مذكرات طفلة

نشر في 28-02-2015 | 00:01
آخر تحديث 28-02-2015 | 00:01
No Image Caption
اللذة هو الشعور الذي عرفته سعاد حين كانت تجري فوق الأرض الدافئة المشبعة بالشمس، والهواء النقي المنعش يدخل صدرها، وحرمة جسمها لا يعوقه شيء. ذراعاها وساقاها وظهرها وعنقها ورأسها، كل شيء فيها يتحرك، والحركة تصل إلى خلية في جسدها وعقلها في وقت واحد، فإذا بكيانها كله يتحرك كأنه خلية واحدة مترابطة الأجزاء في انسجام كامل مع بعضها البعض ومع الكون الكبير الذي يحيطها.

أدركت سعاد منذ زمن بعيد لا تعرف مداه أنّ هذه الحركة تبعث في جسدها وعقلها لذّةً غريبة لها طعم اللبن الدافئ الذي ينساب في فمها حين تلامس أمها، ولها دفء الدم الذي ينساب في جسدها حين تلامس يدها، ولها ملمس الكرة الناعم حين تمسكها بيديها.

ما إن تمسك بيديها حتى تقذفها مرةً أخرى لتجري وراءها وتمسكها. وحين تمسكها تعود فتقذفها وتجري وراءها وهي تصرخ من اللذة، لذة تحريك ذراعيها وساقيها وظهرها وعنقها ورأسها، تلك الحركة التي تهزّ جسدها وعقلها والكون من حولها بلذةٍ عجيبة تجعلها تضحك بصوتٍ عال وكأنها تصرخ.

تظن أمها أنها تصرخ لأنها تريد الكرة، فتلتقطها من الأرض وتضعها بين يديها، لكنها تغضب من أمها وتبكي وتركل الكرة بقدمها بعيداً. فالكرة ليست هدفها، وإنما هدفها هو أن تتحرك إليها، أن تحرّك ذراعيها وساقيها وظهرها وعنقها ورأسها، أن تصل الحركة إلى كل خلية في جسدها وعقلها في وقت واحد وتهز كيانها وكأنه خلية واحدة بتلك اللذة العجيبة.

لم تكن أمها تفهم لماذا تبكي حين تعطيها الكرة في يديها. كانت تظن دائماً أنها تريد الكرة، ولم تكن تعرف أنها تريد أن تتحرك، وأنها حين تعطيها الكرة تجهض حركتها، أو تسلبها الشيء الذي تبرّر به الحركة وتفسد لذّتها. وكان يمكن لأمها أن تفهمها لو أنها رأت أنها تقذف الكرة بمجرد أن تمسكها، أو لو أنها تذكّرت طفولتها وهي في مثل عمرها وتلك اللذّة المحرّمة التي نسيتها أو خُيّل إليها أنها نسيتها، فهي لا تزال في مكان ما من رأسها، حين تنام تحلم أحياناً أنها تطير في الجو، وتحرك ذراعيها وساقيها وظهرها وعنقها ورأسها بتلك اللذة العنيفة، وجسدها ينساب في الكوب كعصفور حرٍّ طليق، لا تعرف إلى أين تطير لكنها تطير، فالحركة هي هدفها وهي لذتها. الكون من حولها فسيح ممتد لا شيء يعوقها عن الطيران، تقفز فوق أطراف الأشجار وأسطح البيوت، لا الليل يخيفها ولا الشمس تحرقها، وتظن أنها ستبقى سابحةً في الكون إلى الأبد، لكنها سرعان ما تحسّ جسدها يثقل ويثقل حتى يلامس الأرض، وتحاول الطيران مرةً أخرى فلا تستطيع. جسدها ملتصق بالأرض عاجز عن الحركة، وترى الشبح الطويل قادماً نحوها، عيناه حمراوان كالنار، تحاول أن تحرك ذراعيها وساقيها لتجري أو تطير لكن جسدها لا يتحرك، وتحاول أن تصرخ لكن صوتها لا يخرج. وفي اللحظة التي يهمّ فيها الشبح بابتلاعها تنتفض لتنقذ نفسها فإذا بها تصحو من النوم مبللةً بالعرق شبه مجهدة.

لم تكن تعرف بعد هذا النوع المخيف من الأحلام، ولا أي نوع آخر من الأحلام. تنام الليل كله بعمق وبغير حلم ثم تصحو بوجهٍ مشرق، تبتسم لوجه أمها بمثل ما تبتسم للشمس، بمثل ما تبتسم للقمر. لا تفرّق بين النهار والليل، ولا تعرف شيئاً اسمه الظلام أو الخوف. تلعب الكرة لتجري وتحرّك ساقيها وذراعيها، أو ترصّ المكعبات الملونة الصغيرة بعضها فوق بعض وتبني بيتاً يعلو شيئاً فشيئاً إلى أن تصل إلى قمّته فتهزّه بيدها لتتأكد من صلابته فإذا بجدران البيت تنهار وتتساقط وتعود مكعبات صغيرة، فتبدأ برصّها من جديد لتبني البيت مرةً أخرى. أمها تراها وهي تبني ثم تهدّ وتبني ثم تهدّ، وحين تأخذ منها المكعبات لتنام تبكي، فهي لا تريد أن تنام الآن، عقلها ما زال نشطاً مستغرقاً في البناء والهدم، مستسلماً لتلك اللذة المتكررة المتعاقبة. في كل مرة تظنّ أن جدران البيت أصبحت أكثر صلابةً، وحين تهزّها بيدها تسقط، فتحاول مرةً أخرى بأمل أن تبني بيتاً لا يسقط مهمّا هزته بيدها: بيت حقيقي كالبيت الذي تسكنه، وجدران حقيقية كالتي تهزها بيدها فلا تسقط أبداً.

تقبض بأصابعها على أحد المكعبات بكل قوتها، وتحاول أمها أن تفتح يديها لتأخذ منها المكعب لكنها تضغط عليها بأصابعها، وحين تنجح أمها في فتح أصابعها وتأخذ المكعب تبكي، وتضعها في السرير وهي تبكي، ثم تنام وتحلم أن أمها لم تستطع أن تفتح أصابعها وأن المكعب لا يزال في يدها.

أول ما تفتح عينيها في الصباح تنظر في يدها فلا تجد شيئاً فتقفز من السرير باحثةً عن صندوق المكعبات، لكن صوت الجرس يصلصل في الشارع خارج الشرفة فتجري نحو الصوت لتعرف من أين يأتي. الشرفة سورها عالٍ، أعلى من رأسها، والسور له أعمدة حديدية، تدسّ رأسها بين العمودين لتطلّ خارج السور لكن أمها تشدّها من الخلف وهي تصرخ: {رأسك أثقل من جسمك وقد تسقطين في الشارع!}. لكنها تريد أن ترى من أين يأتي ذلك الجرس الذي يصلصل، وهي لا تخاف السقوط في الشارع، ورأسها ليس أثقل من جسمها لأنها تدرك أن جسمها هو الذي يحمل رأسها، وليس رأسها هو الذي يحمل جسمها. وما إن تختفي أمها داخل المطبخ حتى تجري إلى الشرفة وتُدخل رأسها بين العمودين، أو تشبّ على أطراف أصابعها فتعلو رأسها على حافة السور وتستطيع أن ترى الشارع.

الشارع يبدو تحت عينيها واسعاً بغير بداية ولا نهاية، والناس السائرون كثيرون بعدد النجوم، وأعمدة النور طويلة ولا أول لها ولا آخر، والسيارات تجري بأقصى سرعة، والترام بعرباته كعربات القطار يسير فوق القضبان ويصلصل بذلك الجرس الذي يهزّ أذنيها وجسدها بنشوةٍ عجيبة، وأصوات الشارع كلها تبعث في نفسها نشوة: أبواق السيارات بنغماتها المتعددة، أصوات الباعة وهم ينادون، دبيب أحذية الناس فوق الأسفلت، عجلات الترام وهي تصطكّ بالقضبان، ضحكات الأطفال وصراخهم وهم يجرون ويلعبون.

تدسّ رأسها بين العمودين وتودّ لو قفزت في الشارع ولعبت معهم، لكن يد أمها تشدّها من الخلف وهي تصرخ: {ستسقطين في الشارع وتموتين!}. لكن فكرة الموت لم تكن قد دخلت عقلها بعد، وعقلها لا يزال منطلقاً بلا قيود وبلا خوف، تريد أن تتحرك وتعرف كل شيء، وجسدها أيضاً يريد أن يكسر قيود البيت الضيق ويقفز من فوق الشرفة ليتحرك ويجري ويلعب في الشارع الواسع اللانهائي.

أحياناً كان يأخذها أبوها معه إلى الشارع، فتقفز من اللذة وهي تسير إلى جواره، تحرك ذراعيها وساقيها وتكاد تجري، لكن اليد الكبيرة تقبض على يدها، تحاول أن تشدّ يدها من يد أبيها لكنها لا تستطيع، الأصابع طويلة وقوية، تلتف حولها كالقبضة الحديدية، تكاد تخنقها، وتحاول أن تخلّص نفسها دون جدوى، لكن ما إن ترتخي الأصابع قليلاً حتى تشدّ يدها وتجري منطلقةً في الشارع، فيجري أبوها وراءها ويمسكها مرةً أخرى وهو يصرخ: ألا تخافين من هذه السيارة التي قد تدوسك؟!

لكنها كانت لا تزال لا تخاف شيئاً: لا تخاف الشارع، ولا تخاف السيارات، ولا تخاف الناس. عقلها يتوثّب بلا قيود ليعرف ويستكشف، وجسدها يتحرك بحرية، ذراعاها وساقاها وهي تمشي كأنها تطير كعصفورٍ طليق في الجو، حركتها كحركة الهواء تنسجم مع الكون، فاذا بها والكون شيء واحد، والحركة تصل إلى عقلها وجسدها في وقت واحد، تهزّ عقلها بلذّة التقتّح للحياة، وتهزّ جسدها بلذة الطيران مع حركة الكون.

لكن يد أبيها سرعان ما تمسكها، ويدها الصغيرة تقع في قبضة تلك الأصابع الحديدية، القادرة على تجميد حركة جسدها وعقلها، تقاومها لحظة، وتستسلم لها لحظة، واستسلامها لها ليس كاملاً لأنها ما إن تشعر بها تتراخى وتلين حتى تندفع من بينها كالصاروخ الصغير.

حين يشتري لها أبوها قطاراً أو سيارة تجلس على الأرض وتحرّكها، تدهشها الحركة ولا تعرف من أين تأتي، من بطن السيارة أم من مقدمتها أم من مؤخرتها.

تبحث بأصابعها عن سرّها، وتعثر يدها على المسامير فتفكّكها واحداً وراء الآخر، وفي كل لحظة تتصور أنها ستصل إلى السر، لكن المسامير تنتهي والسيارة تتحول إلى قطع صغيرة من الصفيح ليس داخلها شيء. وتفعل بالقطار ما فعلته بالسيارة، ثم تبحث عن لعب أختها الصغيرة وأخيها الأصغر، ولم يكن لأختها إلا عروسة كبيرة ترتدي ملابسَ على شكل كرانيش، طبقة فوق طبقة فوق طبقة، تخلعها واحدةً وراء الأخرى وراء الأخرى حتى تصل إلى جسد العروسة العاري، فتخلع عنها ذراعيها وساقيها ورأسها وعنقها، وتدسّ أصبعها في فتحة العنق لتعرف ما بداخلها، فلا تجد إلاّ الهواء.

تبكي أختها حين ترى أشلاء عروستها الممزقة، فتربّت عليها فتكفّ أختها عن البكاء وتلعب معها، وينضمّ إليهما أخوها الأصغر. وكانت ترى أن الطائرة في السماء لها أجنحة مثل الطيور لكن القطار يجرى فوق العجلات. تدفع القطار بيدها فيجري فوق القضبان وتضحك من شدّة اللذة.

إلا أن لذتها كانت تشتدّ أكثر حين تجد نفسها داخل قطار حقيقي، والقطار يتحرك وحده ويندفع فوق القضبان بتلك السرعة العجيبة، والصافرة، والدخان الكثيف ينطلق في الجو، والأعمدة الطويلة تتراجع إلى الوراء بسرعة جنونية، وعيناها مشدودتان إلى الحركة، تتابعها بالسرعة نفسها، تكاد تلهث مع القطار بتلك الحركة العنيفة التي تهزّ جسدها وعقلها بلذةٍ عجيبة.

back to top