منطقة وادي السيليكون ترسم معالم مستقبلنا

نشر في 14-03-2015 | 00:01
آخر تحديث 14-03-2015 | 00:01
في منطقة وادي السيليكون، بدأت نخبة جديدة تتشكل وهي لا تريد أن تحدد ما نستهلكه فحسب بل طريقة عيشنا أيضاً. هي ترغب، بحسب {شبيغل}، في تغيير العالم لكنها ترفض تقبّل أي قواعد. هل يجب كبح مسارها؟

وفق الانطباعات الشائعة، يبدو ترافيس كالانيك، مؤسس شركة {أوبر} ومديرها التنفيذي، شخصاً غير لائق. فهو يهين مبدأ المنافسة علناً ويسخر من عملائه على موقع تويتر ويعتبر السياسيين غير أَكْفاء. حتى إن هذا المدير التنفيذي المرموق ذهب إلى حد اقتراح التجسس على الصحافيين وقد عبّر كالانيك شخصياً عن قدرته على إغراء النساء بسهولة توازي سهولة إيقاف سيارة أجرة. رداً على السائقين المستائين الذين يحتجون على رواتبهم السيئة في شركة «أوبر»، توقع كالانيك استبدال الحواسيب بهم قريباً في مطلق الأحوال.

منذ شهر ديسمبر، أشارت التقديرات إلى أن قيمة شركة {أوبر} تبلغ 41 مليار دولار، وهي قيمة لا تقلّ كثيراً عن أكبر مؤسسة مالية في ألمانيا، {دويتشه بنك}. احتاجت الشركة إلى خمس سنوات فقط كي تنتشر من سان فرانسيسكو إلى 260 مدينة في أكثر من 50 بلداً حول العالم. كل شهر، تضيف الشركة بلدين جديدين ومجموعة من المدن إلى جدولها.

تُعتبر شركة «أوبر» منتجاً جيداً لكن غير ممتاز. تُقِلّ العملاء في سياراتها عبر كبسة زر، وتُعتبر الخدمة التي تقدمها بسيطة جداً لكن يبدو تنفيذها لامعاً وسهل الاستعمال من الناحية التقنية. في معظم أنحاء العالم، لا تُعتبر «أوبر» أرخص من أي شركة لسيارات الأجرة فحسب، بل إنها تقدم نوعية أفضل من الخدمات. تقول الشركة إن 50 ألف سائق ينضمون إليها كل شهر. يُفترض ألا تكون طباع رئيسها السيئة مهمة لهذه الدرجة، لكن لا تبدو العملية سهلة في هذه الحالة. في النهاية، تُعتبر الشركة مرآةً تعكس صورة مؤسسها العدائي والقاسي والطموح بشكل مفرط.

بعدما منعت بورتلاند، في ولاية أوريغون، الشركة من العمل في المدينة في أواخر السنة الماضية، أطلق كالانيك خدماته هناك في مطلق الأحوال. شعر رئيس مكتب النقل المحلي بالسخط فسأل: {هل يظنون أنهم يستطيعون المجيء إلى هنا بكل بساطة وانتهاك القانون بهذا الشكل الفاضح؟}.

نشأت مقاومة مماثلة في مدن كثيرة أخرى حول العالم، حتى في ألمانيا، حيث تجاهلت شركة {أوبر} بكل بساطة أوامر المحكمة. لكن بالنسبة إلى كالانيك، تُعتبر هذه المناوشات مجرد خلافات صغيرة ضمن حرب أوسع لأجل التفوق. وفق {رؤيته} الخاصة، ستصبح شركة {أوبر} خدمة نقل عالمية ستسمح لسكان المدن في نهاية المطاف بالتخلي عن فكرة اقتناء سيارة. يتوقع أن تتحوَّل إلى شركة عملاقة لا تكتفي بنقل الناس من مكان إلى آخر، بل تتولى أيضاً نقل السلع بكبسة زر وبأقل كلفة ممكنة. في الحالة المثلى، يُفترض أن تحصل هذه العملية عبر سيارة بلا سائق.

الأهداف الواقعية

لكن ليست {أوبر} الشركة الوحيدة التي تحمل طموحات بغزو العالم. هكذا تفكر الشركات الرقمية العملاقة مثل {غوغل} و«فيسبوك} و«آبل} و«إير بي إن بي}، إلى جانب عدد كبير من الشركات الأصغر حجماً. لا تهدف هذه الشركات كلها إلى إنشاء سوق متخصصة بل إلى بلوغ العالم كله. لكن بعيداً عن الاستناد إلى أوهام واهية، غالباً ما تكون أهدافها واقعية وهي تصبح ممكنة بفضل خليط قوي وفريد من نوعه في التاريخ الاقتصادي: العولمة والتكنولوجيا الرقمية.

كانت التطورات التكنولوجية التي تحققت في العقد الماضي تخطف الأنفاس، لكنها لا تزال في بدايتها على الأرجح. في النهاية، كان نمو التقنيات الجديدة متسارعاً وغير ثابت، فقد سُجلت تطورات واسعة بوتيرة أسرع من أي وقت مضى. الأمر أشبه بانهيار ثلجي عملاق يبدأ بكرة ثلج صغيرة على قمة الجبل.

ظهر جهاز {آي فون} منذ سبع سنوات، لكن لم يعد معظمنا يتذكر ما كان عليه العالم قبل ذلك. كانت السيارات بلا سائق تُعتبر وهماً جنونياً منذ فترة غير طويلة لكن لم يعد أحد يندهش أمام هذه الفكرة الآن. هل يمكن ضغط جميع معارف العالم داخل خارطة رقمية وتسهيل وصول الناس إليها؟ إنها فكرة عادية. ماذا عن الفكرة القائلة إن أنظمة الحلول الحسابية في الولايات المتحدة تسيطر على 70% من مجموع التداولات في البورصة؟ إنها فكرة جنونية حتماً! لكنها تدخل في خانة الجنون الطبيعي.

تحاول عشرات الشركات أن تحدد طريقة استعمال الطائرات بلا طيار في المجال التجاري، وتحديداً في عمليات التسليم أو جمع البيانات أو لتحقيق أهداف أخرى. وتسعى جيوش هائلة من المهندسين إلى إيجاد ركيزة الذكاء الاصطناعي ولا تزال التطورات مستمرة في هذا المجال من خلال ابتكار الآلات التي تستطيع التعلم أو الروبوتات الذكية: بدأنا نتجاوز الخيال العلمي!

ما نشهده اليوم ليس مجرّد انتصار لتكنولوجيا معينة أو ظاهرة اقتصادية. لا يتعلق الأمر بشبكة {الإنترنت} أو {الشبكات الاجتماعية}، ولا بالخدمات الاستخبارية وإدوارد سنودن، ولا ترتبط المسألة أيضاً بما تفعله شركة {غوغل} ببياناتنا.

التغيير بوتيرة أسرع

نشهد على ظاهرة ليست أقل من تحول اجتماعي لن يتمكن أحد من تجنبه في نهاية المطاف. إنه نوع التغيير الذي يمكن مقارنته بحقبة التصنيع في القرن التاسع عشر، لكنه يحصل بوتيرة أسرع بكثير هذه المرة. مثلما أدى الانتقال من العمل اليدوي إلى الإنتاج الضخم إلى تغيير جذري في مجتمعنا منذ أكثر من مئة سنة، لا تغير الثورة الرقمية قطاعات معينة من الاقتصاد فحسب، بل إنها تغيّر طريقة تفكيرنا وعيشنا. لكن هذه المرة يبدو التحول مختلفاً، إذ يحركه بعض مئات الأشخاص فقط.

لم تعد النخبة العالمية الجديدة ترتكز على {وول ستريت}، بل إنها تملك مقراً لها في منطقة وادي السيليكون في جنوب سان فرانسيسكو. في هذا المكان بالذات، بدأت صناعة الرقائق وانطلق عصر الحواسيب، وهو المكان الذي يتمركز فيه الآن قادة الثورة الرقمية الراهنة. هم مؤسسو شركات ومديرون تنفيذيون من أمثال سيرغي برين من {غوغل}، وتيم كوك من {آبل}، ومارك زوكربيرغ من {فيسبوك}. برز قادمون جدد في الفترة الأخيرة مثل ترافيس كالانيك من شركة {أوبر} وجو غيبيا من شركة {إير بي إن بي}. هم {مستثمرون ملائكة} يضخون المليارات في شركات التكنولوجيا الناشئة. جميعهم مدعومون بعدد هائل من المبرمجين وخبراء الحواسيب والمهندسين الذين يسعون دوماً إلى استبدال منتجات جديدة بالمفاهيم القديمة.

لكن يبدو {أسياد الكون} الجدد مختلفين بشدة عن أسلافهم، فهم يركزون في المقام الأول على المال ولا يريدون تحديد ما نستهلكه حصراً، بل طريقة استهلاكنا وعيشنا. لا يحاولون استقطاب قطاع اقتصادي واحد بل جميع القطاعات. لا تؤمن {وول ستريت} إلا بالمال، لكنّ إيمان منطقة وادي السيليكون له بُعد أعمق بكثير. فهو يرتكز على جوهر مختلف: إنه الإيمان الثابت برسالة معينة.

وفق تلك الرسالة، يمكن أن تغير التكنولوجيا البشرية نحو الأفضل. يأمل بعض الأشخاص من وادي السيليكون أن يعيدوا رسم معالم العالم بشكل جوهري وهم يؤمنون بأن حلولهم المتطورة تكنولوجياً ستنتج مستقبلاً أفضل لجميع البشر مثلما يؤمن الهندوس بالتقمص. لكنهم لا يهتمون بالتدخل الخارجي. لا تستعين نخبة وادي السيليكون بصانعي السياسة غالباً، فهي تعتبر القواعد والتنظيمات مجرد عوائق ومفارقات تاريخية. تعكس رسالتهم الفكرة التالية: إذا وقف بعض القيم الاجتماعية مثل الخصوصية وحماية البيانات في طريقنا، فيجب أن نطور قيماً جديدة بكل بساطة.

ينسبون أصل رحلتهم التكنولوجية إلى الثقافة المضادة التي سادت خلال الستينيات، أي الحقبة التي صنعت مؤسس شركة {آبل} ستيف جوبز. لكن تُعتبر رؤيتهم العالمية متحررة، فهي تعكس مفاهيم مفكرين راديكاليين من أمثال نعوم تشومسكي وآين راند وفريدريش هايك. نتيجةً لذلك، نشأت فلسفة سياسية فريدة من نوعها تجمع بين خصوصيات حركة الهيبي الشبابية التي تقتصر على فئة معينة والرأسمالية المتشددة. لا تتردد نخبة وادي السيليكون في الإفصاح عن خططها. يعترفون صراحةً بأنهم يريدون رسم معالم العالم وفق أفكارهم الخاصة. وهم مقتنعون بأن التغيرات التي شهدناها في السنوات الأخيرة كانت نقطة البداية.

المستقبل الرقمي

هل يبدو نجاحهم حتمياً؟ وهل تبدو محاولة إعاقة شركة {أوبر} سخيفة بقدر محاولة الحفاظ على العربات التي تجرّها الأحصنة منذ قرن من الزمن؟ هل حان الوقت لفرض التنظيمات قبل أن يقع العالم ضحية الاحتكار الرقمي؟ أم يجب أن نشعر بالامتنان ونتقبّل الحلول المتطورة تكنولوجياً كونها تسهّل حياتنا؟ هل يجب أن نخاف من المستقبل التكنولوجي أم يجب أن نتوق إليه باعتباره يقود إلى ازدهار أوسع؟

ثمة سؤال مهم آخر. تعكس منطقة وادي السيليكون عالماً ذكورياً حيث تُعتبر مديرة {ياهو} التنفيذية ماريسا ماير استثناءً على القاعدة. لا يوظف بعض الشركات الناشئة أي امرأة على الإطلاق، ومن الأصعب على النساء العاملات في قطاع الأعمال الحصول على التمويل. هل تستطيع الرؤية العالمية أن تكون منحازة لهذه الدرجة؟

ثمة معلومة واحدة مؤكدة: خلال السنوات المقبلة، سينشأ جدل عالمي بشأن الإطار المناسب للمستقبل الرقمي. كل من يتمنى أن يشارك في رسم معالم المستقبل يجب أن يفهم رؤية قادة وادي السيليكون للعالم وحقيقة خططهم. تسهم أربع مقابلات مع أبرز المفكرين الرائدين من مؤيدي النخبة التكنولوجية في فتح نافذة على ذلك العالم.

راي كورزويل: رجل النبوءات

راي كورزويل معروف بعبقريته على نطاق واسع. مدير قسم الهندسة في {غوغل}، يحمل 19 شهادة دكتوراه فخرية، وهو من اخترع الماسحة الضوئية المسطحة وأول جهاز لتحويل النصوص إلى كلام، كذلك يحمل عشرات براءات الاختراع الإضافية. كرّس كورزويل حياته للتفكير بالتكنولوجيا وقد توصل منذ فترة غير طويلة إلى الاستنتاج التالي: في عام 2029، ستتمكن الحواسيب من فعل كل ما يقوم به البشر، لكن بأداء أفضل.

حيوية ونشاط

يبلغ كورزويل 67 عاماً، لكنه حيوي ونشيط بقدر أي شاب في الخامسة والثلاثين من عمره. نحيف وشعره ناعم ويضع نظارتين، ويذكّرنا شكله قليلاً بوودي آلن. كل يوم، يبتلع كورزويل 150 حبة (من فيتامينات ومعادن وأنزيمات)، ويحقن نفسه بمكملات إضافية. يريد أن يبقى على قيد الحياة إلى أن يسمح التقدم التكنولوجي بإطالة عمر البشر إلى ما لانهاية. هو مقتنع بأن هذه التطورات ليست بعيدة المنال. في النهاية، تعمل {غوغل} وبعض الشركات الأخرى على وقف ظاهرة الشيخوخة وإيجاد علاج للسرطان.

لطالما كان الإيمان المتطرف بالتقدم التكنولوجي عنصراً أساسياً من العقلية السائدة في وادي السيليكون، وذلك منذ أن بدأ المهندسون بتصنيع أولى الرقائق المصغرة هنا قبل 50 سنة، ومنذ أن جمع ستيف جوبز وستيف وزنياك أول حاسوب من إنتاج {آبل} في مرأبهما. منذ عشر سنوات، جمع كورزويل هذا التفاؤل التكنولوجي في مصطلح واحد: التفرّد.

تصف هذه الكلمة لحظة مستقبلية حيث يصبح البشر والآلات متشابهين لدرجة أن البشر سيقفزون فجأةً إلى مستوى أعلى من الحضارة. إنه نوع من التفاعل المتسلسل نتيجة التقنيات المتسارعة التي تجعل كل شيء ممكناً بشكل مفاجئ ولكنها كانت لا تزال محصورة حتى الآن في روايات الخيال العلمي: آلات ذكية، إطالة الحياة، صور مجسّمة ثلاثية الأبعاد. هو يعتبر الأمر أشبه بانفجار رقمي عظيم ولن يتغير العالم بعده بكل بساطة. بل سيصبح العالم مكاناً مختلفاً بالكامل. كتب كورزويل في كتابه {التفرد قريب: حين يتجاوز البشر علم الأحياء} (Singularity Is Near: When Humans Transcend Biology): {سيكون التغير التكنولوجي سريعاً جداً وأثره عميقاً لدرجة أن حياة البشر ستشهد تحولاً لا يمكن عكسه}.

قد تبدو الفكرة أقرب إلى الخيال. لكن في وادي السيليكون، يبدو الجميع مقتنعين بتحقيق هذا الهدف بشكلٍ أو بآخر، بما في ذلك أكثر العلماء عقلانية وأكثر رجال الأعمال جدّية. إنه جزء من إعلان ضمني يتبناه الجميع في وادي السيليكون: الإيمان بقدرات التكنولوجيا غير المحدودة، والقناعة بأننا نتجه إلى تحقيق عدد متزايد من الإنجازات التي بدأت تصبح متكررة وأكثر أهمية.

مفهوم {التفرد} هو الذي يعطي تلك القناعة بنيتها الضرورية وجوهرها. الهدف الأساسي أن تصل البشرية إلى مستقبل أفضل، وهكذا لا يعود التفاؤل التكنولوجي خيالياً.

تكهنات تحققت

يطلق كورزويل التكهنات عن مستقبل التكنولوجيا منذ فترة وقد كان محقاً في أوقات كثيرة لكن ليس دوماً. في عام 1990 مثلاً، توقع أن تتمكن الحواسيب من التفوق على البشر في لعبة الشطرنج خلال ثماني سنوات. تحقق ذلك في عام 1997. كذلك أصرَّ على أن شبكة الإنترنت ستغير وجه العالم حين كان بضع مئات الأكاديميين فقط يستطيعون استعمال الشبكة. وقد تحدث عن {سائقين إلكترونيين} سيتمكنون من قيادة السيارات، وسرعان ما أصبح هذا التوقع حقيقة.

غالباً ما كان كورزويل يتعرَّض للسخرية بسبب أفكاره، وهو يواجه الوضع نفسه اليوم، لكن لم تعد السخرية لاذعة بقدر ما كانت عليه. يقول بصوته الهادئ: {أفكاري لم تعد متطرفة}. كورزويل ليس مبشّراً أو صاحب نبوءات مهمّة. يهز كتفيه بكل بساطة وكأنه يريد أن يقول: من الرائع أن يشاركني عدد إضافي من الناس نظرتي إلى العالم.

تبدو فكرة التفرّد أقل جنوناً مع تقدم التكنولوجيا الرقمية. تزداد قوة الحواسيب وإمكانات الآلات بوتيرة هائلة. من جهة، يُعتبر هذا التطور نتيجةً لقانون مور الذي ينصّ على أن قوة رقائق الحواسيب بدأت تتضاعف كل سنتين تقريباً. أصبح معالِج المعلومات في عام 2014 مثلاً أقوى بـ32 مليون مرة من أول رقاقة من إنتاج {إنتل} في عام 1971. من جهة أخرى، أصبحت الحواسيب التي تتمتع بسرعة أعلى وجودة أفضل شرطاً أساسياً لابتكار تقنيات إضافية بدأت تزدهر الآن مثل الشبكات، والروبوتات، والعقاقير الطبية، وعلوم المواد، والتكنولوجيا الحيوية.

تؤثر هذه التقنيات كلها على بعضها بعضاً، لكن لم تتضح النتائج بالكامل بعد. ما معنى هذا الأثر مثلاً بالنسبة إلى عالم الطب بعد التمكن من تجزئة الجينوم البشري خلال بضع ساعات بكلفة ألف دولار فقط؟

يصعب فهم هذا التطور نظراً إلى أبعاده الكبرى وعمق معانيه. يتحدَّث علماء النفس وعلماء الاجتماع عن وجود سبب لذلك: خلال المئة ألف سنة الماضية، كانت التطورات ثابتة ومحلية. أما اليوم، فقد بدأت الحضارة تتطور بوتيرة سريعة وعلى نطاق عالمي.

حواسيب جزيئية

يشرح كورزويل هذا التغيير عبر المثال التالي: إذا خطوتَ 30 خطوة خطية، ستقطع 30 متراً. وإذا خطوت 30 خطوة سريعة، ستقطع مليارات الأمتار. لا يسهل إدراك هذا المفهوم وحتى القادة الرقميين في وادي السيليكون يواجهون مصاعبهم الخاصة. عند التحدث مع خبراء الحواسيب والمهندسين في شركات التكنولوجيا العملاقة في هذه الأيام، من الملاحظ أنهم يرسمون ابتسامة كبيرة على وجوههم ويبدون مبتهجين ومتفاجئين في آن نظراً إلى وتيرة التقدم الجنونية.

بالكاد مرت 20 سنة بين ابتكار أول حاسوب محمول يناسب السوق الواسعة وطرح جهاز {آي فون}. اليوم، تتحسن الهواتف الذكية خلال فترات أقصر بكثير. خلال 25 سنة، لن نضطر إلى حمل أي أجهزة معنا بحسب خبراء التكنولوجيا في وادي السيليكون. ستستبدل بها حواسيب جزيئية ومجسّات بيومترية تُدس في العالم من حولنا.

الفلسفة التكنولوجية

منذ ست سنوات، أسس كورزويل جامعة {التفرد} مع مجموعة من الشركاء وجمع الأموال من {غوغل}. تهدف المؤسسة إلى تعليم المديرين ورجال الأعمال كيفية التحرر من نمط التفكير الخطي. يتعلم المشاركون بعد أشهر عدة من الدروس أن الهدف النهائي يتعلق بإنشاء شركة تصل إلى مليار شخص خلال 10 سنوات. السؤال الذي يجب أن يسأله جميع الطلاب في جامعة {التفرد} هو التالي: ماذا يمكن أن أفعل للتأثير بالبشرية جمعاء؟

بيتر ديامانديس رئيس جامعة {التفرد} وطبيب وعالم صواريخ. يقول: {وفق المعطيات التاريخية، يجب أن نكون مثل {كوكا كولا} للوصول إلى مليار شخص في أفريقيا. لكن قريباً، سيحصل مليار شخص في هذه القارة على هاتف خلوي}. هذه هي فلسفة التكنولوجيا الرقمية: كل من يتصل بالشبكة هو عميل ومستهلك محتمل. لكن يصبح هؤلاء الأشخاص أيضاً من المؤمنين المحتملين بعالم أفضل.

يوضح ديامانديس: {في السنوات المقبلة، سيتصل مليارات الأشخاص الإضافيين بشبكة الإنترنت. ستكون مشترياتهم واختراعاتهم كفيلة بتغيير العالم. خلال عشر سنوات، ستخسر 40% من أكبر 500 شركة اليوم دورها}.

بيتر ثيل: الإيديولوجي

في المشهد السياسي الأميركي، يكون التحرريون غريبين عموماً، إذ يكشف عدد كبير منهم عن ميول يمينية راسخة، منهم المرشح السابق للرئاسة رون بول الذي أراد سابقاً التخلص من الاحتياطي الفدرالي.

لكن في وادي السيليكون، تتسم النزعة التحررية السائدة بقوة شديدة بحسب قول بيتر ثيل. يمكن القول إنها فلسفة سياسية طاغية ويُعتبر ثيل من أبرز ممثّليها. هو شخصية مركزية في العالم الرقمي كونه رجل ذكي ومثير للجدل، ومفكر رائد وزعيم إيديولوجي، وشخص استثنائي حتى ضمن أهم جماعة صغيرة من شركات التكنولوجيا العملاقة التي يملكها أصحاب المليارات.

أسس «باي بال»

في نهاية التسعينيات، شارك ثيل في تأسيس خدمة الدفع الإلكترونية {باي بال}، وهي واحدة من قصص النجاح القليلة في نظام الاقتصاد الجديد. هذا ما جعله ثرياً للمرة الأولى. ثم تابع مساره عبر تأسيس شركة استثمارية أطلقت استثمارات غير تقليدية. بدأت الأموال تتدفق مجدداً وزادت ثروته. في مرحلة لاحقة، أصبح ثيل أول شخص يستثمر في الشركة التي كان مارك زوكربيرغ قد أنشأها لتوه، فاستثمر بقيمة 500 ألف دولار في موقع فيسبوك مقابل 10% من الأسهم، ما جعله ثرياً للمرة الثالثة.

يستثمر الآن مئات ملايين الدولارات في شركات جديدة ومبتدئة وقد أصبح أحد أبرز الرأسماليين النافذين في وادي السيليكون، ويقدّره الجميع بسبب ثروته ونصائحه المفيدة في آن.

إذا تحدثنا مع ثيل عن النزعة التحررية، سيتضح لنا سريعاً أن المسألة لا تتعلق بحسب رأيه بالسياسة اليومية أو بكسب النفوذ للـتأثير على العملية السياسية. بل على العكس من ذلك! مثل الكثيرين في وادي السيليكون، هو لا يريد أن تربطه أي علاقة مع واشنطن أو بروكسل.

أنشأت نخبة خبراء التقنيين رؤية عالمية، أو بالأحرى فلسفة سياسية تتماشى مع أهدافها. يسعون إلى تحقيق الازدهار وبث مشاعر الرضى من خلال توفير أعلى مستويات الاستقلالية مقابل أقلّ مظاهر الحكم. وفق هذه الرؤية، يجب التشكيك بجميع مظاهر السلطة. في هذا العالم، لا مجال لفرض التنظيمات أو التوجيهات الحكومية.

منذ بضع سنوات، أنشأ ثيل مؤسسة تقدم كل سنة 100 ألف دولار إلى 20 شخصاً تحت عمر العشرين لمغادرة الجامعة وإنشاء شركاتهم الخاصة. تشترط المنحة أن يغادروا الجامعة لسنتين على الأقل. يشعر ثيل بأن نظام التعليم الحكومي مشحون بشكل مفرط وغالباً ما يشكّل عائقاً أمام التقدم: يظن أن الناس الذين يحملون أفكاراً جيدة يجب أن يطرحوها بدل أن ينتظروا التعليمات من أشخاص أعلى رتبة منهم.

في عام 2009، نشر ثيل مقالة بعنوان {تعليم شخص تحرري}. كتب فيها: {نخوض سباقاً مميتاً بين السياسة والتكنولوجيا}. قد يتوقف مصير عالمنا على جهد شخص واحد يبني أو ينشر {آلية الحرية التي تجعل العالم مكاناً آمناً للرأسمالية}.

ثيل هو في الأصل من ألمانيا، وقد وُلد بالقرب من فرانكفورت لكنه غادر البلد في عمر السنة. اصطحب والده الذي كان مهندساً كيماوياً عائلته معه حول العالم، حتى خلال عمله لفترة في جنوب إفريقيا وناميبيا، قبل أن يستقر أخيراً في إحدى الضواحي بالقرب من سان فرانسيسكو. أثبت ثيل في طفولته أنه عبقري في لعبة الشطرنج وحلّ في المرتبة السابعة في المنافسة الوطنية. قرأ رواية {سيد الخواتم} (Lord of Rings) مرات لا تُحصى ولا يزال يسمي صناديقه الاستثمارية اليوم تيمناً بالشخصيات والأماكن الواردة في كتاب الطفولة المفضل لديه.

المقر في قاعدة عسكرية

يقع مقر عمل ثيل في سان فرانسيسكو، وتحديداً في قاعدة عسكرية تاريخية سابقة أنشأها في الأصل الإسبان. المكاتب محاطة بأشجار الكينا والنخيل. في ردهة المبنى، ثمة تمثال لشخصية دارث فيدر لأن شركة إنتاج سلسلة {حرب النجوم} (Star Wars)، {لوكاس فيلم}، تملك مكاتب لها في المبنى أيضاً. تطل الطوابق العليا على جسر {غولدن غيت} وألكتراز. تبدو المكاتب في وادي السيليكون عصرية وحيوية، لكن يفضل ثيل الأسلوب المكلف والأنيق. يشبه المبنى أي شركة محاماة كبرى في نيويورك، وفيه نباتات سحلبية ومكتبة وأثاث لمصممين معروفين.

يرتدي ثيل ملابس عادية مثل قميص رمادي مفتوح على العنق وحذاء رياضي غالي الثمن. نادراً ما يرتدي بذلة رسمية .

يعتبر أن {الاحتكار الخلّاق يعني طرح منتجات جديدة تفيد الجميع}، بينما {تعني المنافسة عدم تحقيق أي ربح لأحد}. يعلم ثيل أن الاحتكارات لها {سمعة سيئة} لكنه يعتبر أنّ الوضع اتخذ هذا المسار لأن {المنافسة هي إيديولوجيا بحد ذاتها}.

أهم نصيحة يوجهها إلى الأشخاص الذين يؤسسون الشركات هي إيجاد سوق يمكن أن يسيطروا عليها واحتكارها ومحاولة الحفاظ عليها لأطول فترة ممكنة.

سيباستيان ثرون: المهندس

في السنوات الأخيرة، طوَّرت {غوغل} مشاريع باتت ترمز إلى الفرص والمخاطر التي يطرحها عالم الخيال العلمي الجديد أكثر من أي شركة أخرى في العالم. طورت مثلاً سيارة بلا سائق وسعت إلى تسويق نظارات {غوغل غلاس} التي تحمل البيانات.

تشتق هذه الابتكارات كلها من مختبر بحثي واحد اسمه {غوغل إكس}، علماً أن مؤسّسه هو عالِم حواسيب ألماني اسمه سيباستيان ثرون.  وقد وُلد في سولينغن قبل أن يبدأ دراسته في جامعة بون. أصبح منذ ذلك الحين مقرباً من رئيس شركة {غوغل} لاري بايج.

لا يظن ثرون أن الآلات ستحلّ مكان جميع الناس بالكامل في أحد الأيام، لكنه يظن أن عدداً كافياً منهم سيخسر دوره، وعندها سيحين الوقت لبدء التفكير بطريقتنا في الدرس والعمل، وحتى تنظيم حكوماتنا مستقبلاً. يقول ثرون: {اليوم، يكون شخص واحد كفوءاً بقدر ما كان مئة شخص كفوئين منذ فترة قصيرة إذا وُجد ضمن النظام الصحيح}.

كان ثرون يهتم بالدماغ والذكاء البشري منذ شبابه، ما جعله يتحوَّل إلى خبير بالروبوتات. يقول: {كل من يحاول جعل الروبوت ذكياً يعكس احتراماً هائلاً لحجم الذكاء البشري}. عيّنته جامعة ستانفورد مديراً لمختبر الذكاء الاصطناعي فيها، فأصبح يمثّل سلطة نافذة في وادي السيليكون وبات مثالاً لجميع المهندسين والمبرمجين الذين يعملون وحدهم ويحلمون ببناء آلات أكثر ذكاءً من تلك المتوافرة اليوم.

سيارة بلا سائق

صنع ثرون (47 عاماً) أفضل روبوت في العالم على الأرجح: إنها سيارة {غوغل} بلا سائق. حتى أن هذه المركبة تستطيع الآن أن تقوم بالمناورات لشق طريقها في مدينة مكتظة ولا يمكن التمييز بينها وبين السيارات التي يقودها البشر.

لكن في هذه الأيام، يمضي ثرون معظم وقته في شركته وليس في مقر {غوغل} أو ستانفورد. جمع 120 شخصاً في مكاتب مكتظة داخل مبنى يقع في منطقة صناعية عادية على أمل إحداث ثورة في قطاع التعليم. حملت شركته اسم {أوداسيتي} (Udacity) وهي تقدم أعداداً كبيرة من البرامج التعليمية الإلكترونية والشهادات استناداً إلى {الدروس الإلكترونية المكثفة والمفتوحة}.

السلامة المرورية

منذ فترة طويلة، جمع ثرون لائحة تشمل 20 مجالاً يستطيع التأثير عليها لتغيير حياتنا. في أعلى اللائحة، عبّر عن رغبته في تحسين السلامة المرورية: {كل سنة، يخسر 1.2 مليون شخص حياتهم بسبب خطأ يرتكبه السائق}. لقد أسهم ابتكار سيارة بلا سائق في معالجة هذه المشكلة.

التعليم هو مجال آخر من المجالات التي يعطيها الأولوية. يُعتبر التغير التكنولوجي أحد الأسباب لتعزيز اللامساواة في العالم ويبدو ثرون مقتنعاً بضرورة أن يتبنى المجتمع مفاهيم تعليمية تمتد على الحياة كلها لمعالجة هذه المشكلة، ويجب أن تكون العملية مقبولة الكلفة وفي متناول الجميع.

التعليم قطاع بطيء ويصعب إصلاحه، لكن هذا ما حث ثرون على التحرك. يقول: {لا مشكلة إذا ارتفع مستوى الرفض. أحب أن أقوم بأمور يعتبرها الناس مستحيلة}. وفق التحليل النهائي، يقول إن تركيبة وادي السيليكون تبدو بسيطة جداً: يريد الجميع هنا تغيير العالم عبر التكنولوجيا وهم لا يخشون الفشل أو ارتكاب الأخطاء}.

يقول ثرون: {لا أؤمن بالخطط أو بالتوقعات الدقيقة في ما يخص مسار تطور ظاهرة معينة. بل أؤمن بالأهداف الطموحة والمهام المحددة}. تأمل شركته التعليمية {أوداسيتي} أن تتمكَّن يوماً من تخريج ألف طالب... كل يوم! {لا أعلم متى سنبلغ تلك المرحلة أو كيف سنحقق ذلك، لكن يمكن أن نحاول بذل قصارى جهدنا والعمل بأسرع ما يكون يومياً}. يظن ثرون أن الشركات التي تتابع التحرك ولا توقف تجاربها هي التي ستفوز في النهاية. أما الشركات التي تبقى عالقة في نماذج العمل البالية، فستنهار حتماً.

لا يبدو السياسيون كفوئين جداً وفق رؤية ثرون عن عالم الغد. لا يكفّون عن سن قوانين جديدة، لكنهم يعملون بوتيرة بطيئة وتشمل قوانينهم ثغرات هائلة أو لا تكون منطقية. في المقابل، يبدو المخترعون في وادي السيليكون أكثر ذكاءً وسرعة دوماً، فهم يتفوقون بدهائهم على صانعي السياسة. يضيف ثرون: {كل شيء يحدث عالمياً لكن تبقى القوانين محلية. لم يعد هذا الوضع مناسباً}.

جو غيبيا: غازي الأسواق

شركة {إير بي إن بي} لا تعكس أي شكل من الاحتكار، إذ يصعب أن نتخيل شركة أخرى تواجه هذا الحجم من المنافسة. تولّت الشركة مهمّة إحداث ثورة في قطاع السياحة وتحدي قطاع الفنادق كله، علماً أنه قطاع منتشر في أنحاء العالم وفيه آلاف اللاعبين الراسخين والأقوياء مالياً.

رغم تلك المنافسة الشرسة، تمكنت شركة {إير بي إن بي} من الانضمام إلى أسياد الغزو الرقمي الجدد، فواجهت جميع الآثار الجانبية الاعتيادية: تزعزع قطاع قديم بأكمله فشعر السياسيون بالسخط. لا يحمل الأمر أهمية كبرى في هذه الأيام ما دام يعترف ملايين العملاء حول العالم بأنهم يريدون هذه الخدمة.

أماكن للإقامة

تقدم شركة {إير بي إن بي} أماكن إقامة لليلة في منازل الناس الخاصة، وقد يقتصر الأمر على غرفة حيناً أو منزل كامل أحياناً. يرتفع الطلب بنسبة هائلة وقد بدأت هذه الخدمة تغير وجه السياحة العالمية. تقدم الشركة الآن أكثر من مليون مكان إقامة بجميع الأشكال، بدءاً من منزل شجرة في بالي وصولاً إلى سرير مزدوج في ساربروكن. خلال بطولة كأس العالم، شملت الإيجارات منزل نجم كرة القدم البرازيلي رونالدينيو، وفيه سينما منزلية ومسرح لرقص السامبا.

يقول جو غيبيا قبل أن يتوقف عن الكلام ويضحك: {نحن موجودون في 190 بلداً، و34 ألف مدينة، وفي هذه الليلة وحدها لدينا 400 ألف ضيف. يتم حجز نحو 277 مكاناً كل دقيقة}. يصعب عليه أحياناً أن يصدّق هذه الأرقام. كيف يمكن أن يتحقق هذا النجاح كله خلال بضع سنوات؟

غيبيا هو أحد مؤسسي شركة {إير بي إن بي} الثلاثة. رجل هزيل وله لحية خفيفة وكان يرتدي في ذلك اليوم قميصاً رياضياً بقبعة زرقاء ويضع قلماً وراء أذنه. يضحك من قلبه لكنه يتحدث بهدوء. حصل لقاؤنا في كافتيريا داخل مقر شركة {إير بي إن بي} في سان فرانسيسكو، وهو مصنع سابق له تصميم داخلي أبيض وتفيض فيه الأنوار. يطل جدار عشبي على قاعة مرتفعة بحجم 20 متراً ومزودة بمصعدها الزجاجي الخاص. ما من أسلاك للهواتف ويقلّ عدد الحواسيب لأن الموظفين يجب ألا ينحصروا في مكتب محدد.

صُممت غرفة المؤتمرات، أو {غرفة الحرب}، كي تبدو شبيهة بالقاعة التي تظهر في فيلم هوليوود الكلاسيكي Dr. Strangelove للمخرج ستانلي كوبريك.

معالجة الخلافات

تتشابه شركتا {إير بي إن بي} و«أوبر} على مستويات عدة. هما تؤيدان {تقاسم الاقتصاد} الذي يمكّن الناس من كسب المال عبر أملاكهم الخاصة. كما حصل مع {أوبر}، وجدت شركة {إير بي إن بي} نفسها وسط خلاف مع عدد هائل من المدن حول العالم لأن نموذج عملها ينتهك القواعد البلدية. تبنّت {أوبر} موقفاً تصادمياً لمعالجة تلك الخلافات، لكن حاولت شركة {إير بي إن بي} عموماً التوصل إلى اتفاق، حتى الآن على الأقل.

رؤية خاصة

لكن لا يعني ذلك أن الشركة هي أقل طموحاً أو أن أجندتها هي أكثر تساهلاً. منذ أن كان غيبيا طالباً، لطالما عبّر عن رغبته في «العمل على مشروع كبير جداً يمكن أن يؤثر بملايين الناس، بقدر ما يسمح الوضع». لذا يطمح غيبيا بدوره إلى غزو الأسواق لكن بأسلوب ألطف. قد لا تسخر شركة «إير بي إن بي» من كل من يقاوم خطتها التوسعية، لكن يبقى هدفها مشابهاً: رسم معالم العالم بما يتماشى مع رؤيتها الخاصة.

 كان غيبيا منذ صغره يحلم بالعيش في وادي السيليكون، أي في {هذه البيئة التي تدعم جميع الأفكار الجامحة والجنونية}، لكنه لم يشأ أن يصبح مهندساً أو مبرمجاً. بل درس التفكير التصميمي في كلية رود آيلاند للتصميم. يوضح غيبيا: {جوهر الفكرة هو التفكير بالطريقة التي يفكر بها الشخص الذي يمكن أن يستعمل المنتج}. بدل عقد اجتماعات لامتناهية وتخصيص أشهر للتخطيط، يمكن تطوير مفهوم فوراً وإنشاء نماذج واختبارها مع المستهلكين للتمكن من إحداث التحسينات.

هل ستنغلق {دائرة الجدل} أم ستبقى مفتوحة؟

هل سيتخذ الوضع مساراً إيجابياً مثلما يدعي الناس في وادي السيليكون أم أنه سيتدهور كما يتوقع النقاد الذين لا يكفون عن إطلاق تحذيراتهم وإبداء تشاؤمهم؟ يشمل هؤلاء النقاد أشخاصاً مثل الروائي ديف إيغرز، مؤلف كتاب {الدائرة} (Circle) الذي كان من أكثر الكتب رواجاً خلال السنة الماضية.

ربما يتطلع {أسياد الكون} الجدد إلى بلوغ {الجنة} عبر الطريق الذي يسلكونه، لكنّ ما يصفه إيغرز هو {جحيم} حقيقي بكامل تفاصيله وطبقاته الحجرية بما يشبه سجناً رقمياً عملاقاً. في روايته، تحقق القوى الرقمية أحلام الكثيرين، لكنها تجرّدهم أيضاً من حريتهم ومن كل ما يجعلهم بشراً.

سيختفي الفرد في العالم الذي ابتكره إيغرز في كتاب {الدائرة}. فهو سيفقد أهميته وسيختفي طوعاً داخل عالم توتاليتاري يغيب فيه مفهوم السياسة أو الدولة. كل ما يتبقى له هو السعادة القسرية التي توفرها الشركة الرقمية. لكن هل سيكون إيغرز محقاً في نظرته؟

لا حاجة إلى أمثال إيغرز أو أصحاب النبوءات مثل أبطال وادي السيليكون كي يدقوا ناقوس الخطر فندرك حجم الأمور التي باتت على المحك. تتعلق المسألة الفعلية بالحرية الفردية. إنها الحرية التي لا تفرض علينا أن نكون فاعلين بشكل مفرط. إنه الحق بعيش حياة اجتماعية، والحق بعدم القيام بأمر معين لمجرد أنه ممكن، والحق بالحفاظ على طبيعتنا البشرية.

في الوقت نفسه، تلوح فرص جديدة في الأفق. قد يشهد المستقبل تحسن الأوضاع الراهنة. يمكن اعتبار تراجع حالات الوفاة بسبب حوادث السير تحسناً كبيراً، ولا شك في أن تجنب أي حالة وفاة بسبب السرطان هو مكسب حقيقي.

لكن تبرز في هذا المجال أسئلة كبرى، وهي سياسية بطبيعتها، ويطرحها في آن المتفائلون في المختبرات الرقمية والمتشائمون من أمثال إيغرز. يطلبون إجابة سياسية.

لهذا السبب، من الضروري أن يخضع هذا الحوار بشأن المستقبل لقيادة سياسية وألا يقتصر بعد الآن على الناحية التكنولوجية. وحدهم الأشخاص الذين يتبعون توجيهات سياسية واضحة يكونون بمنأى عن التخبط الدائم بين البهجة الهستيرية والتشاؤم القائم على الهلع.

لا شك في أن الصراع سيتصاعد بين الطبقة السياسية التي تكون في أغلب الأحيان منهكة ورجعية، ونخبة وادي السيليكون التي لا تحب تلقي التعليمات من أحد وتفضل صياغة قواعدها بنفسها.

إنها معركة غير متكافئة أيضاً لأن هذه الشركات تفكر وتتحرك عالمياً سعياً إلى تحقيق هدف واحد فقط: غزو سوق تلو الآخر حول العالم. في المقابل، يسعى الطرف الآخر (السياسيون) إلى تحقيق مجموعة مختلفة جداً من المصالح: يريدون حماية الناس من نفوذ الشركات الجارف، فضلاً عن حماية أنظمتهم الاقتصادية والحفاظ على الوظائف القائمة وتأمين فرص عمل جديدة.

الرئيس الأميركي باراك أوباما هو صديق لمنطقة وادي السيليكون ويبدو أن مفهومه الخاص عن حماية البيانات يقضي بالدفاع عن الشركات والمؤسسات الحكومية من الاعتداءات التي تحصل عبر الإنترنت. خلال قمة عن الأمن الإلكتروني في جامعة ستانفورد في وسط وادي السيليكون، دعا الرئيس شركات التكنولوجيا حديثاً إلى تقاسم معلومات إضافية مع الحكومة، لكن رفضت الشركات ذلك الطلب لأن العلاقات بين الطرفين توترت منذ فضيحة وكالة الأمن القومي الأميركية.

لكن في ما يخص الاعتداءات الخارجية، يمكن أن تتكل شركات الإنترنت على أوباما. فقد صرّح في مقابلة له في الشهر الماضي مع موقع  RE/CODE: {نملك شبكة الإنترنت. شركاتنا هي التي صنعتها ووسّعتها وطورتها بطرق لا يمكن أن ينافسها أحد}.

يريد أن يبقى الوضع على حاله. لذا لا سبب يدعو نخبة وادي السيليكون إلى الخوف من فرض تنظيمات أكثر صرامة خلال عهده الرئاسي.

back to top