الفلسطيني عاطف أبو سيف: غزة فيها من الحياة ما يكفي

نشر في 01-03-2015 | 00:01
آخر تحديث 01-03-2015 | 00:01
روايته {حياة معلقة} ضمن قائمة الـ{بوكر} القصيرة
لجملة الأرواح التي يخطفها الموت في غزة حكايات كثيرة، كانت لها ابتسامات ودموع وأغراض وبيوت، وهنا وهناك أحباء يفتقدونها. تروي {حياة معلقة} حكاية {نعيم} الذي اعتاد أن يطبع صور شهداء في ملصقات ازدحمت بها غزة ومدن القطاع. بكى كلما {حوَّل} صورة طفل أو شاب إلى ملصق، إلى أن اغتاله قناص إسرائيلي أمام مطبعته ليصبح هو {بطل} الملصق. يرجع ابنه {سليم} من إيطاليا لحضور الجنازة، حيث يخوض مع المناضل {نصر} نقاشاً طويلاً إذ يرفض طباعة أي ملصق لوالده لأنه لا يريد له أن يُختزل في صورة. حتى إنه لا يراه بطلاً بل ضحية.

حول البطولة والهزيمة، والموت والحياة، ومواجهة العدو، ومشهد الانقسام الذي تعيشه فلسطين... يتحدث صاحب {حياة معلقة} المرشحة للفوز بالـ{بوكر} الكاتب الفلسطيني د. عاطف أبو سيف.

كروائي فلسطيني، ماذا أضاف إليك ترشح {حياة معلقة} لـ{البوكر}؟

المؤكد أن البوكر تسلط الضوء على الأعمال التي تترشح، من ثم هي توفر للقارئ فرصة التعرف إلى الأعمال المتنافسة. كوني فلسطينياً ومن غزة، فإن فرصة احتكاكي بالقارئ العربي ضعيفة بحكم الجغرافيا الضيقة والمحاصرة. هذا التفاعل بمعناه الإيجابي هو فرصة للخروج وراء أسلاك الجغرافيا.

كتبت قبل {حياة معلقة} أربع روايات نشرت كلها في فلسطين، تحديداً في غزة، وكان مجتمع القراء ضعيفاً ومحدوداً، ولم تحظ بكثير من الانتباه والنقد وظلت أسيرة الجغرافيا. كانت {حياة معلقة} أكثر حظاً إذ نشرت في عمان وتوزعت في البلدان العربية وترشحت للبوكر. بالطبع أشعر بالسعادة أنها وجدت فرصتها وقراءها ووصلت إليهم بشكل لائق. أسهمت هذه الجائزة في ذلك، إذ بات القارئ، كما الصحافة، يريد أن يتعرف إلى الأعمال الروائية التي تلفت انتباه البوكر. عموماً، جميل أن نلحظ أن كتاباتنا تلفت الانتباه، لأنني ككاتب أريد لعملي أن يجد من يقرأه ويتفاعل معه.

 

هل أنصفت الصحافة روايتك قبل أن تُنصفها الـ{بوكر}؟

كما ذكرت سابقاً، لم تدخل الرواية فلسطين لأنها طبعت في عمان قبل العدوان الأخير على غزة. حتى إنني وتحت وطأة البحث عن الحياة خلال عدوان صيف 2014 لم أسأل الناشر عنها. فوجئت أنه رشحها للبوكر حين أبلغني بذلك لحاجتها إلى إكمال بعض أوراق الترشح. حقيقة أن الرواية ظلمت بهذا المعنى، فحتى خبر حول صدورها لم يظهر في الصحافة المحلية في فلسطين التي أكتب فيها بشكل دوري. كانت شدة الحياة أكثر وقعاً من متابعة الراوية. كنت أنظر إلى مخطوط الرواية وأشعر بألم أن تدفن تحت عجلات الإهمال وغياب النقد والمتابعة. ولحسن حظي وحظها أن هذا لم يحصل.

 

روايتك بعيدة تماماً من الشعارات البطولية والندب. ما هي في رأيك أسباب المبالغة في الخطاب البطولي وفي شعارات النصر في بلدان عربية؟ وهل هي غطاء هزيمة؟

يتعلق أحد أسئلة الرواية بالبطولة. البطولة كلمة كبيرة يبحث الناس عنها من دون أن يدركوا أن الحياة ذاتها هي البطولة في أصفى قيمها وأكثر نقاءً. ثمة حديث مبالغ فيه عن البطولة، حديث ممجوج. البطولة تشبه عباءة يتدثر فيها الكل من دون أن يكون جاداً في الدفاع عن القيم التي تمثلها والتي هي تجسيد لها. ثمة اتجاهان يمكن لهما أن يفسرا هذا الزعم حول البطولة، تحاول الراوية أن تجيب عنهما أيضاً: أن تكون ثمة حاجة إلى البطولة بمعني أن السياق يتطلب التضحية التي هي ترجمة {البطولة} وانبعاثها من الواقع المعاش، أم أن تكون الحاجة إلى البحث عن فضاءات يمكن عبرها تجاوز الهزيمة وحالة الضعف والهوان من خلال التشدق بمجد زائف. أظن في كثير من الحالات يمكن لنا أن نتلمس الوضع الثاني. ولكن ثمة بطولات مخفية لا نتلمسها ولا نشعر بها لأنها لا تجد نفسها في الخطاب العام الذي يهيمن عليه خطاب بطولة زائف، عادة ما يكون رجعياً وسطحياً ومهيناً للذاكرة الجمعية.

في {حياة معلقة} البطولة هي بطولة الحياة. بالطبع الفداء والتضحية وليس الندب كما أشرتِ، هما جوهر البحث عن الحياة إذا اقتضت الحاجة. ولكن حين تكتبين عن سياق تشكّل البطولة ومن ثم التضحية أحد أهم مكونات بقائه كما هي الحال في السياق الفلسطيني الذي يعيش صراعاً وجودياً مريراً منذ أكثر من قرن من الزمان، يجب أن تحذري الوقوع في {مطبات} الصراخ والعويل والشعارات والندب والولولة. هذه الشعارات يمكن للسياسي أن يقدمها، كما يمكن للمقاتل أن يكون أكثر براعة منك في تصوير البطولة الحقيقة. ككاتب عليَّ أن أبحث عن القيم الكبرى وراء ذلك كله.

 

يقول {سليم}، وهو شخصية رئيسة في الرواية: {يعز عليّ أن يتحوَّل أبي إلى مجرد صورة على جدار... لم يكن ذلك إطلاقاً. كان يحزن حين يرى الشباب صوراً على الجدار}... هل تحوَّل الشباب الفلسطيني الذي لم يغادر فلسطين إلى مجرد أرقام؟

ذهلت كيف يتحوَّل أصدقائي إلى ملصقات معلقة على الجدران. حتى الآن لا أقوى على تعليق ملصق واحد داخل بيتي لأحد أحبائي الذين سقطوا على الدرب، وفي مقدمهم أخي الأعز. مرعبة فكرة أن الإنسان يمكن له أن يتحوَّل إلى رقم. يمكن لمذيع نشرة الأخبار أن يحوله إلى مجرد خانة في رقم أكبر إذ يقول: {قتل 20 مواطناً في المواجهات}، أو في القصف الإسرائيلي. لكل من هؤلاء قصة، عالم بحد ذاته، فضاء يمكن له أن يفصح عن طاقات بحجم الكون.

تركَّز نقاش سليم على هذه الفكرة. والده الذي اعتاد أن يطبع صور الشهداء ويحولها إلى ملصقات لا يمكن له أن يتحوَّل في نهاية المطاف بعدما أصابته رصاصة قناص إسرائيلي إلى ملصق ورقم. نعيم صاحب المطبعة لم يكن سعيداً بهذا العمل وكان يبكي كلما {حوَّل} صورة طفل أو شاب من المخيم إلى ملصق. هنا ينفتح السؤال الأكبر حول البطولة بهذا المعني المجازي. فهي ليست شعاراً وملصقاً، بل قيمة أعمق تتعلق بالحاجة إلى الحياة والبحث عنها، وهو نضال متعدد الجوانب والأشكال.

كنت أشعر في مرات أن شوارع المخيم جدران متحف لا يعرض إلا صور الأموات. هنا وهناك ملصقات بالجملة. طبعاً شعارات ملونة مخطوطة على الجدران تمجد البطولة والشهادة، وتنعي الذين رحلوا وتتوعَّد العدو. بين ذلك كله، ربما نجد رسم قلب قدمه مراهق لفتاة تمر من الزقاق في طريقها إلى المدرسة، في تواصل مذهل مع الحياة.

ثمة بحث وتوق إلى الحياة كبيران، رغم ذلك. لا اقصد أن من لم يغادر تحوَّل إلى رقم، بقدر محاولتي تسليط الضوء على حكايات كثيرة تختزلها الأخبار وتضيع في البحث عن الصراخ والندب. مثلاً قصة نعيم صاحب المطبعة في المخيم كانت لتتحوَّل إلى مجرد رقم في نشرات الأخبار، فيما أن حكايات كثيرة ولَّدها استشهاده. الفلسطيني ليس رقماً في ماكينة الصراع، هو إنسان له حياته كما له أحلامه وخيباته وآلامه وسعادته المفقودة. وله حياته المعلقة التي تنتظر الإفراج عنها حين يتحقق حلمه بحياة هانئة.

تبحث عن الحياة في الرواية إذ تقول: {ليست البطولة أن تموت مجاناً، أن تموت بسبب خطأ وسوء تدبير، بل هي أن تعرف ماذا تفعل، وأن تفعله بطريقة سليمة حتى لو كلفك ذلك حياتك}... كيف تقرأ مشهد ضحايا غزة في العدوان الأخير؟

غزة مدينة بعمر التاريخ لم تتمتع بشبابها. تعيش حرباً تلو أخرى منذ زمان بعيد. من هنا نحن نولد في الحروب ونموت فيها. ليس في الأمر متعة. لأن الموت لا يمكن أن يكون شيئاً ممتعاً كما أن الفقد ليس بالأمر المشتهى والمبحوث عنه. حياتنا فسحة بين موتين بهذا المعني.

أكلت الحروب من غزة وشربت حتى انهكتها. سألتني صحافية سويدية بعد العدوان الأخير على غزة: {من انتصر؟}. أجبت {أنا}. قالت كيف؟ لأنني نجوت في نهاية الأمر. أعيش لأن صدفة جعلتني أفلت من ماكينة الموت الفتاكة. لكن كم صدفة بقيت في جيبي، وجيبه وجيبها للمرة المقبلة؟ الأمر يشبه الحظ. خلال القصف وصوت الطائرات الزنانة يأكل هدوءنا والمدفعية تصبّ جام غضبها حولنا، كنت أنظر في الليل إلى أطفالي غير متيقن أنني سأراهم في الصباح أو أنهم سيرونني. فكرة الموت بشعة. فقدت الكثير خلال رحلة الحياة. أعرف كيف يذهب الموت بالأحبة، وأن الحياة هي أغلى ما قد نبحث عنه. هذه الأمور كافة كانت تعتمل في عقلي وأنا أفكر في {حياة معلقة}.

بالطبع ثمة موت مجاني كثير، وسوء فهم للبطولة كما ناقشنا. ولكن رغم ذلك فإن غزة مدينة فيها من الحياة ما يكفي. فيها ما في مدن العالم رغم قسوة واقعها. في {حياة معلقة} قصص حب وجشع وجبن، فيها المقاتل البطل الذي صار بواباً يحرس أحد المسؤولين، ورجل الدين المتزمت الذي يريد للدين أن يشتغل عنده، ورجل الدين البسيط الذي يعرف أن الله يحب الناس ولا يريد الشقاء لهم. فيها ذلك كله لأن البحث عن الحياة يقتضي صراع المواقف واختلافها.

 

كأنك ترصد يوميات الغزيين في الرواية، هل تحمل هم أبناء قطاع غزة؟

الكاتب ابن مجتمعه. أذكر ذات يوم راجعني المحقق في مقال كتبته. سألني: {لماذا لا تكتب عن رام الله أو عن أي مكان آخر؟. فأجبته: {ببساطة لأنني أعيش في غزة، وأعرفها بتفاصيلها كافة، ولا مكان آخر لي في العالم إلا هنا. لا أستطيع أن أكون من أي مكان آخر}. بالعودة إلى {حياة معلقة}، هي تدور في مدينة غزة وفي المخيم بجوارها. من ثم هي مدينة المكان بامتياز، ومدينة ساكنيه أيضاً. ترصد واقع المدينة خلال السنوات الثلاثين الماضية منذ الانتفاضة الأولى حتى اللحظة. تعرض التحولات الكبري التي ضربت المكان، السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. تحولات لم تمس فقط المكان وقيمته ومركزيته وهامشيته، بل طاولت الناس بشكل جوهري في ظل هذا التشابك بين المكان وساكنيه.

هل أحمل هم أبناء قطاع غزة؟ سؤال كبير والإجابة بالإيجاب عليه تحمل كثيراً من الزعم، كما أن نفيها يعني التحلل من مسؤوليتي كمواطن وككاتب تجاه المجتمع. هي {نعم} مترددة. أنا مواطن، وكأي مواطن أنظر إلى مجتمع أفضل وأتألم من كل ما يصيب غزة من مصائب، وأظن أننا نستحق حياة أفضل من هذه. حياة تليق بكرامتنا وبآلامنا وتضحياتنا وماضينا. ككاتب، فإن دوري الافتراضي يتطلب مني أن أقوم بالوفاء لهذا المجتمع ومساعدته في البحث عن المستقبل، ونقل واقعه بما يحمله من مرارة وألم للقول إن ثمة حياة أفضل يمكن لها أن تتحقَّق، بعيداً من التبشير والتنظير.

 

لم تصل الرواية إلى غزة، ولكنَّ الغزيون عموماً قرؤوا عنها لا شك. هل لاحظت رد فعل معيناً، وهل تهتم برأي القارئ الفلسطيني تحديداً؟

لم تصل الرواية إلى غزة حتى الآن. كأن لها نصيباً من اسمها، فهي معلقة كما الحياة التي تتحدَّث عنها. أو كأن واقعها أصابها بلعنة فظلت معلقة على الحواجز تنتظر أن تقفز من فوقها. كثير من الأصدقاء يسألونني عنها. شعرت بسعادة الصحافيين هنا على الرغم من أنهم لم يقرؤوا الراوية. فرحوا لأن ثمة رواية من غزة وصلت إلى قائمة البوكر القصيرة، لا سيما بعد الإحساس بأن ثمة ظلماً وقع على غزة. هي مدينة الأخبار بامتياز، وقعت ضحية صورة نمطية ممعنة في التأطير والتمظهر الخارجي بوصفها تنتج أخباراً ودماراً وقتلاً، ونشرات وتحليلات ومعلقين ولا شيء آخر. حتى إن مراسلة أميركية لصحيفة {هآرتس} الإسرائيلية علَّقت على مسرحية كتبتها وعُرضت في مركز الهلال الأحمر في مدينة غزة: {حتى إن لديهم مسرحاً في غزة}. كأنه كُتب لغزة ألا يكون فيها مسرح ولا رواية. في غزة حياة أدبية ناهضة وناضجة ويمكن لها أن تثري المشهد العربي بكثير من الأعمال الراقية. لكنها مدفونة تحت عجلات الإهمال والحصار.

لم تخلُ الرواية من مشهد الانقسام الذي تعيشه فلسطين، ما العمل لينتهي الانقسام في رأيك، وأنت الدارس في السياسة؟

واضح أن النخبة السياسية عندنا مدمنة انقسام، تخاف أن ينتهي فلا تجد ما تتلهى به، لأن النضال التحرري ضد إسرائيل صارت متطلباته أكثر ثقلاً على هذه النخبة. وصل الانقسام إلى قاع حياتنا، حتى بات يمس أمورنا كافة بما فيها العلاقات الإنسانية والشخصية. حتى حين نشاهد مبارة كرة قدم نقع في هاجس الانقسام والاستقطاب السياسي. طبعاً هذا وضع مؤلم ومن المخزي أن نصل إليه. ويزيد الأمر حيرة حين نعتقد أن ثمة فرصة للخروج من النفق ونكتشف أننا كلما وصلنا إلى نهاية النفق نجد هناك من يحفر المزيد منه.

يبدو الانقسام واضحاً في الرواية حين تحاول السلطة السياسية مصادرة التلة التي ينظر إليها سكان المخيم بكثير من القداسة والهيبة، لأسباب تتحدَّث عنها الرواية، وينقسم المجتمع بين مؤيد ومعارض. ومن ثمة ينشأ الصراع الذي يؤدي إلى استشهاد الحاج خليل، أول من سكن التلة. لا أريد أن أتحدث عن الإحالات الرمزية لهذا الصراع، لكنه صراع من قلب الواقع ويترجم حالة الانقسام، حتى المفاهيمي، الذي أصابنا.

الحل سهل لكنَّ النية غير موجودة. لا يتوفر قرار بإنهاء الانقسام. والنخبة السياسية مستمتعة بالوضع وتحسبه أبدياً. إذا تمَّ التنازل عن المطالب الحزبية الضيقة والنظر إلى الأمور من زاوية أوسع، فيمكن التقاط كثير من الصور الإيجابية. ثمة اتفاقات مناصفة ومحاصصة وتوزيع للكعكة. في قديم الزمان قبل أقل من قرن قال شاعرنا الراحل ابراهيم طوقان: {وطن يباع ويشترى/ وتصيح فليحيا الوطن}.

تصف روايتك بالـ{مجتمعية}، ما الذي يميز هذا النوع من الروايات؟

قصدت برواية المجتمع تلك التي تبحث في الحديث عن المجتمع كما هو، بخيره وشره، نجاحاته وفشله، سعادته وحزنه. هي نقيض راوية الأفكار التي تدور أحداثها عادة في عقل الكاتب أو شخصيته. عموماً، يبدأ الروائي بالكتابة وفي ذهنه فكرة يريد لها أن تتحقق في الرواية. لتكون الأخيرة وشخوصها وأماكنها {كومبارساً} لتجسيد الفكرة. من ثم، يغيب الواقع والمكان ولا يُستحضران إلا بقدر حاجة فكرة الرواية إليهما.

الرواية المجتمعية وفية للمجتمع الذي تتحدَّث عنه. تجده بمكوناته وشرائحه وصراعاته وتناقضاته كافة، وفي لحظات صفائه. ببحثه عن الحياة ودفاعه عنها. بهذا القصد، الرواية سيدة نفسها وليست فكرة وهاجساً في عقل الكاتب. خلال كتابة {حياة معلقة}، كنت أجد قدر الشخصيات يتقرر برغبتها ورغماً عني غالباً. كانت الشخصيات تقفز من فوق الورق وتجادلني في مستقبلها. ليس هذا قولاً في المجاز أو التوصيف، بل هي حقيقة. الحاج خليل مثلاً، حين أمته في أول مرة أفاق رغماً عني، لأن واقع الناس في غزة يميل إلى الأسطورة والقداسة والتمجيد. وجدت شخصيات الرواية تزوره في مستشفى الشفاء وتجعل منه قديساً، لذا كان لا بد أن يفيق مثلما قد يفعل أي قديس في التاريخ. وفعل. ثم مات بمزاجه في نهاية الرواية. في هذا السياق، فإن المجتمع بعالمه المتنوع يقرر مصير الراوية وليس كاتبها. ما علاقة الكاتب بهذا كله؟ سؤال طالما كان هاجس الأدب.

 

كيف تنظر إلى الأدب الفلسطيني الشاب؟

يستمر نهر الأدب العظيم. والنهر الفلسطيني لم ينضب يوماً. ثمة كتابات لافتة دائماً وقادرة على ضخ دماء جديدة وأفكار براقة. والأدب الفلسطيني الشاب ملهم ومتنوع ومطلع ومنفتح، خصوصاً في ظل عالم الإعلام الاجتماعي والتواصل المعاصر.

 

كيف تقرأ منعك من أمن حماس من حضور مؤتمر الإعلان عن القائمة القصيرة في الدار البيضاء بالمغرب؟

أسوأ ما في الحالة الفلسطينية خلط الأوراق الغبي الذي نقع فيه، حيث لا تفريق بين السياسة والثقافة. بل إن الثقافة هي أبخس وأرخص ضحايا الأنقسام بحسب وجهة نظر السياسي ورجل الأمن. أبعد من ذلك. أنظري كيف تتعاطى المؤسسة الرسمية بإهمال وتحيز مع الثقافة عموماً هنا لتعرفي حجم المأساة التي نعيش. رجل الأمن على الحاجز موظف لديه تعليمات للتنفيذ. لا يعرف كيف يجيب عن أسئلتي، كذلك لا يميز بين الحيزين العام والخاص. ولما كان السياسي يعطيه الأوامر، فإن الضابط الكبير لا يميّز أيضاً، ويُطلب منه ألا يفعل. للأسف، الفلسطيني المحاصر في غزة يحاصر نفسه من خلال مثل هذه الإجراءات القاسية التي تجعل حياتنا أكثر ثقلاً.

أن يمنع المواطن من السفر من بلاده فكرةٌ مهينة بحد ذاتها للكرامة والإنسانية. الاحتلال يمنعك، والنظم القمعية والشمولية. أما {شعب} يبحث عن الحرية فلا يمكن له أن يسلبها من نفسه، ويحرم المواطنين منها.

حزنت كثيراً. تمنيت لو أنني شاركت في مثل هذه التظاهرة الأدبية، لا سيما أنني الكاتب الوحيد من غزة الذي كان مدعواً إلى المشاركة في معرض الدار البيضاء. حصلنا على فرصة أن تكون غزة المحاصرة المدمرة المنكوبة هناك، أن تحرج من حاصرها ولو مجازاً. لكن ثمة من رفض ذلك!

هل ستكون روايتك المقبلة أسيرة الألم الفلسطيني؟

أريد أن أكون وفياً بامتياز لألم جدتي عائشة، لدموعها وهي تسرد قصص طفولتها وشبابها في يافا. كنتُ كلما بكت ظننت أنها تبكي للمرة الأولى في حياتها على هذا الزمن الجميل. لكن ما أقسى البكاء حين يتخمَّر ويعتق، وما أكثر مرارة النفس حين يهبط القلب في قاع سحيق. ثمة ألم لا يحتمل وحكايات تنضح حزناً وبحثاً عن مستقبل لم يعد ممكناً. كان عائشة بارعة في السرد وتشدّك من قاع قلبك وهي تروي حكاياتها. كانت بارعة في رسم يافا، تحفظ الشوراع وأماكن سكن الجيران والمستشفى والسوق والمقهى. ذلك كله كانت تجسده في بانوراما مشهدية سينمائية. تلك الاستعادات وذلك الإمساك بالماضي يحملان سحراً مؤثراً في مخيلتي. ليس الهرب سهلاً في هذه الحال، ومن الصعب أن أجد نفسي خارج سياق المكان والذاكرة وكومة الأحلام المكسرة التي أراها تلالاً شاهقة خلف عقول الجيران، وفي شموع مطفأة في أعين صبية يركضون في أزقة لا تتسع لهرولة أقدامهم وتدافعها نحو المستقبل.  

أجد نفسي أسيراً لهذا الألم، مُطالباً بأن أكونه، بأن أعيشه وأخبر عنه. الكاتب مطالب من الجميع بالوفاء، ولكل نسخته  الخاصة من الوفاء. لكنه مطالب أكثر بالالتزام بنصه، بالبحث عمَّا يجعل النص السردي تعبيراً حقيقاً عن الناس، وفي الوقت نفسه حاملاً لقصة البشرية وألمها وأحلامها وضعفها، لصراعها الأزلي بين الخير والشر، ولانحدار الروح البشرية وانبعاثها من رقادها رغم ذلك؛ مطالب بأن يجعل من ذلك كله ممكناً بغض النظر عن هوية القارئ.

حين بدأت أكتب في تلك الدفاتر الصغيرة قصصي الأولى، وأنا لم أزل في المدرسة الثانوية كنت فرحاً سعيداً لأنني أحاول أن أعيد ألم الناس وأستجمع شجاعتهم المفقودة تحت عجلات قسوة الواقع.  كنت أريد أن أكون وفياً لآلام عائشة وأحلامها الضائعة ولحياتها المعلقة في انتظار تحقق حلمها باستعادة الماضي. حتى حكايات جيراني عن الصيد في بحر يافا وعن الألم والحروب كتبتها. إنها ذات الذاكرة التي بدأت فيها روايتي {حياة معلقة} بالقول: {ولد نعيم في الحرب ومات في الحرب أيضاً}. هذا الموت ليس صدفة رغم كونه صدفة.

نبذة

عاطف أبو سيف كاتب فلسطيني ولد في مخيم جباليا، غزة، عام 1973 لعائلة هاجرت من مدينة يافا. حصل على بكالوريوس من جامعة بيرزيت وماجستير من جامعة برادفورد في بريطانيا ودكتوراه في العلوم السياسية والاجتماعية من جامعة فلورنسا في إيطاليا. يعمل أستاذاً للعلوم السياسية في جامعة الأزهر بغزة ويرأس تحرير مجلة «سياسات» الصادرة عن معهد السياسات العامة برام الله. صدر له أربع روايات: «ظلال الذاكرة» (1997)، «حكاية ليلة سامر» (1999)، «كرة الثلج» (2000) و{حصرم الجنة» (2003). كذلك أصدر مجموعتين قصصيتين وثلاث مسرحيات ومجموعة من الكتب البحثية في العلوم السياسية، من ضمنها «المجتمع المدني والدولة: قراءة تأصيلية مع إحالة للواقع الفلسطيني» (2005). يكتب مقالاً أسبوعياً في جريدة «الأيام» الفلسطينية.

back to top