... مُدن الاندثار العربي!

نشر في 05-03-2015
آخر تحديث 05-03-2015 | 00:01
 عبدالمحسن جمعة مُدننا العربية تحكي واقعنا، وتعكس همومنا، حتى الثرية منها تئن وتشتكي من سوء الأحوال، وتُنذر من تردي الأوضاع الحالية، يزداد الزحام فيها، وتلمح مظاهر الفوضى في كل زواياها، وتخبئ ممارسات الفساد والتسيب في شوارعها الخلفية، ولكن تظهر جلية آثارها في طرقها الرئيسية وميادينها الأثرية، من تلوث وتكدس وتشويه بصري وهدم لمعالمها ورموزها التاريخية وتسميات شوارعها العبثية.

العديد من مدننا الجميلة امتدادها الحديث صاغه وخطّط له المستعمر الأوروبي في بداية القرن الماضي - بيروت والقاهرة ودمشق والدار البيضاء وبغداد - كانت مدناً رائعة في منتصف القرن الماضي، تسحر الزائرين بنمط شوارعها وإطلالتها على أنهارها وبحارها ووديانها ومنارات مساجدها وأبراج كنائسها وميادينها الفسيحة ووسائل مواصلاتها المريحة وحدائقها ومتنزهاتها، ولياليها الخلابة بالمقاهي والمسارح والملاهي العتيقة.

فماذا حدث بعد أن تسلّم تلك المدن زعماؤنا؟ بدأت تلفها الفوضى وانهارت الإدارة المحلية المنظمة مع الزمن بسبب الفساد ومفاهيم «معلهش» و«تكرم» و«حاضر سيدنا»... إلخ، فتزنرت تلك المدن بحزام العشوائيات الناتجة عن هجرة أبناء الريف المهملين إلى المدن، وانهارت كل شروط البناء والجماليات ومعايير السكن الصحي تحت وطأة الرشاوى وغياب سلطة ومراقبة الشعوب على أثر تشويه مفاهيم الديمقراطية وردّ الإنسان العربي إلى غرائزه العرقية والطائفية وثقافته القبلية.

انهارت المدن العربية، فأصبحت القاهرة الجميلة والنظيفة عمارات الطوب الأحمر، وملأت واجهات عماراتها الأثرية دموع الديزل السود حزناً على مدينتهم المبتلاة، واختفى كورنيشها الجميل وسط التجاوزات، وتكدس أهلها الذين لا يريدون أن يسعوا في أرض مصر الكبيرة ويرحموا عاصمتهم من حاجياتهم السرمدية، وتحولت بيروت إلى متاريس مرسومة في النفوس، دون أن تظهر على الأرض وعلى ضواحي الدول الميليشية داخل الدولة الرسمية، وتحولت بغداد مسرحاً لصراعات مضى عليها 1400 سنة، وشبع نهرها العظيم من جثث جيرانه، واختفت منها المسارح لأنها حرام ولا تتفق مع توصيات المرجعية!

 ودمشق دخانها المتصاعد يدل على موقعها، لأن نيرونها الجديد الآتي من اللاذقية يحرقها بلا رحمة وبقبضة حديدية، بينما تتآكل بقية المدن العربية حتى بعض الخليجي الثري منها، بسبب الفوضى والجشع وغياب المسؤولية.

أما بقية المدن المتوسطة والصغيرة فإن أهل الجنون الداعشي يتولون حرقها وهدم آثارها، أو «الحشد» يحرق بيوتها ويغيّر تركيبة سكانها، بل يمحو بعضها من الوجود، في حين يدفع سوء الإدارة وعدم تنمية المجتمعات الريفية إلى ترك بعض السكان لقراهم ومدنهم والرحيل، كما يحدث في بعض دول المغرب العربي. كل ما يحدث لمدننا وتظهره من إهمال وقبح طارئين يعكس حالنا العربي وأزمتنا المستعصية وعدم قدرتنا على تحديات العصر ومتطلباته وسلوكنا طريق التردي والاندثار بسرعة خيالية.

back to top