جيف بيزوس يقود واشنطن بوست نحو مستقبل رقميّ

نشر في 28-02-2015
آخر تحديث 28-02-2015 | 00:01
اجتاحت موجة من الحماسة مكتب صحيفة «واشنطن بوست» التي شهدت فترة من الاضطرابات مؤخراً، وذلك بعد أن اشتراها في شهر أغسطس مؤسس شركة «أمازون» جيف بيزوس، وهو يعمل على تحويل الصحيفة إلى مختبر يتماشى مع المستقبل الرقمي. هل سينجح في إنقاذ قطاع مريض؟ حضر جيف بيزوس لتقديم واجب العزاء لصحيفة «واشنطن بوست». استقلّ الرئيس التنفيذي لموقع «أمازون» طائرة في سياتل في وقت متأخر من المساء كي يصل في الوقت المحدد لحضور الجنازة في واشنطن في ذلك الصباح.

إنه يوم 29 أكتوبر، وقد كان يوماً خريفياً وضبابياً حيث اجتمعت نخب واشنطن أمام الكاتدرائية الوطنية، منهم كبار السياسيين والناشرين وأهم الصحفيين في الماضي والحاضر. لقد حضروا جميعاً لدفن «أسطورة الصحافة» بن برادلي. هو كان رئيس التحرير حين كشفت صحيفة «واشنطن بوست» عن فضيحة «ووترغيت» في بداية السبعينات، ما أدى حينها إلى سقوط الرئيس ريتشارد نيكسون وضمان مكانة دائمة للصحيفة في كتب التاريخ الأميركي.

جرى الاحتفال بهذا الماضي المجيد في ذلك اليوم مجدداً. بدت المراسم عبارة عن مهرجان لاستذكار أفضل أيام «واشنطن بوست» وقيمها باعتبارها صحيفة مستقلة ونزيهة ومؤثرة.

وقف بيزوس، بربطة عنقه الغريبة، على مدخل الكنيسة وكان يضع هاتفه الذكي على أذنه. خلال حفل التأبين، بدا تائهاً بعض الشيء فيما كان يتحرك بين الحشود. هو لا ينتمي إلى هذا العالم، لكن أصبحت «واشنطن بوست» صحيفته الآن. فهو اشترى الصحيفة في أغسطس 2013، فأنقذها بذلك من انهيار وشيك. اشترى مؤسس شركة «أمازون» الذي يملك ثروة شخصية بقيمة 250 مليون دولار الصحيفة من الناشرين فيها، أي عائلة غراهام التي كانت تتخبط لقيادة تلك الصحيفة العريقة تاريخياً نحو المستقبل الرقمي. وقع خبر تلك الصفقة كالصاعقة على عالم الصحافة، فقيل عموماً إن «الاقتصاد الجديد» تغلّب على «وسائل الإعلام القديمة». اعتبر المتفائلون أنّ بيزوس هو المنقذ الرقمي لمهنة الصحافة المريضة، بينما اعتبر المتشائمون أنّ صفقة الشراء تعني انهيار قطاع الصحافة نهائياً. حتى في صحيفة «واشنطن بوست»، لم يكن أحد واثقاً بأنّ بيزوس يمثّل المستقبل أو أنه سينهي بكل بساطة ماضي الصحيفة اللامع.

أمام الكنيسة، حمل مراسلون من «بوست تي في»، خدمة الفيديو التابعة للصحيفة، كاميرا أمام بيزوس. هو قال إنه لم يقابل برادلي يوماً للأسف، لكنه سأل: «هل يمكن أن يتمنى الفرد مستقبلاً أفضل من أن يكون حمض بن برادلي النووي مزروعاً في مؤسسته؟».

شاهد الكثيرون في مكاتب التحرير ذلك الفيديو وشعروا بالحماسة تجاهه. شعر الصحفيون في «واشنطن بوست» بشيء من الطمأنينة بعد أن شاهدوا كيف انحنى بيزوس أمام برادلي. يقول كوري هايك، المسؤول عن تحرير الأنباء الرقمية في صحيفة «واشنطن بوست»: «لقد عدنا إلى المنافسة ونملك الآن الموارد اللازمة للقيام بمشاريع كبرى مجدداً».

منذ أكثر من سنة بقليل، كانت «واشنطن بوست» لا تزال صحيفة «قائمة رغم المصاعب». بدأ انتشارها يتراجع تزامناً مع انخفاض المبيعات، وقد تم تسريح أكثر من 400 موظف منذ عام 2003، ولم يكن واضحاً في تلك الفترة ما إذا كانت الصحيفة ستنجو من الانهيار. أصر فريق التحرير على أن «واشنطن بوست» تبقى صحيفة جيدة وأنها ما زالت تفوز بجوائز بوليتزر: باختصار، كانت لا تزال صحيفة «واشنطن بوست» الشهيرة. لكن بدأ هذا الموقف الذي يدّعي الصمود رغم المصاعب ينحسر بدوره.

منذ أغسطس 2013، بدأت حقبة جديدة بالنسبة إلى صحيفة عمرها 137 سنة: ما قبل بيزوس وما بعد بيزوس. ضخ الرئيس التنفيذي لشركة «أمازون» طاقة جديدة في فريق التحرير. بدل توفير الأموال النقدية التي تسمح للموظفين بإطالة وضع المراوحة، قاد بيزوس صحيفة «واشنطن بوست» إلى مرحلة من التغير الثقافي، مشدداً على أنّ الصحيفة ستعيد ابتكار نفسها وتهرب من ضوابط المنشورات المطبوعة.

يريد بيزوس أن يتعلّم المحررون والصحفيون في الصحيفة كيفية توسيع آفاق تفكيرهم. كيف يجب أن تبدو الصحيفة الرقمية بعد 10 أو 20 سنة للحفاظ على اهتمام ملايين القراء؟ منحهم الوقت، وكثير من الأموال، للتوصل إلى الجواب.

ليس مفاجئاً أن تنتشر نفحة من أجواء «أمازون» في مواقع «واشنطن بوست» في هذه الأيام. تُقابَل أي تجربة تَعِد بجذب ملايين القراء الجدد بالتشجيع والتمويل. وفق منطق تفكير بيزوس، حين تخترق «واشنطن بوست» حياة ملايين الأميركيين، ستصبح الأرباح ملموسة تلقائياً. طبّق هو منطق التفكير عينه لتحويل «أمازون» إلى أكبر متجر على الإنترنت في العالم، فأحدث بذلك ثورة في عالم الاستهلاك ونجح من خلال جهاز «كيندل» للقراءة بتغيير طريقتنا في قراءة الكتب.

ما من حبة سحرية!

لكن ما الذي ينويه بيزوس في صحيفة «واشنطن بوست»؟ هل يحاول أن يقلب عالم ناشري الصحف القديم رأساً على عقب وأن يقدّم جواباً على السؤال الذي يطرحه الجميع: كيف يمكن أن يصمد قطاع الصحافة في وجه اجتياح شبكة الإنترنت؟ أو هل تكون صحيفة «واشنطن بوست» في النهاية مجرد هواية مثيرة للاهتمام بالنسبة إلى شخص لا يعرف كيف يبذّر أمواله؟

لا تزال دوافع بيزوس غامضة بالنسبة إلى العاملين في «واشنطن بوست». يقول المحرر التنفيذي مارتي بارون: «من السخافة أن نظن أن جيف بيزوس حضر إلى هنا وهو يحمل حبة سحرية لحل جميع مشاكل القطاع الإعلامي خلال سنة: إنها فكرة سخيفة. لو كان يعرف الحل الفاعل أصلاً، ما كنا لنحتاج إلى أي تجارب».

كان بارون، بشعره الأشيب والأشعث وعينيه المستديرتين والصغيرتين، يلفّ كمَّي قميصه البنفسجي. يطل الجدار الزجاجي لمكتبه الواقع في الطابق الخامس على غرفة الأخبار العملاقة حيث يعمل مئات الصحفيين. إنه المكتب نفسه الذي استعمله برادلي وأسلافه. كل من شاهد فيلم «كل رجال الرئيس» (All the President›s Men)، الذي صدر في عام 1976 وكان من بطولة روبرت ريدفورد، يعرف طبيعة الجو السائد داخل مكاتب «واشنطن بوست».

حين وصل بارون إلى صحيفة «واشنطن بوست» في بداية عام 2013، كان المزاج السائد في مكاتب التحرير قاتماً. هو يقول: «تساءل الجميع: كيف يمكن أن ننفذ مهامنا الصحفية في ظل تراجع عدد الموظفين وتقليص الميزانية؟».

عملاء أم قرّاء؟

بعد فترة قصيرة على بيع الصحيفة لبيزوس، سافر بارون وبعض المقربين منه إلى سياتل وهم يحملون لائحة من الأمنيات. عُقد الاجتماع في منزل بيزوس. لكن بدل كتابة شيك بكل بساطة، طرح الرئيس التنفيذي لشركة «أمازون» بعض الأسئلة. فقد أراد أن يشرح له بارون الهدف من مشاريع متنوعة. يوضح بارون: «كانت النقاشات التي دارت معه تتمحور بشكل أساسي حول السؤال التالي: كيف يمكن أن نجذب أعداداً كبيرة من العملاء؟». غالباً ما يستعمل بارون كلمة «عملاء» بدل «قرّاء» في هذه الأيام، لكن لم يتضح بعد ما إذا كان الأمر مقصوداً أو أنه مجرّد نتيجة لمحادثاته الهاتفية مع بيزوس مرتين في الأسبوع. قبل الرحلة إلى سياتل، احتسب فريق صحيفة «واشنطن بوست» بعض التكاليف التقريبية لمختلف الاقتراحات وحجم العائدات التي يمكن أن يوفرها كل برنامج. يقول بارون: «طرحنا بعض الأرقام لأننا أردنا أن نقدم شيئاً ملموساً، لكننا أخبرنا بيزوس منذ البداية بأن تلك التوقعات ترتكز بكل بساطة على تكهناتنا الخاصة». لكن لم يكن بيزوس مهتماً بذلك على ما يبدو.

كانت أولى الأفكار تتعلق بتنفيذ برنامج «مورنينغ ميكس» على الموقع الإلكتروني، وهو عبارة عن مجموعة من أهم القصص المأخوذة من شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الإلكترونية، مثل «بازفيد» و«هافينغتون بوست»، فيقوم فريق من صحيفة «واشنطن بوست» بتحريرها وإعادة صياغتها يومياً. قد تبدو الفكرة بسيطة، لكنّ هذه النزعة الجديدة تعكس التخلي عن عقيدة قائمة منذ فترة طويلة: الموقع الإلكتروني يشكّل مساحة مستقلة للصحفيين في «واشنطن بوست»، وكل خبر لم يحضّره فريق العمل بنفسه لا يدخل إلى الموقع. لكن منذ شهر مايو، يستطيع أي شخص (من مواطنين عاديين إلى سياسيين وأكاديميين) نشر مقالات تعبّر عن رأيه في قسم اسمه «انشر كل شيء» (PostEverything). يقول فريدريك كانكل، محرر مخضرم يعمل في «واشنطن بوست» منذ 14 سنة: «كانت الفكرتان مثيرتين للجدل. لكننا فهمنا ضرورة أن ننفتح على الغير لكسب عدد إضافي من القرّاء على الإنترنت».

طموحات غير محدودة

حتى أنّ روح التفاؤل التي انتشرت في عهد بيزوس نجحت في إقناع المشككين. بعد سنوات من حفلات وداع الموظفين التي كانت شبه أسبوعية في غرفة الأخبار، بدأت الصحيفة الآن توظف أعداداً أكبر من الصحفيين مجدداً. وصل حوالى 100 موظف جديد في السنة الماضية، وكان معظمهم من المدوّنين المخضرمين والصحفيين الذين يجيدون استعمال الوسائط المتعددة، فضلاً عن صحفيين تقليديين مثل إيمي إيليس نات الفائزة بجائزة بوليتزر. توسعت المدونات السياسية المشهورة على الموقع الإلكتروني، مثل Wonkblog وThe Fix. «التفاؤل ظاهرة مُعْدِية» بحسب قول كانكل.

بعد أن كان قسم التحرير معتاداً على التفكير بشكل محدود، بات يشعر الآن بأن حدوده السماء. بدأ عدد مستخدمي الموقع الإلكتروني يرتفع، وقد بلغ 42 مليون مستخدم في شهر سبتمبر، ما يعكس زيادة بنسبة 47% خلال السنة الماضية. يتحدث الجميع في غرفة الأخبار عن أرقام محتملة قد تصل إلى 100 مليون أو أكثر. إنها أرقام خيالية ولا أساس لها من الصحة على أرض الواقع، لكنها تعكس الحماسة الجديد بين الصحفيين العاملين في «واشنطن بوست». يضيف كانكل: «يبدو أن بيزوس حرر طموحاتنا، إذ يسود شعور إيجابي عام وكأنّ شيئاً لا يستطيع أن يعيق مسار «واشنطن بوست» الآن».

يمكن تفسير معنى هذه الأجواء من خلال مراجعة الوضع الذي كان قائماً في عام 2003. أطلقت «واشنطن بوست»، أكبر صحيفة في العاصمة الأميركية، أول موقع إلكتروني لها في 19 يونيو 1996. شعر ستيف كول، رئيس قسم الأخبار حينها، بأن شبكة الإنترنت ستمنح صحيفة «واشنطن بوست» الفرصة لتخفيف تركيزها على واشنطن. من خلال تطبيق «استراتيجية قوية على الإنترنت»، يمكن أن تصبح «واشنطن بوست» الصحيفة الأولى في البلاد وأن تتحول إلى إصدار وطني وحتى عالمي. في 20 مايو 2004، قام كول، بدعمٍ من 40 مديراً ورئيس قسم في صحيفة «واشنطن بوست»، بطرح فكرته أمام الناشر دون غراهام. حمل المشروع اسم «ما وراء واشنطن».

كادت تخسر كل شيء!

انتهى الاجتماع الذي عُقد في فندق فخم يطلّ على خليج تشيسابيك بطريقة صادمة بالنسبة إلى «واشنطن بوست»، ويمكن الشعور بوقع تلك الصدمة حتى اليوم. رفض غراهام الفكرة التي كانت ستكلّفه على الأرجح 15 مليون دولار. لم يعارض غراهام (كان عمره 58 عاماً حينها) فكرة التوسع على الإنترنت بل إنه استثمر أموالاً كثيرة في الموقع الإلكتروني. لكنه أراد أن تحافظ «واشنطن بوست» على مكانتها الرائدة في العاصمة، فقد كان ذلك النهج الاحتكاري أساسياً لجني الأموال على مر العقود بالنسبة إلى سلالة غراهام الرائدة في عالم النشر. لقد أراد أن تكتب صحيفة «واشنطن بوست» عن واشنطن، حتى في الموقع الإلكتروني، من دون أن تذكر شيئاً عن بقية بلدان العالم.

أصيب قسم التحرير بحالة من الذهول. اقتبس الصحفي ديف كيندريد كلام زميل له، في كتابه «معجزة الصباح» (Morning Miracle) الذي يتناول نضال «واشنطن بوست» للصمود، حين قال: «دون نسف آمال القسم كله». كانت الإنترنت وسيلة توفر إمكانات عدة، لذا شعر المحررون في «واشنطن بوست» منذ ذلك الحين بأنهم محاصرون.

بعد ذلك، أصبح الشعار الرسمي الذي يستعمله الناشر (أي أنّ «واشنطن بوست» هي صحيفة «من أجل واشنطن وعنها») الغطاء المثالي لإطلاق برنامج جديد وقليل الكلفة. أُغلقت المكاتب الوطنية وتم استدعاء المراسلين من مراكزهم. مهّد النصر الذي تحقق بعد الكشف عن فضيحة «ووترغيت» لما سمّته صحيفة «نيو ريبابليك» «نهاية واشنطن بوست». يقول كانكل: «كان الشعور العام يعكس استسلامنا التام».

في مرحلة معينة من تلك الفترة، أُزيلت صور أسطورية لأبطال «واشنطن بوست» بعد أن بقيت معلّقة طوال 30 سنة في الردهة الواقعة في الشارع رقم 15، وهي صور لبوب وودوارد وكارل بيرنشتاين اللذين كشفا فضيحة «ووترغيت»، وبن برادلي والناشرة كاثرين غراهام. تكمن المفارقة في واقع أن تلك الصور استُبدلت بتلفاز مسطح.

فرصة ثانية

يفسّر هذا الوضع ما جعل نزعة التحرر التي نشرها بيزوس في صحيفة «واشنطن بوست» نقدية ونفسية في آن. يقول المحرر التنفيذي بارون: «يمنحنا الموقع الإلكتروني فرصة ثانية كي تكون الصحيفة وطنية ودولية أو أكثر من ذلك: إنها الوجهة المفضلة للقراء الأميركيين». هذه المرة، يمنحهم بيزوس الرائد في عالم الإنترنت إمكانية الاستفادة من تلك الفرصة.

خلال الأشهر القليلة الماضية، كانت صحيفة «واشنطن بوست» تدير «برنامجها الشريك»، وهي محاولة طموحة لكسب ملايين القراء الجدد خارج واشنطن دفعةً واحدة. وفق هذا البرنامج، يستطيع المشتركون في مئات الصحف المحلية الأميركية، بدءاً من «هونولولو ستار أدفرتايزر» وصولاً إلى «دالاس مورنينغ نيوز»، أن يدخلوا إلى موقع «واشنطن بوست» ويستعملوا جميع تطبيقاته مجاناً.

لكن ألا تُضعِف هذه الخطوات مقاربة حصر الاستعمال بالمشتركين في موقع الصحيفة على الإنترنت؟ لا مشكلة في ذلك. العامل الأهم اليوم هو الحجم ثم الحجم ولا شيء إلا الحجم. حتى الصحف الشريكة لا تدفع شيئاً لصحيفة «واشنطن بوست» مقابل البرنامج. ومن المتوقع أن يحذو شركاء آخرون حذوها. على سبيل المثال، قد يتلقى ملايين المشتركين في خدمة «نتفليكس» الإلكترونية للفيديوهات وشبكة «لينكدين» الخاصة بالمهن اشتراكاً رقمياً مجانياً في صحيفة «واشنطن بوست». يقول المدير العام ستيف هيلز: «نريد أن نوسع نطاق عملنا وأن نسمح لأكبر عدد ممكن من الناس بدخول موقع «واشنطن بوست»، كي يتمكن عدد إضافي منهم من عقد التزام معنا».

مختبر صحافي

يريد بيزوس أن تصبح صحيفة «بوست» بقيادته مختبراً لعالم الصحافة في وادي السيليكون. نقل براكاش 19 خبيراً ومصمّماً في مجال تكنولوجيا المعلومات من مكاتبهم الفردية إلى غرفة الأخبار كي يتمكنوا من تطوير أفكار جديدة مع الصحفيين والمحررين، بدءاً من الرسوم البيانية التفاعلية وصولاً إلى التحليلات السريعة للبيانات. الهدف هو توظيف حتى مئة مصمّم، وينوي براكاش توفير 25 فرصة عمل جديدة لإتمام هذه المهمة. هو يتلقى اليوم أعداداً كبيرة من طلبات العمل: «يريد الكثيرون أن يكونوا جزءاً من هذه المسيرة لأنهم مقتنعون بأننا سنشهد انقلاباً جذرياً بعد وصول جيف».

منذ بضعة أشهر، أطلق براكاش مؤسسة بحثية في نيويورك وهي تطور مخططات خاصة بصحيفة رقمية ستنشأ خلال خمس أو ست سنوات. ستضاف مختبرات أخرى على الأرجح في سياتل وأوستن ومراكز تكنولوجية أخرى. يوضح براكاش: «إذا أردنا أن نصبح معقلاً تكنولوجياً يستطيع منافسة وادي السيليكون، فلا يمكن أن نجبر الجميع على الحضور إلى العاصمة واشنطن».

يريد براكاش والمهندسون العاملون معه أن يوفروا للصحفيين «البيانات اللازمة حول أداء قصصهم». رغم تراجع الضغوط لجني الأموال مقابل كل فكرة جديدة منذ وصول بيزوس، أصبحت الأرقام أقوى من أي وقت مضى. بات كل مشروع ممكن يخضع الآن للقياس والدراسة. ما هي المقالات التي تحظى بأعلى نسبة قراءة على الموقع الإلكتروني أو أعلى عدد من الإعجابات على فيسبوك؟ وما هي المواضيع التي يبحث عنها الناس على محرك غوغل في الوقت الراهن؟ وما هي المقالات التي يجب توسيعها أو تقليصها على الموقع، استناداً إلى بيانات البحث هذه؟ ركّز فريق متفانٍ من المحررين جهوده لرصد ما يحصل على شبكات التواصل الاجتماعي. سيتمكن الصحفيون قريباً من استعمال برنامج يبلغهم تلقائياً، خلال عملية الصياغة، بعدد الأشخاص الذين يتناقشون في هذه اللحظة مع شخصية سياسية على «انستقرام» أو «تمبلر»، ما يوفر لهم نصائح لجذب انتباه عدد إضافي من الناس بمقالاتهم على الإنترنت.

خلال الاختبارات العمياء، يطّلع القراء الآن على مقالات الصحف المنافِسة لتحديد القصص الرائجة بين الأشخاص الذين يقرأون صحيفة «نيويورك تايمز» أكثر من صحيفة «واشنطن بوست» مثلاً، أو العكس، فضلاً عن تحديد المقالات التي تجذب القراء الشباب على مواقع مثل «بازفيد» و»هافينغتون بوست».

يقول بارون: «في الماضي، كنا نقوم بمقارناتنا الخاصة كصحفيين، لكننا لم نحلل يوماً ما إذا كان المستهلكون يوافقوننا الرأي. يحرص بيزوس على ألا نقوم بأمور معينة لمجرد أننا نهتم بها. بل يجب أن نتساءل: ما الذي يهمّ الأشخاص الآخرين وما الذي يهمّ العالم؟».

«مسؤولية مالية»

لكن كيف ومتى ستعطي محاولة التوسع الجنونية هذه ثمارها؟ هذا السؤال وحده يتعارض على ما يبدو مع المزاج الجديد في صحيفة «واشنطن بوست». لقد استُبدلت كلمة «ربح» أصلاً بعبارة «مسؤولية مالية»، وهي تعني في الأساس أن «واشنطن بوست»، حتى في عهد بيزوس، لا تستطيع هدر الأموال بكل بساطة. يقول هيلز إن الرهان كبير، وهو يظن أن الناس سيبدون استعدادهم لدفع المال مقابل خدمات «واشنطن بوست» في النهاية حين يدركون قيمتها الحقيقية.

يقول شاليش براكاش، رئيس قسم تكنولوجيا المعلومات في «واشنطن بوست» منذ أكثر من ثلاث سنوات: «يريد منا جيف أن ننتج مواداً يحبّها العملاء، وهي المواد التي لا تجعلنا ننتظر أن نجني دولارين مقابل كل دولار نصرفه». هذا الرجل الهندي في الأصل له وجه دائري وابتسامته دافئة. بفضل مكيّف الهواء، تبقى الحرارة في مكتبه المُضاء بأنوار ساطعة بمستوى 15 درجة مئوية، ولا نجد ورقة واحدة على مكتبه.

في أواخر التسعينات، عمل براكاش في شركة «صن مايكروسيستمز» التي كانت من أشهر الأماكن في وادي السيليكون في تلك الفترة، وانتقل إلى «مايكروسوفت» في المرحلة اللاحقة. ثم جلبه دون غراهام إلى «واشنطن بوست». يوضح براكاش: «كان دون يبحث عن شخص يجيد استعمال التكنولوجيا لتحريك القطاع أو إعاقة مساره». تحت ضغط تراجع الأرباح، أدرك غراهام أن «واشنطن بوست» تحتاج إلى تغيير ثقافتها الرقمية، لكن كان الأوان قد فات لأن الأموال لم تعد متوافرة. يضيف براكاش: «في ظل بيئة تتطلب تقليص الكلفة، لا يمكن أخذ مجازفات كثيرة».

حين حضر بيزوس إلى صحيفة «واشنطن بوست»، يقول براكاش الذي كان مهندساً متدرباً إن الوضع كان أشبه بحضور نصف إله. لا يتدخل الرئيس التنفيذي لشركة «أمازون» بالأمور الصحفية، وهو لا يهتم بطريقة إدارة الأعمال أيضاً. لكنه يشعر بالحماس بشأن كل مشروع تقني. خلال مؤتمرات الفيديو التي ينظمها مرتين في الأسبوع مع كبار المسؤولين في «واشنطن بوست»، يريد هذا الرجل الذي يتولى بشكل أساسي إدارة «أمازون» (شركة بقيمة 75 مليار دولار) مناقشة «ما يجعل موقعنا أبطأ من غوغل أو ما يمنع بعض تطبيقاتنا من أن تكون جميلة بقدر معظم تطبيقات الألعاب» كما يقول براكاش. في الأشهر الأخيرة، استثمر بيزوس جزءاً كبيراً من طاقته لابتكار تطبيق «واشنطن بوست» الجديد. يقول براكاش: «هو المسؤول الأكثر نشاطاً عن اختبار البرامج». لا عجب في ذلك بما أن التطبيق سيندرج تلقائياً في ملايين الحواسيب اللوحية التي تنتجها «أمازون» من فئة «كيندل» مستقبلاً. من المتوقع أن توفر شركة «أمازون» العملاقة ملايين القراء الجدد لصحيفة «واشنطن بوست»، لعبة بيزوس الشخصية، بالإضافة إلى منتج حصري لمستخدمي «كيندل». سيحصل العملاء الذين يستخدمون جهاز «كيندل» على ستة أشهر من النسخة الرقمية لصحيفة «واشنطن بوست» مجاناً، وستكلّفهم الأشهر الستة المتبقية دولاراً واحداً فقط. من المتوقع أن تُطرَح النسخ الخاصة بأجهزة «آي باد» و»أندرويد»، بكلفة 4 دولارات تقريباً في الشهر، خلال هذه السنة.

نسخة مختلفة عن «بازفيد»

بارون هو صحافي مخضرم وليس من النوع الذي يمكن اتهامه بالتشويش على قطاع الصحافة من خلال السعي إلى حصد أكبر عدد من النقرات والإعجابات. لكن إلى أي حد يمكن أن تسعى صحيفة مثل «واشنطن بوست» إلى جذب القراء من دون أن تخون قيمها؟ هل تجازف الصحيفة التي تحدد أهميتها بحسب المصلحة العامة بدل التركيز على ما يريده الجمهور بالتضحية بمبادئها الرامية إلى توسيع انتشارها ونموها؟

يقول محرر سابق إن الموظفين في «واشنطن بوست» يشعرون بحماس شديد الآن بشأن النمو الذي تجازف الصحيفة بنسيانه لتحديد عدد قرّائها. ما الذي يجب أن يميز «واشنطن بوست» عن غيرها من الصحف الرائدة عالمياً، مثل «نيويورك تايمز» و»ذي غارديان»؟ أو هل تنوي «واشنطن بوست» تقديم كل شيء للجميع مستقبلاً، كما تفعل شركة «أمازون» تماماً؟

يشير بارون إلى إحدى الفضائح الكبرى التي كشفتها «واشنطن بوست» مؤخراً قائلاً: «نحن لن نتحول إلى نسخة من موقع «بازفيد»، لكن يمكن أن ننظر إليه ونقول إنه يتبع مقاربة ذكية، ثم نطبّقها في مهمّتنا. لا داعي لنقوم بأمور سخيفة». كشفت الصحيفة حديثاً عن خروقات أمنية في البيت الأبيض فساهمت بذلك في طرد خبير الشؤون الأمنية للرئيس باراك أوباما. إنها قصة تقليدية بالنسبة إلى صحيفة «واشنطن بوست»: فهي قصة من واشنطن لكنها تستهدف مختلف قرّاء العالم: «نحن نتابع طرح قصص مهمة ومواضيع جدية جداً، لكن يجب أن نقوم بذلك بطريقة تناسب شبكة الإنترنت».

رغم البهجة العارمة في مكاتب «واشنطن بوست»، «يسود قلق شديد بشأن طريقة التعامل معنا نحن المراسلين والموظفين في هذه النسخة الجديدة من «واشنطن بوست»» بحسب قول المحرر فريدريك كانكل. هو ممثل نقابة الصحفيين وسبق وعلم أن الرئيس التنفيذي لشركة «أمازون» ليس من محبّي النقابات. في شهر سبتمبر، حين خفّضت «واشنطن بوست» معاشات التقاعد، احتج 40 محرراً خارج المبنى ضد خطط الرئيس الجديد. لم تكن تلك الخطوة ضرورية جداً من الناحية الاقتصادية لأن غراهام ترك لبيزوس مبلغاً سخياً بقيمة 300 مليون دولار لمعاشات التقاعد. بل كانت تلك الخطوة على الأرجح مجرّد إشارة على موقف بيزوس وكأنه أراد أن يقول: هذا هو عالمي الآن!

* إيزابيل هيلسن

back to top