العراق في مرحلة ما بعد سقوط صدام (11-12) «حرب داعش»: من الأمر الواقع في الفلوجة إلى السقوط المدوي في الموصل

نشر في 18-02-2015
آخر تحديث 18-02-2015 | 00:06
يعد سقوط نظام صدام حسين في العراق محطة تاريخية مفصلية في المنطقة، ومن هذا المنطلق تنشر «الجريدة»، صفحات كتبها وفيق السامرائي رئيس جهاز الاستخبارات في عهد صدام، عن رؤيته للأحداث منذ سقوط بغداد، وصولاً إلى الحرب الأخيرة على «داعش»، لمنح القارئ فرصة فريدة للاطلاع على الأحداث من زاوية شخصية مطلعة، لفهم أوضح للماضي وتشريح أدق للحاضر، وقابلية لاستشراف المستقبل، وفي ما يلي الحلقة الحادية عشرة من هذه المذكرات القيمة:

يشكل تنظيم «داعش» امتداداً حقيقياً لتنظيم «القاعدة»، وحتى إذا اعتبر انقلاباً على زعامة «القاعدة» بعد مقتل أسامة بن لادن، فلا متغيرات في النهج والفكر والسلوك والممارسة والأهداف، وكل الذين عملوا في «القاعدة» من العراقيين التحقوا بالتنظيم الجديد تحت زعامة إبراهيم عواد البدري، باستثناء من ترك منهم العمل التكفيري. ولم يعد وجود لنشاطات تنظيم آخر بهذه الصفة في العراق.

ومهما قيل عن الجهة التي صنعت هذا التنظيم، فالحقيقة هي أنهم باتوا يحتفظون بخصوصياتهم التي لم تعد تعتمد إلى جهة دولية محددة، فالكثير من تمويلهم أصبح ذاتياً، بعد أن تمكنوا من بناء مرتكزات قوية. وهذا لا ينفي وجود جهة دولية داعمة في مرحلة ما، أمنت لهم قدرات التكوين والانتشار على الساحة السورية والانتقال إلى العراق.

بدء العمليات ورد الفعل

في 2 يناير 2014، وبتوقيت غريب بعد فض اعتصامات الفلوجة التي استمرت عاما، قامت قوة من «الدواعش» باقتحام سريع لمدينة الفلوجة -65 كلم غرب بغداد- مستخدمة سيارات بيك أب، منطلقة من وادي حوران الامتداد الطبيعي إلى الأراضي السورية، بعد مرحلة من الهجمات البرية والجوية التي شنتها عليهم القوات العراقية في مناطق حوران. وبسرعة لافتة سقطت مراكز الشرطة المحلية وتمكن «الدواعش» من فرض السيطرة على المدينة كاملة خلال بضعة أيام، وقد ارتكبت الحكومة عموماً ووزارة الدفاع تحديداً خطأ فادحاً في عدم القيام برد فعل سريع لطردهم من المدينة، خضوعاً لآراء ومطالب سياسية طالبت بإعطاء المداولات السياسية الوقت اللازم، وهو تفكير يتعارض وسياقات الحسم العسكري ومتطلبات الأمن الوطني.

وخدعت التنظيمات المسلحة المعارضة للحكومة المركزية، عندما تصورت أنها قادرة على التعامل مع الغزاة، فمع مرور الوقت طلب «الدواعش» من كل التنظيمات المسلحة مبايعتهم، وجرى اعتقال من رفض المبايعة، ومنهم ضباط كبار سابقون لايزالون رهن الاعتقال، ما كان عليهم أن يقعوا ضحية التقديرات الخاطئة في القدرة على التعامل مع الفكر التكفيري إلا من تشوهت عقولهم بأفكار ضالة.

بعد فوات الأوان، صدرت الأوامر إلى قوات الجيش بمحاولة استعادة الفلوجة، إلا أن تحضيرات «الدواعش» وصلت إلى مرحلة خطيرة، بعد أن قاموا بتفخيخ مئات البيوت والطرق والمقتربات، وانتشروا بين المدنيين الأبرياء، فاضطرت الحكومة الجديدة إلى وقف الهجمات الجوية وعمليات القصف المدفعي حماية للمدنيين، على أمل أن تتوافر الظروف الاستراتيجية الملائمة للعمل على تحرير الفلوجة، التي تكتسب أهمية أكثر كثيراً من محافظة نينوى، على الرغم من المعطيات النظرية المرتبطة بتصدير النفط وغيرها.

ولاتزال الفلوجة تحت الاحتلال، ومعظم بيوتها خاوية على جدرانها أو دمرت بعد أن غادرها أهلها ونزحوا ليعانوا العوز والحرمان، وهرب السياسيون والملالي ليقيموا في فلل وفنادق بثمن تلقوه ممن أغواهم، وظهر بعض الذين ركبوا منصات الاعتصامات باسم ثوار العشائر فقاموا بمهمة كبيرة بالتغطية الإعلامية والمعنوية والنفسية لـ»الدواعش».

وأصبح واضحاً أن الموصل ستكون هدفاص مقبلاً، لأن الطريق إلى بغداد من الفلوجة ليس معبداً بالزهور، خصوصا بعد أن نشرت قوات ضخمة لمنع الاقتراب. وعلى هامش الخلافات الحادة بين أسامة النجيفي رئيس البرلمان وأخيه أثيل محافظ نينوى من جانب والحكومة برئاسة المالكي من جانب آخر، تزايدت حالة التفكك الوطني والأمني، ونشطت حركة «الدواعش» في جباية الأموال وزرع الخلايا وتصعيد الموقف القتالي، وبقي المحافظ يرفض احتمالات سقوط الموصل بوصفه رئيساً للجنة الأمنية للمحافظة.

وبدت العلاقة الحميمة بين الأخوين نجيفي ومسعود البارزاني رئيس إقليم كردستان، حيث بدأت مرحلة جديدة من التدهور الأمني الخطير.  

سقوط الموصل

الكلام عن سقوط محافظة نينوى ومركزها مدينة الموصل مثير لكل علامات التعجب والاستغراب، خصوصاً مع دلائل كنا نقرأها ونحذر منها علنا، ونحن على مسافة 5000 كيلومتر، فكل شيء لم يعد خافياً عن أحد. وأؤكد ما قلته للمسؤولين خصوصاً وللعراقيين عموما علناً، انه إذا ما انفلت الأمن في الموصل فسيكون الوضع أصعب 100 مرة عن الوضع في الأنبار، وذلك في شهر يناير 2014، فالأنبار محافظة عربية سنية، وكلهم أبناء عمومة أو عاشوا وتصاهروا من مئات السنين، فتبقى أهدافهم متقاربة، خلاف محافظة نينوى بشرائحها المتعددة، ووجود أطماع تركية، وبارزانية واضحة في أطرافها، فضلا عن خلافات حزبية ومصالح نفوذ متضاربة.

وقبل يومين من سقوط الموصل في 9 يونيو 2014 كنت على قناعة عندما وصفت الوضع من خلال قناة العربية الحدث بقولي: «إن الموصل ستسقط بأسرع من البرق إذا ما انسحبت قوات الأمن»، غير أن الحالة انحدرت إلى ما هو أسوأ عندما سقطت الموصل رغم وجود قوات الأمن. وخلال سويعات من القتال الحاسم غادر المحافظ المدينة إلى إقليم كردستان وتبعه قائد العمليات الفريق الركن مهدي الغراوي، وسبقهم القادة الآخرون. علما بأن حجم القوة العسكرية من الجيش والشرطة الاتحادية المفترض وجوده وفق الهياكل التنظيمية يبلغ نحو 50000 شخص يرتبطون بقيادة عمليات نينوى، إلى جانب نحو 26000 فرد من الشرطة المحلية. وإذا افترض أن 50 في المئة من القوة العاملة من الفضائيين، «وهو التعبير الدارج للجنود والضباط الذين يتقاضون رواتبهم دون وجود فعال لهم في الوحدات»، فإن عدد المقاتلين يبلغ أكثر من 30000 مسلح! وهي قوة قادرة على حماية المحافظة لو أحسن نشرها وقيادتها. وبسقوط الموصل توالى سقوط المدن والقصبات الأخرى من دون مقاومة تذكر، حيث أصبح الانهيار صفة سائدة.

واحتجز «الدواعش» موظفي القنصلية التركية في الموصل وعددهم 49 موظفا، وأمكن التوصل إلى اتفاق مثير خلال فترة وجيزة، تقرر بموجبه الإفراج عن جميعهم دون أذى، ولم تعرف أبعاد الصفقة التي أدت إلى ذلك، حيث صدرت تعليمات تركية مشددة بالتعتيم على الموضوع. وليس معقولا ولا وارداً اتخاذ القرار لاعتبارات إنسانية صرف. ولوحظ ضبط إعلامي قوي من قبل «الدواعش».

أسباب سقوط الموصل

رغم مرور ثمانية أشهر على سقوط الموصل لم تصدر اتهامات رسمية لأحد حول ظروف وملابسات وقصة سقوط هذه المدينة الاستراتيجية المهمة وثاني كبريات المحافظات العراقية، إلا أن المؤشرات التالية تبدو حاسمة في وصف الحالة، وتبقى الشكوك كثيرة وكبيرة، على أمل أن تقدم تفصيلات عنها من قبل الهيئات التحقيقية:

• الفساد الفظيع الذي انتشر في معظم مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية وفي محافظة نينوى، أفقد كثير من القادة والمسؤولين السياسيين والعسكريين الشعور بالمسؤولية الوطنية والأخلاقية، فأثر على الروح المعنوية والقتالية سلباً.

• الخلافات السياسية الحادة في كل المفاصل العراقية.

• الخلافات الشديدة بين المحافظ وقائد العمليات وغياب الثقة بينهما تماماً، حيث كانا يتراشقان التهم ويتهم أحدهما الآخر.

• الانتشار العسكري المكثف داخل المدينة تسبب في بعثرة القوات، وضعف خطوط الدفاع والصد خارج المدينة، وترك المقتربات الرئيسية ضعيفة، وأحدث ضجراً لدى أهل الموصل من جراء التدابير الأمنية المشددة، وكثرة الحواجز لمجابهة نشاطات الانتحاريين.

• التعاون بين البعثيين وخلايا «الدواعش» قبل وأثناء وبعد سقوط الموصل، إلى أن بدأت مرحلة البيعة التي طالب بها أبوبكر البغدادي خلال خطبة الجمعة، التي القاها حضورياً في المسجد المركزي في الموصل، وحضرها مئات المصلين من أهل المدينة.

• عدم وجود قوة احتياط عملياتي ضاربة تابعة لقيادة عمليات نينوى.

• ضعف تدابير القيادة والسيطرة في المحافظة والأركان العامة.

• ضعف وزارة الدفاع وعدم قدرة الوزير وهيئة ركنه على إدارة صراع خطير بهذا المستوى، وأحد أسباب ذلك يعود إلى عدم الاختصاص، فوزير الدفاع كان ضابطا برتبة صغيرة في الأمن العام.

• التفكك السياسي العام بين القيادات السياسية والتشفي بالأخطاء والفشل في ما بينهم.

• تخلي الجنرالات السابقين من أهل الموصل عن مسؤولياتهم الأدبية والأخلاقية والوطنية تجاه مدينتهم، وما كان عليهم الركون إلى السكوت وإبعاد أنفسهم عما يحدث، بغض النظر إن كانوا في الخدمة أم من المتقاعدين. فلم نر أحدا منهم يتصدى ويتحدث ولو من خلال الإعلام، لتسليط الضوء على الخطر، وحتى الآن لم يظهر توجه يخالف هذه الرؤية السلبية القاتمة.

• لا وجود لمراكز دراسات وبحوث نشيطة يمكن أن تساهم في قراءة احتمالات الخطر، وتحث المعنيين على التحرك الفعال.

• الشعور المناطقي والطائفي لدى شريحة من الناس في المحافظة، وهذه حقيقة معروفة.

• المؤامرات الداخلية والخارجية وحنين البعض إلى ماضي الولايات العثمانية نتيجة التثقيف الخاطئ.

• عدم وجود قوات كافية من الاحتياط المركزي الاستراتيجي لمعالجة المواقف الطارئة، وابتلاع محافظة الأنبار -مساحتها ثلث مساحة العراق-  للمزيد من التشكيلات القتالية، وأصبحت بغداد في وضع احتياطي دون خط الأمان.

   وقبل مواصلة الحديث عن اندفاعات «الدواعش» جنوباً نحو صلاح الدين وبغداد، لابد من التوقف عند سقوط تلعفر بمسحتها التركمانية- العربية، وسقوط سنجار اليزيدية وكارثة سبي الازيديات، وتهجير المسيحيين. فقد عانى المسيحيون سكان البلد الأصليون معاناة شديدة، وصودرت ممتلكاتهم وطردوا بعد أن جردوا من حاجياتهم الفردية، بما في ذلك أجهزة الموبايل، وطبق الوضع بقسوة على التركمان الشيعة، وعلى الشبك، أما قصة سنجار فتتميز بغرابتها.

سقوط سنجار وتشريد أهلها

يتراوح عدد اليزيديين في العراق بين 700000 – 900000 نسمة، أغلبيتهم العظمى في مدينة سنجار موطنهم الأصلي، ولم أتحدث مع شخص اليزيدي إلا أكد أنهم قومية مستقلة وديانة مستقلة أيضاً، ويتحدثون لغة خاصة بهم لا علاقة لها باللغات المحلية العربية والكردية والتركمانية. والنقطة التي تجمعهم بالديانات السماوية هي إيمانهم بالله.

محنة المسيحيين

الوجود المسيحي في محافظة نينوى أقدم وأعرق من أي وجود آخر، ويشغل المسيحيون بشرائحهم مناطق مهمة من سهل نينوى التي تعدها رئاسة إقليم كردستان مناطق متنازع عليها وتسعى إلى فرض السيطرة عليها. والغريب أيضاً أن معظم هذه المناطق سقطت بيد «الدواعش»، بعد أن تراجعت منها قوات بيشمركة غرب إقليم كردستان التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني من دون قتال جدي، واضطر معظم المسيحيين إلى النزوح في ظروف بالغة القسوة، وهم أكثر الشرائح التي تفكر في مغادرة العراق، مما يقتضي تنبه الحكومة العراقية إلى الأهداف المتداخلة، والعمل بكل السبل وبشكل مركزي على دعم هذه الشريحة الأصيلة دعماً مميزاً وغير مقيد على حساب أوجه الصرف الأخرى، لتوفير فرص بقائهم لاعتبارات إنسانية، وللإبقاء على التوازن الذي عاشه العراقيون منذ بدء الحضارات. وإن من واجب المجتمع الدولي التدخل لنصرة المسيحيين العراقيين والمحافظة على وجودهم والإسهام في حمايتهم بدلا من تشجيعهم على الهجرة من خلال تقديم التسهيلات. ويعاني المسيحيون ضعفا في تمثيلهم على مستوى العراق، ويتحمل المسؤولون العراقيون مسؤولية ضعف المساندة لبلورة مرجعية وطنية تستطيع أن تعبر عن وجودهم ضمن الإطار الوطني، بعيداً عن محاولات الاستحواذ والسيطرة من قبل أي طرف محلي.

وضع الموصل الحالي

كل ما يقال عن وجود متطوعين من أهل الموصل لتحرير مدينتهم والمحافظة الأم يحتاج إلى براهين عملية، فرموز الفشل هم أنفسهم الذين يحاولون تصدر المشهد من جديد. ويفرض «الدواعش» ظروفا قسرية على أهل الموصل واجبارهم على الالتزام بأفكارهم. وإن كل ما قيل من أخبار في الأيام الأولى لسقوط الموصل عن أن ضباطا كبارا من أهل الموصل سيتولون قيادة المحافظة تبين أنه كلام هراء، وما نسب إلى محافظ نينوى السابق قوله عن أن «الدواعش» سيسلمون الضفة الشرقية للمدينة إلى جماعة النقشبندية التابعة لعزة الدوري وهؤلاء سيسلمونها إلى الإدارة الشرعية ما هو إلا كلام هراء ويثير تساؤلات كثيرة.

ويعيش أهل الموصل حياة صعبة على الرغم من أن الحكومة المركزية مستمرة في دفع رواتب المتقاعدين والموظفين، فالتدخين ممنوع، ومشاهدة مباريات كرة القدم جريمة، والسفر خارج المدينة مقيد بشروط محددة، والفصل بين الطلاب والطالبات في الجامعات اجباري، والمزيد من الضباط السابقين يعتقلون لأتفه الأسباب ووفق مبدأ الشك، فضلاً عن صعوبة الحصول على المواد المعيشية. وتفرض ضرائب محددة على الموظفين وأصحاب المحلات التجارية وحتى على أصحاب البسطات البسيطة للبيع. وإن مئات آلاف العوائل نزحت إلى أربيل ودهوك وكركوك وجنوب العراق وإلى تركيا.    

back to top