إنعام الفقيه في «تركت بعلبك وما هلكت» كما في بعلبك... في قصيدتها أعمدة متوَّجة

نشر في 20-02-2015 | 00:01
آخر تحديث 20-02-2015 | 00:01
No Image Caption
يصرّ الكثيرون من شعراء الحداثة على غرابة التعبير، ويمضون إلى علاقة بين المفردة والأخرى جديدة غير أنّها ذات نوافذ كثيرة للتأويل. وقليلون هم الذين لا يخشون الوضوح النصّي معتبرين أنّه لا يسيء إلى إبداعيّة الكلام، بل يمدّها بما يكفي لاجتراح الرّعشة الجميلة التي تجود بها القصيدة على قارئها.

في جديدها «تركت بعلبك وما هلكت» تعلن الشاعرة اللبنانيّة إنعام الفقيه انتماءها إلى القصيدة العربيّة الحديثة.

تهدي الشاعرة اللبنانيّة إنعام الفقيه قطافها الأوّل «تركت بعلبك وما هلكت» إلى أبيها باعتباره الرجل الوحيد المستوطن حياتها، مبلغة إيّاه أنّها لم تعد تقيم في ظلال أعمدة بعلبك، إنّما اصطادت وجودها أماكن أخرى. وهي في مساحة ملتبسة ما بين النجاة والهلاك: {... إلى متى ستبقى الرّجل الوحيد في حياتي/ بعدَك/ تركتُ بعلبك وما نجوت بعدها/ وما هلكت}.

من بداية البوح في قصيدة {العاصي} تبحث الفقيه عن جملتها الخاصّة وتحترف لغة نقيّة تنساب انسياب {عاصيها}. والمطلوب من العاصي أن يسترجع ماءه من كلّ الأشياء التي صنع جمالها وطعمها: {لملم ماءك/ قطرة قطرة/ من النّبع إلى المصبّ/ واستردده من شراب الجلاّب وزهور قمر الدّين}... إنّه الطلب المعجزة. فكيف تعود المياه أجنّة في أرحام الينابيع؟! ولماذا تصرّ الفقيه على الاستحالة هذه؟! قد يكون إصرارها عائداً إلى اختناق ذاكرتها بماء العاصي، بماء قصصه التي تحتضن مشاهد الطفولة، وتجري في عروق زمن مفقود، فالشاعرة تتبنّى نهرها وتمدّ مجراه عميقاً وطويلاً في وجدانها إلى حدّ الالتباس بين فيضها وفيضه: {والله/ لا أعرف من أين أفيض/ ولا يعبرني إلاّ مجراك/ مريضة دفقك وشحّك نواعيري}... وحين تعلن ماهيّته تجده ماءً نسائيّاً ليصير المرأة الأسطوريّة السائلة، الجارية بكلّ ما فيها من حمرة ورغبة: {لم تكن ماء/ إنّما دم طمس النساء... أو يحكى أن دورتهنّ كانت أطول/ وكنّ طواحين/ حتّى أنّهنّ كنّ يولدن بالغات...}.

 وتبدو الفقيه مصرّة على التواري اللذيذ في طقوس الماء فتعود في قصيدة {النهر والعاريات} إلى ماءٍ تعرّيه من ذاته ليصير أكثر ولعاً بـ}تاء} التأنيث، فالمفردات يَعْرين أيضاً، ويرتدين عراءهنّ قاصداتٍ ماء القصيدة: {العاريات من المعنى/ مفردات/ ... ربيبات أمّهنّ الجرأة/ المنذورات للتعبير/ السابحات في النصّ إلى الشّعر}. وعاريات الفقيه لسن بتجسّد واحد فهنّ أحياناً كلمات وأحياناً نساء يتزوّجن الفقر الحلال، وتتكرّر أيّامهنّ المنسوجة على نَول المرارة لينتهين غارقات، أسيرات وضوح صورهنّ في الماء: {العاريات فقيرات/ يلقين بأيديهنّ طُعماً لسمك النهر/ ... أُصِبن بدوار وقضين غرقاً/ لمّا رأين إلى صورتهنّ أوضح في النهر}.

الراعي الآسر

وفي قصيدة {بعلبك} تخاطب الفقيه {رضا}، و{رِضاها} يرقى إلى عملقة تستطيع الأحلام حقيقة، لا سيّما إذا كان هو الراعي الآسر ريحاً في نايه، والقادر على إخراج مارد الحاجة والرغبة من قمقم الشوق: {خضّ صوت الريح في نايك يا أيّها الراعي/ يُضح مارد الحاجة والرغبة بين يديك}... وترى الشاعرة أنّ للنغمات الطالعة من قفير الموسيقى وأعشاش النّغم، أن تسلب الذئب شهوة الافتراس ليتحوّل كائناً ذا شكل ذئبيّ ومضمون حَمَليّ: {مَلَّك القطيع! غنِّ يا أيّها الراعي/ أو بغير الغناء تروّض شهوة الافتراس في غريزة الذئب}.

وتمضي الفقيه إلى مُدنها ذات الامتداد الجغرافيّ للروح، والمدن من بنات جنس النساء. فتمرّ ببغداد متفيّئة حزنها، قابضة بأصابعها الحارّة على ثمرة اليأس حيث يعلو شجر ميت فوق مقابر لا يُغلق لها باب: {لحزنك الساخن/ ألف موقد للبكاء الحارّ/ ... قبل سقوط ثمرة اليأس/ عن شجرة الأحاسيس الميتة/ على أرض مقابر}... وتقف بغداد على شرفة وجدان الفقيه أمّاً شرعيّة للموت، تربّي جثثاً، وتستبدل حليب الأطفال بالدم والنفط لتغدو الحياة خارج ذاتها وليمسي الزمان والمكان ثياباً حزينة لأموات يَنْمون تحت شمس طاعنة في السواد: {يا أمّ الموت/ تلقمينه حلمات الجثث/ كطفل يمضغ بينهم قارورة دماء ونفط/ وهو ميت ينمو}...

وتصل الفقيه إلى بيروت، واسطة عقد مدنها، فتراها المرأة على عهر، المرأة التي تضجّ بما فيها من اشتهاء وتمضي إليها كأنها على علاقة حرام: {يا بيروت المرأة/ ... ماذا أفعل؟/ هل تشتهي النساء النساء؟!}، وتعلن {بيروتها} قاتلة، تثأر من عشّاقها وترميهم عميقاً في قلبها البحر: {يا مدينة/ قلبها البحر/ فمن الطبيعي جدّاً/ أن تبتلع أحبّتها}...

وفي قصيدة {ذات حرب} تلبس الفقيه لبنان عباءة رجل حبيب وتخاطبه من أعماق لغتها العاشقة: {قم إلى عيني/ واحصد رموشها/ وانصبها بلد أمان}، وتلوذ به وهي ذات قلب مطّاطي له مَدّ الحبّ وجزر الكره إلاّ أنّه يعتمر الكره ويؤمن به وجهاً آخر للحبّ: {لي قلب مطّاط/ أحبّك ثمّ أكرهك/ فأعود عن كرهي لك/ وأحبّك/ ثمّ أحبّك يا ذا البلد/ ذات حرب/ بكت عيني حتّى قرنيّتها}...

أشرف الأعمال

ولا يغيب عن الفقيه الحسّ النضاليّ، فهي ترى النضال أشرف الأعمال وأكثرها إنتاجاً على المستوى الوجودي، وعليه، فإنّ نسبة البطالة قد ارتفعت عندما تقاعد المناضلون ليتحوّلوا عاطلين عن الأمل قبل أن يسمّوا عاطلين عن العمل: {عندما توقّفت الشعوب عن النضال/ غدت البطاقة مئة بالمئة}. وتقيم الشاعرة مقارنة متألّمة بين بلاد الجنوب وبلاد الشمال، فجنوباً للفقر ثراء، وللفرح انتماء حقيقي إلى الفرح، وشمالاً يستوطن الفقر الثراء وترتاح على كتفَي الفرح عباءة الحزن: {الفرق بين بلاد الجنوب/ وبلاد الشمال/ أن غناها غني،/ وأن غنانا فقير.../ أنّ فرحها فرح/ ... وأنّ فرحنا حزين}... غير أن بلاد حبيب الفقيه هي بلاد الشمال، حيث يتنافس الخيال والجمال على الإقامة في المكان: {من أقصى الجمال/ إلى أقصى الخيال}... وحيث تستأسد ريح فتُثقل أغصان الحياة ببراعم الجوع، وحيث حبال سوداء مخصَّصة لنشر الجثث: {... جاع من جاع/ وشّرِّد مَن شُرّد/ والذين ماتوا/ نشرت جثثهم على الحبال}...

وإلى الرّجل تفتح الفقيه شراعها فتحة كاملة، تقول: {نعم} حين تطرب لها روح عاشقة، وتقول: {لا}، حين تجد رجلاً لا يستطيع أن يمتلئ من ذاته فمن أين له أن يملأها... ففي قصيدة {يتفتّح الليلك في إثر لهو أصابعك}، بوح جريء على رمزيّة شفّافة، فالفقيه تعترف بخَدَر الحبّ وبوقوعها في تجربته تحت شمس المدينة: {ألممْتَ بي وتمكّنْتَ منّي/ هنا في المدينة/ وأنا أرفع رويداً رويداً حرارة الجسد/ لأغلي الحليب النيّء في ثديي/ وأنضج العنب}... ويبدو خيال الشاعرة لا يقلّ شجاعة عنها، إذ إنّ الصّور، التي يقطفها قلمها، فيها ما يكفي لينسج قفير الدهشة وليكسر قجّة المشاعر...

في {تركت بعلبك وما هلكت} نسمة خضراء جديدة تمرّ بشجرة الحداثة الشعريّة وتضيف إلى ظلال هذه الشجرة ظلاًّ ذا قدرة على العمر الطويل.

back to top