{الجرح} للألماني التركي فاتح أكين... مجزرة الأرمن في ملحمة شاعرية

نشر في 04-03-2015 | 00:02
آخر تحديث 04-03-2015 | 00:02
بعد فيلمه قبل الأخير {حافة الجنة} 2007، الذي عرض مدة طويلة في الصالات الأوروبية، عاد المخرج الألماني من أصل تركي فاتح أكين مع فيلمه الجديد {الجرح} The CUT بإنتاج ضخم تبلغ تكلفته 21 مليون دولار متجاوزا أي كلفة سابقة لأي من أفلامه، ليقدم في روح أوذيسية ملحمية مأساة الشعب الأرمني والمجازر التي تعرضوا لها في تركيا على يد الجيش العثماني خلال الحرب العالمية الأولى. وقد تعاون المخرج في كتابة السيناريو ولأول مرة مع مارديك مارتن الذي عمل مع سكورسيزي في فيلمين أساسيين هما {ثور هائج} و{شوارع قذرة}.
 بروح شاعرية وجو مليء برموز تاريخية ودينية يستعرض أكين ملحمة هجرات الأرمن  القسرية خلال الحرب العالمية الأولى من تركيا إلى الدول المحيطة، ليتوزعوا لاحقاً ويتشتتوا في بقاع العالم، وذلك عبر قصة عائلة مؤلفة من رجل وزوجته الجميلة ذات الصوت الرخيم وابنتيه التوأم. تعيش العائلة بسلام من جهد الأب الذي يعمل حداداً، إلى أن يأتي يوم يغيّر مصيرها ويجعلها ضحية مأساة رهيبة من موت وتشتت وضياع وهجرة. رموز تحرك وجدان المشاهد عرف المخرج استعمالها بطريقة ذكية. الأغنية الأرمنية أدَّت دوراً مهماً في تلمس معالم رحلة نازاريت الملحمية. أغنية زوجته التي رافقته كتعويذة، كذلك الشال الذي ركضت ابنتاه قبل رحيله بدقائق لتعطياه إياه. رموز رافقت الأب للتفتيش عن ابنتيه خلال أكثر من ساعتين هي مدة الفيلم.

 يؤخذ الأب واسمه نازاريت مانوغيان (أدى الدور الممثل الفرنسي طاهر رحيم) عنوة  من الجيش العثماني عام 1915 بعيداً عن زوجته الشابة وابنتيه التوأم إلى الخدمة العسكرية، التي يظهر في ما بعد أنها عمل سخرة في شق الطرقات ثم التصفية الجسدية، لسبب عرقي وديني، أي لأنهم أرمن، بعدما خُيّروا بين إشهار إسلامهم أو القتل. تجرى عملية تصفية وحشية للرجال الأرمن كلهم، لكن نازاريت وبفضل الصدفة يبقى على قيد الحياة، فيما تركته محاولة تصفيته عبر نحره أخرساً لا يقوى على الكلام. ينقذه سجين سابق، اسمه محمد تلقى أوامر بذبح الرجال الأرمن، بحيلة أبقت نازاريت على قيد الحياة.

رحلة الموت

 يسير الاثنان في الصحراء ويقاسمه السجين طعامه وماءه، ثم يلتحقان بجنود هربوا من الخدمة وتحولوا إلى قطاع طرق للبقاء على قيد الحياة. في لحظة ما، يترك نازاريت الجميع ويبدأ جلجلته الخاصة وحيداً في الصحارى والجبال الجرداء، بحثاً عن عائلته بعدما علم أن الجيش العثماني دخل إلى ماردين وطرد النساء والأطفال ودفعهم إلى السير في الصحارى باتجاه عين العرب وحلب، وساد رحلتهم الموت من العطش والبرد والجوع. كذلك تعرضت النساء للاغتصاب والقتل والبيع في سوق البغاء.

 يبدأ نازاريت الأخرس مسيرة بحث شاقة تذكرنا إلى حد بعيد بفيلم {يسوع كما جاء في إنجيل القديس متى} للمخرج الإيطالي بازوليني.

في جلجلته الصحراوية، يلتقي نازاريت برجل حلبي اسمه عمر سليمان (أدى الدور الفلسطيني الإسرائيلي مكرم خوري) يبيع صابوناً يصنعه في حلب. يعرف سليمان فوراً أن نازاريت الذي ما عاد يقوى على الكلام أرمني، فيخبئه في عربته التي يجرها البغل خوفاً من الجيش العثماني، ويدخله إلى معمل الصابون الذي يملكه. هناك يقيم نازاريت، وتبدأ بعد ذلك مرحلة انهيار الإمبراطورية العثمانية وخسارتها في الحرب، وهزيمة الأتراك ورحيل جيشهم وتجارهم ومناصريهم عن حلب، ويقفل مصنع الصابون لأنه أصبح ملجأ لآلاف العائلات الأرمنية الهاربة من مجازر العثمانيين في القرى والبلدات التركية. هناك يلتقي بأحد أبناء قريته الذي يخبره بأن زوجته قتلت وأن ابنتيه أخذتا إلى أحد الأديرة في سورية أو في لبنان.

 يبدأ الأب مشوار زيارة الأديرة كلها، وفي أحد الأديرة في لبنان تعلمه المديرة أن ابنتيه سافرتا إلى هافانا في كوبا للزواج من أرمنيين يعيشان هناك، وأن إحداهما وبسبب السير الطويل تعرضت لحادث جعل منها عرجاء. رحلة أخرى يقوم بها إلى كوبا وتنتقل معه كاميرا أكين الضيقة في تصوير الأماكن الجديدة. أما الأماكن المفترض أن تكون في حلب فقد صُوَرت في المغرب. أكين أظهر العرب في فيلمه كما يليق بتاريخ سورية ولبنان، خصوصاً بيروت وحلب كملجأ للأقليات الهاربة من الطغيان والجور في أسيا وأوروبا.   

يلحق نازاريت بابنتيه ويبدو إلى حد كبير في رحلة أوذيسية لا تنتهي، إذ يكتشف في هافانا أن ابنتيه لم تتزوجا وسافرتا إلى مينابوليس في الولايات المتحدة الأميركية. وحين يتبع خطواتهما ويصل إلى أميركا يتعرض لأنواع العذاب كافة والاستغلال والعنف الجسدي من عمال أوروبيين مهاجرين يلعنون في كل لحظة اليهود، ويطلقون على كل عامل يرفضونه «اليهودي». هكذا أطلقوا اسم اليهودي على نازاريت بعدما أشبعوه ضرباً وركلاً على سكة الحديد لأنه حاول تخليص امرأة من الاغتصاب.

 

العدالة

أبرز محاولات فاتح أكين، وإن جاءت خجولة وغير مباشرة، وضع تجربة الأرمن كجريمة ضد الإنسانية، وذلك على قدم المساواة مع جرائم النازية ضد اليهود، عبر إشارات عدة ظهرت في الفيلم: في السيناريو وصور المجازر، وفي سير النساء والأطفال الجماعي إلى حتفهم. ولا نستبعد أن سبب النقد غير العادل الذي تعرض له الفيلم من نقاد لا يعترفون بمجازر أخرى في التاريخ، هو هنا: أي محاولة المخرج العادلة والشريفة في إبراز مأساة شعب أسوة بغيره من الشعوب.

تلك الإشارات اللافتة التي حاول أكين وضعها بين طيات السيناريو لم تجد اقبالاً لدى النقاد. إلا أن من انتقد الفيلم تجاهلها ولم يشر إليها، بل حاول التقليل من أهمية الفيلم بانتقاء نقاط معينة لم تؤثر على جودة الفيلم. مثلاً، وجدوا في التنقل في اللغات بين التركية والأرمنية والعربية والإنكليزية ضعفاً في الفيلم، بينما هي محاولة ذكية من المخرج لإعطاء صورة عن المرحلة التاريخية آنذاك التي اختلطت فيها اللغات وكثرت مع كثرة التدخل الأجنبي السياسي في الإمبراطورية العثمانية عشية الحرب العالمية الأولى. حتى السلاطين أنفسهم توقفوا عن التحدث في بيوتهم باللغة العثمانية، خصوصاً أولئك الذين أتت أمهاتهم من أوروبا الغربية كالنمسا وفرنسا وإنكلترا.

تضاربت أراء النقاد السينمائيين إزاء فيلم فاتح أكين الأخير. لكن من المؤكد أن المقالات التي بالغت في النقد، لا بد من أن المقاربة السياسية لكتّابها أسهمت إلى حد بعيد في زيادة «الجرعة الانتقادية»، لا النقدية للفيلم. إلى جانب تلك المقاربة ثمة الرغبة الدفينة لدى بعض النقاد الغربيين برؤية فاتح أكين كمخرج تركي تتكلم شخصياته التركية وتصور أفلامه المهاجرين الأتراك في رحلاتهم المكوكية ذهاباً وأياباً بين أوروبا وتركيا. في رد لاذع للمخرج على انتقادات قاسية طاولت فيلمه، قال إن ثمة نقاداً لم يتحملوا أنه خطا تلك الخطوة نحو العالمية والتكلم بلغة يفهمها الجميع وهي الإنكليزية، وأنهم اعتادوا عليه مخرج أفلام تتكلم شخصياتها التركية أو الألمانية على أبعد تقدير وأنهم يرغبون في أن يروه دائماً في تلك الدائرة. كان رد المخرج محقاً ومنطقياً.

لعل أكين أخطأ في اختيار طاهر رحيم لأداء دور البطولة، وقد رأيناه يجسد شخصية سمير في فيلم «الماضي» للمخرج الإيراني أصغر فرهدي ولم يكن لامعاً فيه أيضاً. لم يستطع رحيم أن يتجلى في فيلم أكين، خصوصاً  في دور الأخرس الذي يتطلب الاعتماد على تعابير الوجه والجسم، والتي فشل الممثل في تجسيدها. نادراً ما رأينا تغيرات ملحوظة في تعابير وجهه، إلا في لحظات قصيرة جداً مثل غضبه أثناء محاولة العمال الأميركيين اغتصاب امرأة كانت تمر بالقرب منهم، أو حين كان يشاهد فيلم شارلي شابلن الصامت «الولد». حتى في المشهد الأخير حين التقى بابنته التي أخبرته بموت شقيقتها، لم يتغير وجهه ولا تعابيره. إلا أن الخطأ في اختيار الممثل الرئيس لم يفقد الفيلم أهميته الإنسانية والتاريخية.

أقل ما يمكن أن يقال عن فيلم أكين الذي أنتج بمشاركة أرمن من روسيا وأرمينيا وتركيا، هو ما قاله المخرج نفسه في إحدى المقابلات الصحفية: «هذا الفيلم ليس عن مجزرة الأرمن. إنه فيلم عن قصص وأشياء كثيرة أردت التحدث عنها. أردت أن أرسل تحية إلى صديقي هرانت دينك الذي قتل في تركيا على يد أصوليين أتراك. قد لا يكون الفيلم أفضل أفلامي إلا أنه الأكثر نزاهة!».

الفيلم الذي عرض في دول أوروبية عدة بمناسبة المئوية الأولى لذكرى مجزرة الأرمن عام 1915، نسمع في نهايته الأخرس ينطق باسم ابنته الباقية على قيد الحياة. فقد النطق خلال الفيلم كرمز للصمت العالمي. إلا أنه استعاد نطقه وفي الاستعادة تأكيد قوي لرفض السكوت بعد الآن.

back to top