين.

وكان بإمكان الإمارة في بعض فترات قوتها أن تكوِّن دولة مستقلة في مناطق نفوذها، لكن شيئاً من هذا لم يحدث لأن عقلية أمرائها وفكرهم الإداري لم يكن يتجاوز عقلية المشيخة ومنطقها القبلي، وطموحهم لم يكن يتجاوز أيضاً الرضا بالتبعية والمصالح الضيقة، وتوسيع النفوذ والصراعات الداخلية والخارجية كانت جميعها تسير في حدود الفوضى والعقل والأفق المحدود.

ولعل الظروف المحلية كانت مواتية مرات عدة، كما أن العديد من الفرص التي وفَّرتها بعض القوى العظمى لاستقلال الإمارة عن الإقليم العراقي كانت مواتية، لكن كل تلك الظروف والفرص لم تستغل أبداً، أو لم تجد من يستغلها على وجه الدقة، ولذا فإن المرور على تاريخ هذه الإمارة يكون مهماً لسببين منطقيين: أولهما مساحتها والمجاميع القبلية التي انضوت تحتها ومدة بقائها الطويلة، وثانيهما علاقتها بالقوى المجاورة، ما يجعل من تتبع أحوال الإمارة وأحداثها ومحاولة تدوينها تدويناً للمنطقة كلها.

ويعتبر خروج قبيلتي الضفير والبدور من حلف المنتفق ضربة قاصمة، لأنهما القوتان الضاربتان في الحلف وأهم أسلحته، وكان عام 1913 هو العام الذي يعتبر نهاية إمارة المنتفق في حين كانت السنوات الخمس التي تلته تحتسب لإمارة غير موجودة.

مشاكل داخلية

كان لعزل السلطان عبدالحميد وصعود جمعية الاتحاد والترقي أثره على معظم الأقاليم العربية الواقعة تحت حكم العثمانيين، وكان إقليم المنتفق والبصرة من ضمن المتأثرين بالانقسام التركي، حيث انقسمت البصرة بين متصرفها الموالي للحكم الجديد وطالب النقيب المعارض له، وأما سعدون المنصور فقد اختار الموالاة للحكم الجديد خلافاً لابن عمه فالح السعدون المتحصّن بالغراف مع بعض القبائل الموالية له.

ورغم أن سعدون كان مؤيداً بشدة للاتحاد والترقي، فإنه وقف موقف المتفرج في حرب القوات الحكومية ضد قبيلة الأزيرق وعبودة ولم يشارك فيها رغم حقده الدفين على خيون العبيد الموالي لعبدالله فالح السعدون، ويبدو أنه رأى أن يترك معالجة الفوضى في الجزيرة على عاتق القوات الحكومية واتجه هو للسيطرة على منطقة الشامية من لواء المنتفق ومحاربة الرولة في المنطقة الصحراوية الواقعة بين العراق والشام، والتمدّد بالاتجاهين الغربي والجنوبي الغربي حتى توج معاركه الكثيرة بالمعركتين الهامتين مع الرولة ومع أهل الكويت في هدية، وكانت قبيلتا الضفير والبدور

هما قوتاه الضاربتان في كل معاركها، لكن يبدو أن غنائم معركة هدية كانت القشة التي قصمت ظهر العلاقة بين سعدون والقبيلتين، اللتين كانتا غير راضيتين عن طريقة توزيع الغنائم في معظم المعارك السابقة، وباعتبار أن سعدون لم يعط مقاتلي القبيلتين إلا القليل من غنائم معركة هدية الضخمة فقد افترقتا عنه كل على حدة، فاتجهت قبيلة الضفير إلى الصحراء الجنوبية الغربية فلاحقها ووقعت معركة بينه وبينها كان النصر فيها حليف الضفير، في حين اتجهت قبيلة البدور إلى مصيفها على الفرات الذي كانت قد استولت عليه من المراشدة وحلفائهم الموالين لسعدون وحاصر مقاتلوها حصن المايعة التابع لسعدون، لكن ابنه عجمي استطاع إقناع البدور بفك الحصار والصلح مع أبيه سعدون باشا، في حين قاد ابن رشيد الذي تحسنت علاقته بسعدون بعد استيلاء الاتحاد والترقي على السلطة في إسطنبول وساطة بين سعدون والضفير أدت إلى هدنة بين الطرفين.

مقتل شيوخ البدور

لكن الصلح بين سعدون المنصور وقبيلتي الضفير والبدور، لم يكن في حقيقته سوى هدنة، إذ سرعان ما قبض عجمي السعدون على خمسة من شيوخ قبيلة البدور جاؤوا من ضمن المهنئين بعيد الأضحى في أواخر عام 1910م بإشارة من أبيه، ثم قتلهم مباشرة ما جعل الأمور تذهب إلى غير رجعة بعد هذا التصرف الأحمق، فاتجهت قبيلة البدور إلى الصحراء على عادتها في الشتاء، وهناك بدأ من تبقى من شيوخها بمراسلة القبائل الحانقة على سعدون وفي مقدمتها الضفير، كما بدأت تجهز للمعركة بعد موسم الربيع، لكن سعدون باشا علم بذلك فهاجمها في الصحراء ووقعت معركة محدودة بين الطرفين كان النصر فيها للبدور.

ولم يستمر استعداد البدور طويلاً، إذ سرعان ما تجمع مقاتلو القبيلة واتجهوا إلى قلعة المايعة فحاصروها بعد أن سمعوا بهزيمة سعدون على يد الضفير، وكان عجمي السعدون وبعض وجهاء السعدون في القلعة عند محاصرتها فعلقوا بداخلها، وقد تشجعت بعض العشائر التي عانت ظلم سعدون بعد سماع نبأ هزيمته من الضفير ومحاصرة البدور للمايعة، فتقدمت لمساعدة البدور في الحصار ما جعل الأمر يستفحل بشدة، الأمر الذي حدا بسعدون إلى مراسلة متصرف البصرة عن طريق وكيله هناك محمد العصيمي لإمداده بقوات حكومية، وأمام إلحاح سعدون ووكيله العصيمي أرسل المتصرف سبعة مدافع، وقرابة الثلاثمئة جندي بأربع سفن استطاعت جميعها اختراق الحصار والوصول إلى القلعة وإدخال المؤن والإمدادات والأسلحة، وبعد التطورات الأخيرة انتقل سعدون المنصور من محل إقامته في صحراء الحماطيات التي استقر فيها منذ هزيمته الأولى من البدور إلى الناصرية لقيادة المعركة عن قرب، لكن القبائل المساندة للبدور تحركت لمحاصرة الناصرية، ما جعل الأمور تسير في غير مصلحة سعدون والعشائر الموالية له، فأمنت إحدى العشائر خروجه من الناصرية بعد الاتفاق مع العشائر المحاصرة.

أما في قلعة المايعة فقد استمر عجمي السعدون ومن معه في المقاومة واستمرت قبيلة البدور والقبائل المتحالفة معها بالحصار، لكنها لم تستطع اقتحام القلعة حتى مايو من عام 1911م، وفي هذه الفترة حاولت السلطة العثمانية التخلي عن دعم سعدون باشا بعد أن استفحل العداء بينه وبين قبائل المنتفق، وفي هذه الأثناء بدأت القبائل المحاصرة للمايعة بكتابة الشكاوى للبصرة وبغداد لتبرئة موقفها من تهمة الخروج على السلطة، وتوضيح حجم الظلم الذي وقع عليها، وقد استجابت إسطنبول لهذه الشكاوى بعد أن تطوع بعض وجهاء الإقليم العراقي بتوضيح الصورة وتأييد مطالب القبائل المحاصرة للمايعة، وعلى رأسها البدور الذين هددوا في إحدى شكاواهم بالتحالف مع الشيخ مبارك الصباح والضفير إن لم ينصفوا، وهكذا أرسلت إسطنبول لجنة من الضباط وكبار الموظفين إلى البصرة والتحق بها هناك مجموعة من كبار الموظفين العاملين في إقليم المنتفق، وبدأت اللجنة مهامها في التحقيق لإيجاد مخرج للمشكلة فوصلت الى نتيجة مؤداها الخلاص من سعدون المنصور بإيداعه السجن للتخفيف من حدة غضب القبائل، وفي هذه الأثناء ارتكب سعدون خطأ سيكلفه كثيراً فيما بعد، إذ تحرك من مكان إقامته إلى الزبير مع مقاتليه في خطوة فسرت على وجهين: إما أنها كانت لمفاجأة الضفير الذين جرأوا بقية القبائل على التمرد أو لاستعراض القوة ولفت نظر الأتراك أنه ما زال يحتفظ بقوته.

الرحلة الأخيرة

حين وصل سعدون المنصور إلى الزبير أرسل كتاباً إلى الوجيه طالب النقيب عضو مجلس النواب الاتحادي في إسطنبول عن البصرة والواصل للتو إليها يعلن فيه رغبته في زيارته، وكان ردّ النقيب الترحيب به، وقد أبقى سعدون قواته شمال البصرة ودخل وحيداً، وبعد مبيته في ضيافة السيد طالب النقيب اتجه في الصباح إلى متسلم البصرة تلبية لدعوة أخرى وجهها المتسلم له حالما علم بدخوله البصرة، وهناك اصطحبه بعض رجال الأمن إلى سفينه تجارية راسية قي البصرة بدعوى أن اللقاء سيتم هناك، ومن هناك سارت السفينة إلى بغداد، إذ كان القرار قد اتخذ بالقبض عليه وإيداعه السجن، وبعد عدة أيام من سجنه رحل إلى حلب، حيث بدأت محاكمته هناك، لكن في الخامس والعشرين من نوفمبر عام 1911م وقبل صدور حكم المحكمة توفي سعدون المنصور في سجن حلب، وسرت الإشاعات أنه قتل مسموماً.

الهروب من المايعة

كانت قبيلة البدور وحلفاؤها قد قرروا اقتحام قلعة المايعة، وفي هذه الأثناء كانت الأوامر قد صدرت من السلطات الحكومية بإلقاء القبض على عجمي السعدون لأنه خارج على الدولة، ويبدو أن عجمي كان قد زرع الجواسيس بين القبائل المحاصرة للمايعة، ولذلك استطاع اختراق الحصار ليلا من جهة النهر، وفرّ مع كبار أتباعه تاركاً النساء والأطفال والحراس في القلعة حتى لا يثيروا انتباه المحاصرين، وقد اقتحم مقاتلو البدور القلعة، فلم تحدث أي مقاومة ولم يجدوا إلا النساء والخدم والأسلحة، فاستولوا على القلعة والغنائم وأما النساء والأطفال والخدم فسمحوا لهم بالذهاب إلى الخميسية حسب رغبتهم، في حين كان عجمي السعدون قد اتجه مع أتباعه ومن لحق بهم إلى حائل، حيث لجأ إلى ابن رشيد.

عودة بلا طعم

كان هروب عجمي السعدون من المايعة نهاية للخطر الذي جثم على صدر معظم قبائل المنتفق طوال السنوات التي صعد بها نجم والده سعدون المنصور الذي مارس كل أنواع العنف والبطش على معظم القبائل إلى الدرجة التي أفقد معها إمارة المنتفق وأمراءها كل ميزاتها على مرّ التاريخ، ولم يعد يذكر للإمارة والأمراء سوى صورة الظلم والقسوة التي رافقت الفصول الأخيرة من تاريخها الحافل بالصفحات المشرقة والمظلمة أيضاً، لكن ممارسات سعدون وابنه عجمي السيئة كانت قد أنست قبائل المنتفق كل الأحداث الجميلة قديماً، ويبدو أن عجمي بما أتيح له من فرص للعودة إلى الواجهة لم يحاول أن يتغير الى الأفضل وإن كانت قوته قد تلاشت ولم تعد مثلما كانت عليه أيام والده، إذ جمع قواته بمساعدة أمير حائل والتحقت به قوة من شمر وبعض المرتزقة فأغاروا على قبيلة الضفير وانتصروا عليها نصراً كبيراً أعاد الخوف والرهبة، ثم حصل عجمي على عفو سلطاني بعد وساطة ابن رشيد لدى إسطنبول، لكنه مع ذلك لم يستطع عبور الفرات إلى الجزيرة التي تستقر بها معظم قبائل المنتفق المناوئة له بما فيها البدور الذين استولوا على المايعة وما جاورها من أراض زراعية كانت مملوكة لعجمي في الجزيرة وسكنوها، وظل عجمي يناور في منطقة الشامية التي تقطنها القبائل المؤيدة له، وقد هاجم الضفير مرة أخرى وكانت الهزيمة من نصيبه، فاتجه للاستقرار في المنطقة الواقعة بين سوق الشيوخ والزبير، ولم ينقطع عن مهاجمة بعض القبائل والقوافل المارة من هناك، واستمر على هذه الحال طوال عامي 1913م والعام التالي له، وكانت إمارة المنتفق قد انتهت إلى غير رجعة فيما بقي عجمي السعدون يملك تلك القوة البسيطة والمقاتلين محدودي العدد والعدة، وقد نقل نشاطه كاملاً إلى البصرة وبتوصية من السلطات التركية على ما يبدو لممارسة التضييق على السيد طالب النقيب الذي بدأ ينتقل من صف الاتحاد والترقي إلى المعارضة بعد أن قوبل بالشك والريبة من طرف مسؤولي فرع جمعية الاتحاد والترقي في بغداد والبصرة، لما كان له من مكانة لدى السلطان المخلوع عبدالحميد الثاني، واستمر عجمي السعدون بمناكفة طالب النقيب طوال الفترة التي سبقت دخول القوات البريطانية الى جنوب العراق، ومع دخول القوات البريطانية التحق عجمي ومن معه بالقوات التركية والقبائل العربية المناصرة لها التي تجهزت لمعركة فاصلة مع القوات البريطانية، وحين وقعت معركة الشعيبة كان الانتصار من نصيب البريطانيين، فانسحب من تبقى من القوات المدافعة إلى بغداد وكان عجمي السعدون أحد هؤلاء المنسحبين، ومن بغداد اتجه إلى تركيا فاستقر في جنوبها مكرماً لما قدمه لتركيا من خدمات، لكن عجمي طلب وهو في محل إقامته في تركيا من وكيله في البصرة محمد العصيمي التواصل مع القيادة البريطانية التي سيطرت على العراق للنظر في إمكانية عودته الى العراق وإعلان ولائه لبريطانيا، فسافر العصيمي الى مصر لمقابلة المسؤولين البريطانيين هناك، لكن البريطانيين بدورهم رفضوا عودته بشكل قاطع، بل أصدروا أوامرهم بعدم السماح للوكيل العصيمي بالعودة إلى العراق أيضاً، ما حدا بالوكيل إلى الاستقرار في حلب لتنتهي الفصول الأخيرة من حكاية طويلة لإمارة عربية لم يقدر لها البقاء فذهبت إلى غير عودة.

المصادر:

1- أربعة قرون من تاريخ العراق القريب، س. ه. لونكرك ترجمة جعفر الخياط، بغداد.

2- إمارة المنتفق وأثرها في تاريخ العراق والمنطقة الإقليمية، حميد حمد السعدون، عمان.

3- دليل الخليج، ج. لوريمر، الدوحة.

4- التحفة النبهانية في تاريخ الجزيرة العربية، محمد خليفة النبهاني، القاهرة.

5- تاريخ العراق بين احتلالين، عباس العزاوي، بغداد.

6- تاريخ المنتفق، سليمان فائق، ترجمة محمد خلوصي، بغداد.

7- تاريخ السعدون، عبدالله الناصر، بغداد.

8- فصول من تاريخ العراق الحديث، جيرترود بيل، بيروت.

9- تاريخ الكويت السياسي، حسين خلف الشيخ خزعل، بيروت.

10- الكويت وجاراتها، هارولد دكسون، ترجمة فتوح الخترش، الكويت.

11- عرب الصحراء، هارولد دكسون، ترجمة سعود غانم الجمران، الكويت.

* كاتب وباحث كويتي

back to top