رحلة البزول وأيام النزول إمارة المنتفق (1546 – 1913م) (الحلقة السابعة)

نشر في 22-03-2015 | 00:01
آخر تحديث 22-03-2015 | 00:01
كانت المنطقة الواقعة بين بغداد والشاطئ الشمالي للخليج العربي تعجّ بالفوضى بعد هجمة المغول، وفي خضم هذه الفوضى ظهرت إلى الوجود إمارة عربية استطاعت أن تؤدي أدواراً كبيرة على الساحتين المحلية والإقليمية منذ نشأتها منتصف القرن السادس عشر حتى بداية القرن العشرين.

وكان بإمكان الإمارة في بعض فترات قوتها أن تكوِّن دولة مستقلة في مناطق نفوذها، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، لأن عقلية أمرائها وفكرهم الإداري لم يكونا يتجاوزان عقلية المشيخة ومنطقها القبلي، وطموحهم لم يكن يتجاوز أيضاً الرضا بالتبعية والمصالح الضيقة، وتوسيع النفوذ والصراعات الداخلية والخارجية كانت جميعها تسير في حدود الفوضى والعقل والأفق المحدود.

ولعل الظروف المحلية كانت مواتية مرات عديدة، كما أن العديد من الفرص التي وفرتها بعض القوى العظمى لاستقلال الإمارة عن الإقليم العراقي كانت مواتية، لكن كل تلك الظروف والفرص لم تستغل أبداً، أو لم تجد من يستغلها على وجه الدقة، لذا فإن المرور على تاريخ هذه الإمارة يكون مهماً لسببين منطقيين: أولهما مساحتها والمجاميع القبلية التي انضوت تحتها ومدة بقائها الطويلة، وثانيهما علاقتها بالقوى المجاورة، مما يجعل التتبع لأحوال الإمارة وأحداثها ومحاولة تدوينها تدويناً للمنطقة كلها.

وبينما أصبحت الإمارة تباع في المزاد على يد توفيق باشا والي بغداد في النصف الثاني للقرن التاسع عشر، برز إلى الواجهة أعظم أمراء المنتفق على الإطلاق، لتتسع حدود الإمارة بشكل لم تعرفه طوال تاريخها.

محاولة لغزو الكويت

بعد وفاة عيسى محمد السعدون خلفه أخوه بندر بتعيين من والي بغداد الجديد نجيب باشا، وكان بندر مقرباً للشعراء والمداحين ميالا للهدوء والجلوس لاستقبال الزوار، واشتهرت مدائح الشاعر عبدالله بن ربيعة له، لكنه في عام 1844م أي بعد مشيخته بعام واحد أمر بتجهيز حملة لغزو الكويت دون أن يعرف سبب هذا الغزو، وقد بدأت حكاية الغزو بعد انهيار أجزاء من سور الكويت الثاني، مما أثار طمع بندر وخيل له سهولة نجاح مثل هذا الغزو، ويبدو أن دوافع الغزو لم تكن تنطلق من أسباب منطقية، ولم تأت إلا لدوافع الغنائم وما جبلت عليه مناطق البادية من استغلال الفرص وكسب الغنائم، وحين علم أهل الكويت بتهيؤ المنتفق لغزوهم شرعوا ببناء ما تهدم من سورهم، وأرسل حاكم بوشهر عبد الرسول آل نصر مدافع نصبت على أطراف السور لضرب المعتدين، وقد تحركت القوات المنتفقية بقيادة بندر السعدون نفسه في أول الأمر واستقرت في ملح جنوب الكويت، وفي ملح زاره صديقه عبدالرحمن الدويرج وهو من أهالي الكويت، وكان ذا تواصل مع بندر السعدون، وحين التقاه أخبره أن أهل الكويت قد استعدوا لقتاله، وقد دججوا أنفسهم بالسلاح، وبنوا سورهم وجهزوا المدافع وجهزوا السفن لنسائهم وأطفالهم وما يملكون من أشياء ثمينة، فإن انهزموا أبحروا بسفنهم فلا تجد غنائم لتكسبها، وقد كسبت عداء الكويتيين وعلى رأسهم جابر الصباح الذي لم يأتك منه شر في يوم من الأيام، وهو كريم وحليم فاتق شره، ويبدو أن عبدالرحمن الدويرج استطاع إقناعه بعدم جدوى غزو الكويت، فغادر مع مقاتليه ملح عائداً الى لواء المنتفق.

وقد كانت علاقات بندر السعدون تتراوح بين الجيدة والمتوترة مع والي بغداد الذي كان يطالب بزيادة الجراية السنوية باستمرار منذ عام 1845م حتى وفاته في عام 1848م.

مشيخة بلا معالم

بعد وفاة بندر لم تستقر الإمارة على أحد لمدة طويلة يمكن معها أن تظهر معالم شخصية الأمير من خلال أعمال يقوم بها أو أحداث يشارك فيها، وغير ذلك من الأمور التي ترتبط بالإمارة أو المشيخة، فبعد وفاة بندر خلفه أخوه فهد بمباركة من بغداد، وسط تنافس ودسائس بين أبناء السعدون كعادتهم، وقد توفي فهد بعد عام من توليه الإمارة ليخلفه فارس بن عجيل السعدون بتعيين من والي بغداد في عام 1849م، وكان عمله أشبه بجابي الأموال، وعدا ذلك لم يكن لفارس أعمال تذكر، وحين بدأت أطماع منصور بن راشد في الإمارة وجد التأييد من العديد من وجهاء قبائل المنتفق الناقمين على فارس زيادة الرسوم عليهم خصوصا القبائل الفلاحية ومن كانوا يعرفون بالمعدان، وخلال عام من التنافس، تمكن منصور أخيراً من أخذ الإمارة عنوة في عام 1851م وبتأييد من والي بغداد الجديد رشيد باشا الذي وضع فارس في الإقامة الجبرية في بغداد، وقد بدأ والي بغداد بتوجيه اللوم إلى منصور منذ بداية توليه الإمارة لتقصير المنتفق في دفع الجرايات السنوية، وهو الأمر الذي أجبر منصور على تقديم عريضة موقعة من شيوخ المنتفق كافة توضح المبالغ والهدايا السنوية التي دفعتها إمارة المنتفق الى بغداد والبصرة طوال السنوات الأربع الماضية، لدحض دعاوى محصلي الجبايات والبطانات العثمانية الفاسدة التي لم تكن تورد ما يصلها كاملا.

وقد تسببت هذه العريضة في عزل منصور من المشيخة، وتعيين فهد علي الثامر السعدون مكانه على أن يصلح ما ارتكبه منصور من أخطاء في أمور الجبايات، لكن فهد الثامر عجز عن إصلاح ما التزم به أمام الوالي، مما عجل في إنهاء مشيخته التي لم تكمل العام، وقد جاء تعيين صالح بن عيسى السعدون بناء على ظروف موضوعية خففت من الشروط والالتزامات التي كانت من الممكن أن تفرض على صالح أو يلتزم بها من أجل نيل المشيخة، حيث بدأ الضجر بأوساط المنتفق ينتشر على نطاق واسع يكاد يقترب من الثورة، في حين كانت بعض القبائل القوية من خارج حلف المنتفق قد ثارت فعلا رافضة الظلم والجرايات الباهظة مثل قبيلة زبيد، وقد كان من المتعارف عليه في مثل هذه الحالات، وكما جبلت عليه أعراف العثمانيين، إصلاح العلاقة مع طرف معين مقابل مشاركته في قمع الطرف الآخر.

لكن صالح بدأ بالتذمر نتيجة عجزه عن الوفاء بالالتزامات المالية تجاه الدولة، حيث كان قد وافق بعد تخفيض الالتزامات على ثلثي محصول النخيل والمحاصيل الزراعية الأخرى على سائر القبائل الزراعية، وثلثي منتوجات الزبدة والأصواف والمواشي على العربان والشاوية، وعشرين قرشاً على كل فرد من أبناء المنتفق سنوياً، بالإضافة إلى ضرائب على جرائم القتل بعيداً عن الدية وضرائب البضائع التي تعبر النهر والبر عبر سوق الشيوخ، وقد قام الوالي بعزله بعد عجزه عن سداد الالتزامات المالية بمواعيدها، وفي هذه الأثناء طالب منصور بن راشد بإعادته الى المشيخة من جديد وإلا فسيهاجم البصرة، فاضطر متسلم البصرة نامق باشا لإصدار قرار بتعيينه أميراً للمنتفق، وهو القرار الذي لم يرق لوالي بغداد، فأصدر أوامره بخلعه من الإمارة واعتباره خارجاً عن الدولة إذا رفض التنفيذ حالا، وقد رفض منصور التخلي عن الإمارة كما كان متوقعا وعسكر في سوق الشيوخ، وخلال معسكره هناك اتصل ببعض الناقمين على الوالي مثل قبيلتي زبيد والخزاعل اللتين شاركتاه التمرد، ووقعت المعركة بين قوات بغداد والحلف الثلاثي في مكان يدعى المغيسل كان النصر فيها حليف المنتفق وزبيد والخزاعل، وكعادة ولاة بغداد اضطر الوالي إلى إقرار منصور الراشد على المشيخة شريطة عدم خروجه على السلطة مرة أخرى، في حين استدعى صالح بن عيسى الى بغداد وأودعه السجن دون سبب يذكر، وبعد استقرار الأمور بدأ الوالي رشيد باشا يقدم الطلبات لمنصور ومنصور يقدم التنازلات باستمرار، فكان أول الغيث موافقته على زيادة الالتزامات المالية، ثم موافقته على تشييد حصن للقوات العثمانية في سوق الشيوخ محطة الجمارك الوحيدة في لواء المنتفق، وأهم الموارد المالية للإمارة، ثم تلاها استقطاع لواء السماوة من إمارة المنتفق وإلحاقه ببغداد مباشرة، وقد قام منصور بوضع شيخ قبيلة بني حكيم الرافض لاستقطاع لواء السماوة في سجن الشطرة تنفيذا لأمر والي بغداد، وفي عام 1856م وبعد أن نفذ منصور الراشد كل ما كان مطلوبا منه تدخلت القوات التركية المرابطة في سوق الشيوخ، والتي كان منصور نفسه قد وافق على وجودها الى تجريده من الإمارة بأمر مباشر من والي بغداد. لكن رشيد باشا والي بغداد ذهب بعيداً في إحداث تغييرات سياسية وإدارية تجاوزت مسألة عزل منصور الراشد من إمارة المنتفق، فكان أول قراراته تعيين حسين باشا قائد القوة المرابطة في سوق الشيوخ والتي كانت لها اليد الطولى في عزل منصور متصرفا لسوق الشيوخ، تجبي له الجمارك بعيداً عن إمارة المنتفق كما جرت العادة، بل تجاوز الأمر ذلك إلى اعتماده محصلا للالتزامات المالية المفروضة على إمارة المنتفق والممثل الرسمي لبغداد، بحيث يرجع له بندر ناصر السعدون أمير المنتفق الجديد في القضايا التي يتعامل فيها مع السلطة العثمانية، وربما غابت أهمية المشيخة وأدوارها من الروايات والمراجع التاريخية المختصة عن تلك الفترة، فلم تهتم بنقل الأحداث والأسماء، وهو الأمر الذي لم يرد لبندر فيه ذكر لدى المؤرخين إلا نادراً طوال عامي 1856 و1857م، كما استقطعت العديد من الأملاك التابعة لمشيخة المنتفق في أطراف البصرة وألحقت بمتسلمية البصرة؛ مما جعل أمير المنتفق أقرب الى جابٍ للأموال المفروضة على قبائل الحلف لا أكثر، واستمر الوضع على حاله حتى بداية عام 1858م حيث عزل رشيد باشا وعين عمر باشا واليا جديدا لبغداد، وكان تعيين عمر باشا من ضمن ترتيبات إقليمية كبرى كانت إسطنبول تقوم بها لجمع الجنود وتوجيههم الى منطقة القرم التي تخوض فيها الدولة العثمانية حربا كبرى ومصيرية مكلفة في الجنود والأموال؛ مما استدعى أيضاً تقليل الإنفاق في مختلف الأقاليم الواقعة تحت نير الاستعمار العثماني، وتوجيه الفوائض الى إسطنبول، وكان أول قرارات الوالي الجديد المرسل من إسطنبول مباشرة، والذي وضعت فيه الثقة المطلقة عزل بندر ناصر السعدون وإعادة منصور راشد السعدون مرة أخرى بدرجة قائم مقام للمنتفق هذه المرة، مما يعني أن الإمارة قد ألغيت واستبدلت بقائم قامية، وهي بالتأكيد أصغر حجماً وأهمية من الإمارة، كما قام بسحب القوة التركية المرابطة في سوق الشيوخ وقائدها قائم مقام سوق الشيوخ وإرسالهم الى تركيا، تمهيداً لمشاركتهم في أدوار عسكرية هناك، وإعادة سوق الشيوخ الى أمير المنتفق أو قائم مقامها للدقة، واستمر منصور الراشد قائم مقام المنتفق حتى عام 1861م حيث استدعي الوالي عمر باشا إلى إسطنبول لتوليه منصبا جديدا هناك وعين نامق باشا مكانه، وكان أول قرارات نامق باشا جعل قائم مقامية المنتفق التزاما لمدة ثلاث سنوات تبدأ بمزاد مالي ينالها الذي يلتزم بتقديم المبلغ المالي الأكبر إلى الدولة، وتنتهي إذا ما قدم آخر التزاما ماليا أكبر، على أن المزاد يبقى محصوراً في أسرة السعدون من المنتفق ولا يحق لوجهاء المنتفق الآخرين الدخول فيه، وقد أعيد تعيين بندر السعدون قائم مقام المنتفق بعد أن التزم بتقديم المبلغ الأكبر.

مزاد على الإمارة

حين أصبح توفيق باشا والياً على بغداد جاء بفكرة غريبة، هي أن يكون أمير المنتفق متعهداً للعثمانيين مدة ثلاث سنوات يلتزم خلالها بتوريد الجراية السنوية المتفق عليها بمواعيدها، ويعتبر عقد التعهد باطلا متى ما أخل أمير المنتفق بأي شرط من شروط الاتفاق، ولوالي بغداد الحق في إبداله بآخر من أسرة السعدون، أما الآلية التي يختار من خلالها الوالي أمير المنتفق فكانت أيضاً مبتكرة وغريبة، إذ يدخل الأفراد المرشحون للإمارة من أسرة السعدون في مزاد علني ببغداد وتحت إشراف الوالي ترسو من خلاله الإمارة على الشخص الذي يتعهد بالالتزام المالي الأكبر نحو السلطة، على أن يبدأ مزاد آخر بعد ثلاث سنوات أخرى يدخله أمير المنتفق مع بقية المرشحين من جديد، وقد أضعف النظام الجديد إمارة المنتفق إلى أبعد حد من عدة جهات:

 أولاها، أن الالتزام المالي سيكون في أعلى حالاته الممكنه، مما سيرهق القبائل الداخلة في حلف المنتفق، ويرهق أمير المنتفق أيضاً، وثانيها أن المنافسة بين أسرة الإمارة ستكون على أشدها، مما سيجعلها مفككة من الداخل، وثالثها أن ارتباط الإمارة ببغداد سيكون في أقصى حالاته، وأي حالة أخرى من الاستقلالية أو التمرد ستكون بعيدة الحدوث، ورابعها أن الأمير سيكون تابعا للوالي، ولا يعدو أن يكون موظفاً جابياً للأموال لا أكثر، وبالتالي سيفقد الكثير من أسلحته المادية والمعنوية والكثير من هيبة الإمارة.

وفي شهر أبريل من عام 1861م جرى المزاد الأول الذي فاز فيه بندر السعدون، وقد رست عليه الإمارة مقابل مبلغ كبير جداً في تلك الأيام، وهو عشرون ألف ليرة سنوياً، على أن تدفع السنوات الثلاث في العام الأول، كما تنازل بندر عن أبي الخصيب وبعض أراضي المنتفق الأخرى الخصبة لبغداد، وكانت الأمور هادئة سنتين كاملتين، وفي السنة الأخيرة من مشيخة بندر استبدلت إسطنبول الوالي توفيق باشا بنامق باشا الذي وجد نقصاً في واردات بندر، فأمر متسلم البصرة بالقبض عليه وإرساله إلى بغداد، ويبدو أن بندر أخذ علماً بموقف الوالي فذهب إلى بغداد مباشرة، وأظهر الإثباتات التي سلم بموجبها المبالغ المالية، لكن نامق باشا أبلغ بندر أنه سيقوم بمزاد جديد للسنوات الثلاث المقبلة خلال أيام ولا داعي لمغادرته بغداد والعودة لها مجدداً، وفي أواخر أكتوبر من عام 1863م أجري المزاد، ففاز به منصور بن راشد السعدون الذي أصبح مسماه قائم مقام المنتفق وليس أميرا أو شيخا كما جرت العادة، وقد مرض بندر بعد خسارته للمزاد فتوفي بعد أيام ودفن في بغداد.

الثورة من جديد

كان نظام المزاد المبتكر من بغداد قد عمم على مختلف الكيانات التابعة لإقليم العراق منذ عام 1862م ليفرغ النخب الاجتماعية من قيمها المعنوية ذات الأهمية الكبرى في الوجدان العربي، وقد بدأت إشارات الرفض تأتي من قبائل مناطق العمارة والديوانية والحلة وبعض القبائل الأخرى في منطقة الفرات الأوسط، والتي قادها شيوخ تلك القبائل الذين فقدوا نفوذهم أو أشخاص مقربون من هؤلاء الشيوخ، وبإيعاز منهم للأسباب نفسها، أما في لواء المنتفق فقد كان منصور الراشد مخلصاً لبغداد ورافضاً لأي تمرد يقع في اللواء، وقد أرسل رسله إلى نامق باشا يتبرأ من بعض التجاوزات التي حدثت في مناطق نفوذه.

ناصر الأشقر

هو ناصر بن راشد السعدون أشهر أمراء المنتفق قاطبة، عرف بالأشقر للونه الأبيض المشرئب بالحمرة الذي لحقه من أمه الأعجمية، كانت بداية شهرته رفضه لمبدأ المزاد المتبع في الإمارة، وخروجه على أخيه منصور الأمير المفترض، وقد خرجت معه بعض القبائل العربية فتعرض لموظفي الجباية المتجهين من البصرة إلى بغداد في بداية خروجه وقتل بعضهم، واستولى على الأموال التي معهم، وهاجم بعض القوافل العثمانية الرسمية القادمة من الحجاز أو المتجهة إليه مروراً بأراضي المنتفق، كما هاجم نقطة الجمارك في سوق الشيوخ ونهبها، بعد أن فرّ مديرها فائق بيك ومن معه من الموظفين إلى بغداد ليلاً بمساعدة منصور الراشد، وحين أحس والي بغداد بإمكانية فقده زمام المبادرة، أرسل في طلبه ودعوته إلى بغداد وأعطاه الأمان بعدم تعرضه لأذى، وحين وفد إلى بغداد عرض عليه إمارة المنتفق، لكن ناصر رفض طريقة القائم مقامية والضمان لثلاث سنوات، فعرض عليه عودة الإمارة بطريقة الالتزام السنوي كما كانت في السابق، لكنه استكثر مبلغ الالتزام ورفض الإمارة، فاستدعى الوالي فهد العلي السعدون وعرضها عليه فرفضها أيضا وقبلها مشاري العبدالله السعدون، لكن الوالي تردد في إقراره عليها لضعف شخصيته وعدم حيازته الثقة بين قبائل المنتفق، ويبدو أن الوالي قد حسم أمره بالمواجهة، فاستغل زيارة ناصر الأشقر الثانية لبغداد ليودعه السجن، وهو الأمر الذي كانت له عواقب لم تكن في حسبان الوالي، إذ ظهر طموح العديد من أبناء السعدون الذين كان وجود ناصر الأشقر في لواء المنتفق يحجب الأضواء عنهم، فبدأت الفوضى بخروج سليمان بن منصور وقطعه لطريق الحلة ونهبه للقوافل المتجهة الى بغداد، في حين استولى فهد العلي السعدون على لواء المنتفق وهاجم السماوة وأعدم شيخ الأجود سليمان الخليف في عام 1864م، فما كان من نامق باشا إلا إقرار فهد العلي السعدون على إمارة المنتفق ليقطع الاتصالات التي بدأها القنصل البريطاني في البصرة مع فهد العلي، وقد أغضب أمر تولية فهد العلي للإمارة منصور الذي غادر اللواء متجهاً إلى الكويت ومنها إلى الدرعية.

وكان فهد العلي واسع الأفق كثير الحيل، ولم يرق له الالتزام السنوي الذي كان يراه فوق طاقة القبائل وقدرتها، فكان يتفق مع بغداد على أمر ويحرض القبائل للخروج على بغداد حول ذات الأمر، وهي الحيلة التي اكتشفها الوالي فأخرج ناصر الأشقر من السجن وعرض عليه الإمارة خلفا لفهد، وقد وافق ناصر على الفور في تسلمها مقابل تنازله عن بعض الأراضي التابعة للواء المنتفق لتضمها الدولة إلى البصرة في عام 1866م.

أعمال كبرى لأمير كبير

كان ناصر الأشقر صاحب نظرية مدنية في الحكم، ولم يكن مجرد جاب للأموال، فقد بدأ بسحب البساط من تحت شيوخ قبائل حلف المنتفق تدريجياً من خلال إنشاء نظام الجندية والجرايات على العساكر الملتحقين بجيش الإمارة، وأنشأ مدينة الناصرية التي سميت باسمه، واستدعى مهندسا بلجيكيا لتخطيطها، وأصبحت فيما بعد عاصمة الإمارة، وعم الهدوء والأمن أركان الإمارة، مما شجع الأتراك على إسناد ولايتي البصرة والأحساء إليه ومنحه الباشوية ولقب أمير الأمراء في عام 1867م، ثم منح الوسام المجيدي في عام 1871م وعدل إلى الدرجة الأولى في العام التالي، ويبدو أن التفاهم المطلق الذي قام بينه وبين والي بغداد الجديد مدحت باشا قد ساهم في استعجال الإصلاح الإداري في لواء المنتفق، وباقتراح من الوالي نفسه، فأغضب الإصلاح بعض الزعامات التقليدية في اللواء، في حين كان مفرحاً لأبناء القبائل لما يضفيه من تحرر لهم من قبضة المشايخ والزعامات القبلية، وقد بدأ ناصر باشا تسجيل ملكية الأراضي الزراعية باسم الأفراد بما عرف بالطابو، ورغم أن الطابو كان من مصلحة الشيوخ الذين كانت الأراضي تحت يدهم فإن معظمهم لم يبادر إلى التسجيل، في حين أن من بادر في التسجيل هم السعدون وأتباعهم ومن كان ذا قربى منهم، مما جعل أجيالهم تستفيد من هذه الملكية في الحصول على حيازة أبدية، وكان من ضمن المستفيدين من الطابو بعض الكويتيين والزبيريين الذين كانت لهم أملاك عشوائية في البصرة  وأبوالخصيب، وتحولت من خلال الطابو إلى ملكيات قانونية معترف بها من الحكومات العراقية اللاحقة.

وقد كان ناصر باشا الأشقر في غاية الدهاء، حيث استطاع من خلاله كسب ثقة الوالي المطلقة وثقة إسطنبول كذلك، ورغم ذكائه وفطنته فإن الظروف المحيطة به قد ساعدته كثيراً في تكريس إمارته المطلقة، فقد استغنت الدولة عن دعم القبائل المنتفقية في حروبها المتتالية مع إيران بعد توقيع بغداد اتفاقات سلام مع الحكومتين الإيرانية والكعبية، وتوجه أبناء القبائل المذكورة للزراعة والانشغال بأعمالهم الخاصة بعد فقدهم الريع المالي المتوافر من الجندية، واختفاء الخطر الوهابي بعد انكفاء إمارة الدرعية؛ مما ساعد في استقرار مناطق الإمارة التي كانت هدفا رئيسيا للهجمات الوهابية المتتالية، كما كان لانتشار القوات العثمانية في معظم الأراضي المنتفقية فوائد عديدة، منها توفير الأمان، وفقدان الزعامات العشائرية للكثير من نفوذها، واختفاء النزاعات القبلية أو انحسارها.

معركة الطبعة

في عام 1861م هزم العجمان في إحدى معاركهم مع الدولة السعودية فلجأوا إلى شمال الكويت وبدأوا اتصالهم مع المنتفق، من أجل تكوين حلف مشترك بقصد حمايتهم من القوات السعودية التي كانت تتابعهم، وبعد اتفاق الطرفين هاجموا مجتمعين الزبير وأطراف البصرة وغنموا بعض الغنائم، لكن متسلم البصرة هدد بندر السعدون بمصادرة أملاكه في البصرة إن لم ينسحب المنتفق من حلفهم مع العجمان، وقد أخبره بندر أن من تحالف مع العجمان وهاجم الزبير وأطراف البصرة هم بعض قبائل المنتفق لا هو أو أسرة السعدون، وأنه سيجبر من تحالف معهم على الانسحاب، وقد انسحب المنتفق فعلا من الحلف، فأحس العجمان بخطر البقاء شمال الكويت واتجهوا الى منطقة الجهراء فنزلوا بها، وحينذاك علم عبدالله آل سعود بوجود العجمان في الجهراء وحيدين، فهاجمهم هناك وقتل منهم جمعا وأغرق سفنهم التي كانوا قد جهزوها للفرار إلى البحرين بعد أن أحسوا بقرب هجوم عبدالله آل سعود عليهم.

back to top