عملية إزالة السموم

نشر في 24-03-2015
آخر تحديث 24-03-2015 | 00:01
 إيكونوميست تنجح لوبان بشكل متزايد في جذب الناخبين من اليسار، خصوصاً في البلدات التي كانت تابعة سابقاً للشيوعية في الشمال الصناعي، كذلك تحقق تقدماً متواصلاً بين النساء والشبان، ففي الانتخابات الأوروبية السنة الماضية، كان حزبها الأكثر شعبية بين ناخبي الطبقة العاملة.

صرخت فتاة مراهقة: "رأيتها!"، وصاحت صديقتها: "حصلت على صورة!". في حين كانت مارين لوبان، زعيمة الجبهة الوطنية، تنزل من سيارتها بزجاجها الداكن إلى شوارع هذه البلدة الريفية الهادئة في سهول بيكاردي، عوملت كنجمة روك صغيرة، ففي تغيير واضح لما شهدناه في الماضي، لم يبدُ أحد خجلاً في التعبير عن حماسته لحزب شعبوي يميني متطرف أو لزعيمته الأنيقة.

اندفع أزواج متقاعدون وأمهات يجررن عربات أطفال إلى الأمام، في حين ارتفعت الهواتف الذكية في الهواء للالتقاط هذه اللحظة، ولكن حتى قبل وصول لوبان في ذلك اليوم المشرق وسط الأسبوع، تجمع حشد على الرصيف على أمل أن يلمحوها، تقول امرأة في منتصف عمرها بصراحة مؤثرة: "ربما تكون الشخص الذي ينقذ فرنسا".

يشكل الترحيب الحار الذي لقيته لوبان في بلدة دولون الفرنسية الشمالية مؤشراً على مدى تحويلها حركة هامشية كانت في الماضي سامة، وتشوبها روابط مع النازية الجديدة ومعاداة السامية. فقد أصبحت هذه الحركة اليوم أشبه بحزب محترم يطمح إلى الإمساك بزمام الحكم، فقبل خمس سنوات كان مَن يشعر من الناخبين بالانجذاب إلى والدها جان ماري، الذي كان سابقاً عضواً في قوات شبه حكومية وأسس الحزب عام 1972، يبقون تأييدهم هذا مخبأ حتى يوم الانتخابات، أما اليوم فما عادوا يعربون عن تحفظ مماثل تجاه ابنته.

خلال الحملة الانتخابية التي تسبق انتخابات المقاطعات في فرنسا في أواخر هذا الشهر، كان الحشد في سوق دولون كثيفاً، وراحت لوبان تخترقه ببطء شديد، وبعد أن مرت بمتجر أدوات الصيد Les Deux Ailes، الذي يعرض بنادقه في الواجهة كما لو أنها حلوى فاخرة، توقفت لوبان في شارع السوق لالتقاط صور selfie، وتقبيل الأولاد، والانحناء لمصافحة الجالسين في كراسٍ مدولبة، ولا شك أن هذه شخصية سياسية تعلو شأناً يوماً بعد يوم، وهي تدرك ذلك. أعلنت بابتسامة عريضة: "نسير على الدرب نحو... السلطة".

تشير استطلاعات الرأي إلى أن الجبهة الوطنية ستكون الفائز خلال الجولة الأولى من الاقتراع في الانتخابات التي عقدت في الثاني والعشرين من مارس، حاصلة على ما لا يقل عن 30% من الأصوات، وستكسر هذه النسبة أفضل أرقامها السابقة مع 25% في انتخابات البرلمان الأوروبي السنة الماضية. صحيح أن الجبهة قد لا تنجح في الفوز في الكثير من المجالس المحلية، في حين يتحد الناخبون من اليسار المعتدل واليمين المعتدل ضدها في الجولة الثانية، لكن هذا لا يشكل مصدر قلق بالنسبة إليها، فتوزع هذه الجبهة 7648 مرشحاً في 95% من الدوائر الانتخابية، بعد أن كان العدد الثلث عام 2011، وتشكل هذه خطوة في لعبة أطول: الفوز بمئات المقاعد، حتى في المعارضة، بغية بناء جيش من المسؤولين المنتخبين في مختلف أنحاء البلد يساهمون في إعداد لوبان للانتخابات الرئاسية عام 2017.

حتى وقت ليس ببعيد، كان من المستحيل التفكير في فوزها المحتمل في منافسة ستُعقد بعد سنتين من اليوم، واللافت للنظر أن استطلاعات الرأي كانت تعطي لوبان فرصة جيدة لبلوغ الجولة الثانية، بالإطاحة بأحد المرشحين الرئاسيين الأساسيين في اليسار أو اليمين، وسيشكل هذا تكراراً للإنجاز الذي حققه والدها عام 2002، حين أطاح بالمرشح الاشتراكي ليونال جوسبان ليخسر أمام جاك شيراك من اليمين الديغولي في المرحلة الأخيرة من الانتخابات. أما اليوم، فحض رئيس الوزراء الاشتراكي مانويل فالس نفسه الفرنسيين على إدراك احتمال فوزها، فأعلن بتشاؤم عبر الإذاعة الفرنسية في الثامن من مارس، محذراً الناخبين من أنها قد تفوز في الانتخابات الرئاسية عام 2017: "أخاف على بلدي".

لكن احتمال أن تصبح لوبان رئيسة الجمهورية لا يزال بعيداً، فتشير كل استطلاعات الرأي تقريباً إلى أنه قد تُهزم خلال الجولة الثانية، ورغم ذلك، يبقى بروزها كخطر حقيقي يهدد السياسيين الرئيسين مصدر اضطراب في النظام السياسي الفرنسي القديم، في حين تسير لوبان بثقة على الدرب من الاحتجاج إلى السلطة. قد نبالغ على الأرجح إن ادعينا، كما تفعل هي في الملصقات الإعلانية، أن الجبهة الوطنية تشكل "الحزب الأول في فرنسا"، ولكن مما لا شك فيه أن الهيمنة القديمة للحزبين الرئيسين في اليمين واليسار قد زالت ليحل محلها نظام ثلاثي الأحزاب تزداد فيه لوبان قدرة على تحديد شروط المناقشة. ومن المعبر بالتأكيد أن يخصص فالس معظم مقابلته الإذاعية لمهاجمتها، علماً أن زعيم المعارضة، نيكولا ساركوزي، يقوم بالمثل غالباً.

ولكن ما مدى التغيير الذي أدخلته لوبان حقاً إلى الجبهة الوطنية؟ الجواب باختصار أن عملية التطهير ما زالت قيد التنفيذ، ومن المؤكد أن الصور القاسية والهوس بهزيمة فرنسا في الحرب الاستعمارية في الجزائر، اللذين شكلا أبرز خصوصية في أسلوب والدها، قد زالا. فقد دعت المحرقة النازية "ذروة  الوحشية"، ما يمثل تغييراً كبيراً عما اعتمده والدها الذي اشتهر بوصفه غرف الغاز النازية بأنها "أحد تفاصيل" تاريخ الحرب العالمية الثانية. في الكثير من الدول الأوروبية الأخرى، حققت الأحزاب اليمينية واليسارية المناهضة للنظام نجاحاً كبيراً بالتشديد على مدى اختلافها عن النظام القديم، وفي المقابل تبقى أولوية لوبان الأولى تصوير نفسها كسياسية محترمة لا غاضبة، فيحضر نائباها البرلمانيان، وأحدهما ابنة أخيها ماريون ماريشال لوبان، المناظرات ويشاركون طوعاً في اللجان. كذلك تملك 12 عمدة يديرون مجالس بلدية منذ عام 2014، منجزين أعمالاً روتينية مثل وضع الميزانيات، والمشاركة في الاحتفالات، وقص الشرائط.

على الورق، يبدو أسلوب عملها منافياً للمنطق أكثر منه معارضاً أخلاقياً، فقد وعدت لوبان بزيادة الضرائب على الواردات، والعودة إلى الفرنك الفرنسي، ورفع الأجور ورواتب التقاعد، وخفض سن التقاعد إلى الستين، كذلك ترغب في الحد على نحو كبير من الهجرة بدون وقفها، فضلاً عن إعادة التفاوض بشأن المعاهدات الأوروبية بهدف فرض الضوابط على الحدود مجدداً. أما الخطوات الأسوأ في طرح لوبان فتشمل رغبتها في بناء علاقات أقوى مع روسيا بقيادة فلاديمير بوتين، والحرص على أن تخدم الدولة الفرنسية مواطنيها بشكل أفضل من الأجانب، والعودة إلى تطبيق عقوبة الإعدام.

لا يستطيع هذا الحزب التخلص من تاريخه القاتم برمته، ويُعتبر هذا أحد الأسباب التي دفعت حزب استقلال المملكة المتحدة، الذي يسير في طليعة الحركة الشعبوية المناهضة لأوروبا في بريطانيا، إلى رفض الانضمام إلى مجموعة واحدة مع الجبهة الوطنية في البرلمان الأوروبي، فالإشارات المبطنة المناهضة للأجانب، التي تلمح إلى أمور لا تُقال بصراحة، ما زالت تتمتع بمكانة بارزة في أسلوب هذا الحزب وجاذبيته.

على سبيل المثال، تحرص لوبان على التنديد بالإسلام السياسي (طموح تحقيق النفوذ باسم الإسلام وتحدي العلمانية الفرنسية) لا الإسلام كإيمان، لكن الناخبين يستطيعون قراءة هذا كشفرة إن شاؤوا، كذلك لا تزال لوبان مصدر جذب للنماذج الكريهة. على سبيل المثال، شُطب الشهر الماضي أحد المرشحين في الجنوب الغربي عن لائحة الحزب لأنه نشر تعليقات مناهضة للسامية على موقع فيسبوك، كذلك تطرد لوبان من حين إلى آخر مسيئين مماثلين بسبب تعصبهم العرقي، لكنها لا تختار دوماً الأصدقاء الجيدين، فقد أخذ حزبها قرضاً بقيمة 9 ملايين يورو (10 ملايين دولار) من مصرف روسي له روابط مع الكرملين، وفي حالة أخرى، طالب البرلمان الأوروبي بتحقيق لمحاربة الغش يتناول احتمال استخدام الجبهة الوطنية موظفين عامين برلمانيين.

تكمن مشكلة الأحزاب الرئيسة في أن هذه الفضائح الصغيرة لا تؤثر على ما يبدو في شعبية لوبان، ففي وقت ما زالت فيه البطالة مرتفعة والنمو متدنياً، يبقى استخدام الجبهة الوطنية سياسة الظهور بمظهر الضحية، التي تترافق مع انتشار خيبات الأمل بسبب الأحزاب التقليدية وعدم وفاء النخبة بوعودها، الأكثر أهمية. تذكر كريستال إيفير، نائبة عمدة دولون، حيث تبلغ البطالة ضعف المعدل الوطني مع 20% وتُقارب الهجرة الصفر في المئة: "يشكل التصويت للجبهة الوطنية عقوبة للطبقة السياسية. لم تعد السياسات تملك قيمة حقيقية، مما يدفع الناس إلى اللجوء إلى التطرف".

وهكذا تنجح لوبان بشكل متزايد في جذب الناخبين من اليسار، خصوصاً في البلدات التي كانت تابعة سابقاً للشيوعية في الشمال الصناعي، كذلك تحقق تقدماً متواصلاً بين النساء و(تماشياً مع الموجة المنتشرة في أوروبا) الشبان، ففي الانتخابات الأوروبية السنة الماضية، كان حزبها الأكثر شعبية بين ناخبي الطبقة العاملة.

من الممكن في دولون الشعور بخيبة أمل هادئة إنما عميقة بسبب الوضع الحالي، في حين يلملم أصحاب المتاجر الأزهار والخبز والسلع الأخرى التي لم تبع في نهاية يوم السوق، يقول رجل متقاعد: "نحتاج إلى شخص مثلها، فهي تدافع عنا"، وكلما زاد هوس اليمين واليسار بالجبهة الوطنية، تحسن أداؤها، أما لوبان من جهتها، فتضحك على "الجنون الجماعي" بشأنها: استيلاء العاملة الصغيرة على المؤسسة بأكملها، وتعلن لوبان بفرح: "فيما يحاربون الجبهة الوطنية، نحارب نحن من أجل الفرنسيين".

back to top