العراق في مرحلة ما بعد سقوط صدام (2-12) «حرب الحواسم»... مباغتة بالتوقيت والأسلوب

نشر في 09-02-2015
آخر تحديث 09-02-2015 | 00:11
يعد سقوط نظام صدام حسين في العراق محطة تاريخية مفصلية في المنطقة، ومن هذا المنطلق تنشر «الجريدة»، صفحات كتبها وفيق السامرائي رئيس جهاز الاستخبارات في عهد صدام، عن رؤيته للأحداث منذ سقوط بغداد، وصولاً إلى الحرب الأخيرة على «داعش»، لمنح القارئ فرصة فريدة للاطلاع على الأحداث من زاوية شخصية مطلعة، لفهم أوضح للماضي وتشريح أدق للحاضر، وقابلية لاستشراف المستقبل، وفي ما يلي الحلقة الثانية من هذه المذكرات القيمة:
كانت تقديرات الاستخبارات العسكرية في حرب الخليج الثانية تشير إلى أن قوات التحالف ستقوم بعمليات قصف جوي وصاروخي استراتيجي، وتجريد مناطق العمليات، وضرب مواقع القوات في الكويت، وإلحاق أكثر ما يمكن من التدمير في القدرة الدفاعية قبل شن العمليات البرية. وهو ما حدث تماما إلى درجة دعت صدام إلى شن هجوم بري على منطقة الخفجي السعودية، لمحاولة إرباك خطط التحالف وجرهم إلى البدء بعملياتهم البرية في وقت غير ملائم لهم، أما في حرب إسقاط النظام التي أطلق عليها صدام اسم «حرب الحواسم»، التي بدأت ليلة 19 - 20 مارس 2003 فقد شرعت قوات التحالف البرية في الهجوم بعد فترة وجيزة من بدء الضربات الجوية، محققة مباغتة كبيرة في التوقيت مقارنة بالحرب التي سبقتها، وهو ما تسبب في التأثير على خطط العمليات التي كانت مرتبكة أساساً بسبب النقص في جوانب المعلومات وتحليل سيناريوهات الحرب المتوقعة. وعندما تفقد الاستخبارات قدرة متابعة حركة المعلومات يجري اللجوء إلى التحليل اعتمادا على كفاءات ضباط ركن الاستخبارات والقدرة على التنبؤ.

الخلل في التوصل إلى أسلوب إدارة الخصم لعملياته يتسبب في مخاطر جدية عندما يكون الموقف الجوي لمصلحة الخصم، لما يترك من تعقيدات على حركة القوات لغرض المناورة بين مناطق العمليات، وبسبب طول خطوط المواصلات بين بغداد وجنوب البصرة البالغ نحو 600 كيلومتر تركت قراءة الاستخبارات الضعيفة للمستقبل ظروفاً معقدة مضافة على الموقف وقدرة المناورة، هذا فضلا عن ضعف موارد الدفاع الجوي، التي فشلت في إسقاط طائرة قتال جوي أو قاصفة واحدة طوال مدة الحرب، فتداخلت عناصر الفشل بشكل غير مسبوق، وعندما تصل التصورات المتداخلة إلى هذا الفشل الذريع تصاب القيادات بالشلل الاستراتيجي والعملياتي.

ضربات شاملة

كان النظام يتوقع منذ فترة طويلة أن تتم مهاجمة آلاف الأهداف العراقية إذا ما تقرر شن الحرب، وقد شنت القوات الجوية والصاروخية لقوات التحالف هجمات واسعة وكثيفة شملت الأهداف والغايات التالية:

• ضرب كل مواقع القيادة والسيطرة الرئيسية وتدميرها.

• تدمير وحدات الدفاع الجوي على المستويين الاستراتيجي والتعبوي، فضلا عن عمليات التشويش الإلكتروني.

• استهداف القيادات الرئيسية للدولة، خصوصا صدام حسين، بوصفه القائد العام للقوات، وهذه الصفة تعطي مجالا قانونيا للاستهداف.

• ضرب محطات الإذاعة والتلفزيون ومواقع ومراكز الاتصالات السلكية واللاسلكية، إلا أن النظام احتفظ بوسائل بديلة مستفيداً من تجارب الحروب السابقة.

• تدمير منشآت التصنيع العسكري، خصوصاً مصانع العتاد ومخازن الأعتدة.

• معسكرات ومناطق انتشار القوات، مع التركيز على مواقع الحرس الجمهوري والحرس الخاص.

• تجريد خطوط المواصلات لمنع أو عرقلة التنقلات التعبوية وأرتال الإدامة، وتولت هذه المهمة طائرات الهجوم الأرضي والهليكوبترات الهجومية.

• مهاجمة القوات القتالية المنتشرة في مناطق العمليات، التي لم تستطع تحصين مواضعها بما يلزم من إجراءات الدفاع وتأمين الحماية من بعض الضربات، بسبب ضيق الوقت وشح الموارد وغياب العامل النفسي المساعد لتحقيق النجاح.

• لوحظ تجنب مهاجمة الأهداف المتعلقة بالبنى التحتية إلى قدر كبير، بما في ذلك المحطات الكهربائية الرئيسية ومصافي النفط والجسور المهمة ومعظم مباني الوزارات والمؤسسات، لأهمية هذه المنشآت في إعادة تأهيل الدولة الجديدة، فاختلفت قوائم الأهداف بين حربي الخليج الثانية والثالثة، ففي الثانية كان الحرص على إحداث تدمير كبير واضحاً، أما في الثالثة فكان التدمير المطلوب محدداً بما يقدم من تسهيلات لخطط إسقاط النظام وإقامة نظام جديد. ويمكن وصف قوائم أهداف الهجمات الجوية والصاروخية بالقوائم النوعية المنتقاة بطريقة عملية تختلف عن اختيارات الحروب المفتوحة. وساعدت هذه الاختيارات على إبقاء مئات المقار صالحة لإشغالها من قبل القوات الأميركية لقياداتها العليا وقيادات الفرق وكذلك لمؤسسات النظام الجديد.

مؤشرات مهمة

• لقد تمكنت قوات التحالف من حسم الموقف وهزيمة قوات النظام خلال ثلاثة أسابيع، وكان ممكنا إطالة هذه المدة من قبل النظام لو جرى التحسب مسبقاً لسياقات الحرب واستبدال الانتشار النظامي بعمليات غير نظامية، إلا أن المخططين العسكريين لا يمتلكون الكفاءة اللازمة للمناورة والتكيف مع المتغيرات، فمعظم القادة بقوا متمسكين بنظريات تقليدية بسبب عزلة في التفكير خارج النظم والسياقات التقليدية. وكان التسليم بإدارة حرب نظامية خطأ شنيعاً في ظل سيادة جوية مطلقة، وتفاوت في القدرات التكنولوجية والنارية والتدريبية للقوات البرية للطرفين، خصوصا أن القوات العراقية بقيت تعاني نقصاً خطيراً في التجهيزات بسبب العقوبات الدولية الصارمة التي ترتبت على العراق بسبب غزو الكويت. فكل شيء أصبح قديما ومتخلفا وقليلا وغير قابل على مواكبة عوامل التطور الكبير في المجالات التكنولوجية.

• بلغ عدد قتلى القوات الأميركية خلال عملية الاجتياح واحتلال بغداد وبقية المدن نحو 100 قتيل، قبل بدء عمليات المقاومة ونشاط الجماعات المناوئة، ويعكس هذا العدد البسيط من الخسائر حالة القتال الضعيف وهزيمة قوات النظام الشنيعة، فكل ما قيل عن معارك في بعض المناطق لم يكن بالمستوى المفترض، وحتى ما قيل عن معركة مطار بغداد جرى وصفه بطريقة بولغ فيها كثيرا من قبل الطرفين لاعتبارات غير دقيقة ونفسية، فحجم الخسائر يعكس وصف المعركة، ويدل على أن المعارك لم ترتق إلى مستويات متكافئة نسبياً، ومثل هذا التفاوت يعد خللاً كبيراً في حساب القدرات.

• تعاملت الولايات المتحدة مع قادة الجيش والأجهزة على أنهم خصوم، وهو ما انعكس سلباً على الخطوات اللاحقة. وللأمانة، فإن هذه النظرة قد لا تكون قوية لدى المخابرات الأميركية وقوات الجيش، أما على مستوى الحاكم المدني بول بريمر فقد كان يعتبر الحوار مع القادة كالحوار مع العدو، وعرقل خطوات قادة الجيش والمخابرات التي سعت إلى الحوار وإيجاد تفاهم، ليس على أساس تسليم القادة الحكم، بل للوقوف على وجهات نظرهم. وبقيت القوات الأميركية حذرة في تسليح الجيش العراقي لفترة طويلة، وحتى قوات رئاسة الجمهورية لم يسمح لها بالاحتفاظ بقاذفات صواريخ مقاومة دبابات قصيرة المدى، لأنها تمثل تهديداً للقوات الأميركية، على الرغم من الحاجة إلى هذا النوع من السلاح في مواجهة احتمال دفع «القاعدة» انتحاريين بسيارات مصفحة كما هو متبع حالياً من قبل الدواعش. وحرصت على حث وحدات حرس الرئاسة على الاحتفاظ بعدد مناسب من قاذفات الصواريخ، وعدم الالتزام برؤى الأميركيين مع ملاحظة إخفائها عنهم، فأمن الرئاسة يتطلب إجراءات حماية ذاتية.

• لم تحدث خلال الحرب خسائر بقادة القوات والقادة السياسيين، ما يدل على أنهم بقوا بعيدين عن المناطق التي تتطلب المعارك وجودهم فيها، ليس لرفع المعنويات فحسب، بل لإدارة العمليات القتالية. ولاشك في أن ابتعاد القادة عن المقاتلين زاد من فرص الانهيار العسكري، وجعل الفترة الزمنية أقل كثيراً مما كان يتوقع البعض، أما رؤيتنا لحالة الصراع وقدرة النظام على المطاولة فكانت تؤكد أن النظام سينهار بسرعة، لأنه فقد عناصر التماسك والبقاء قبل أن تبدأ الحرب أصلا. ولولا بقاء القادة العسكريين على حالة حذرهم وخوفهم المفرط من النظام لأمكن فتح أبواب من خيارات التخلص من المأزق والتخلص من صدام ونظامه، غير أن الآمال لم تكن معقودة عليهم، بعد سنين من فرض هالة النظام.

• الاندفاع السريع لقوات التحالف من الحدود الكويتية إلى بغداد، ودخول بغداد والسيطرة على المواقع المهمة فيها من دون مقاومة، أثبت أن ما روج له النظام عن القتال على أسوار بغداد لم يستند إلى أي تحضيرات واستعدادات وإجراءات دفاعية. وكل ما قيل عن تحصينات وخطوط دفاعية وانتشار لقوات رديفة لم يتعد الأوهام والتخيلات الدعائية التي لم يخدع بها غير البسطاء.

• وجود قسم كبير من الاحتياطات المركزية في بغداد أو على مشارفها الجنوبية كان خطأ فظيعاً، فكل القوات التي دفعت جنوباً بعد بدء الحرب تعرضت بضربات جوية لخسائر كبيرة، وتعذر وصولها إلى المناطق التي دفعت إليها، فضلا عن أن عملية دفع القوات باتت عبثية، لأن التشكيلات كانت مفككة وضعيفة ولا تمتلك المعدات والتجهيزات والوسائل النارية اللازمة للقتال في معارك متكافئة، والمقاتلون فقدوا إرادة القتال، وأصبح التفكير محصوراً في كيفية المحافظة على حياتهم.

• لوحظ عدم السيطرة على المؤتمرات الصحافية التي عقدت خلال فترة الحرب، خصوصاً التصريحات التي أدلى بها وزير الدفاع الفريق أول الركن سلطان هاشم، فقد أثرت سلباً على الروح المعنوية للقوات ولأنصار النظام، وساهمت في تحطيم الروح المعنوية، لأنها أظهرت عدم قدرة القوات على الدفاع تجاه قوات التحالف البرية الزاحفة. والحقيقة أن تصريح وزير الدفاع كان دقيقاً، فالحرب خاسرة ومحسومة مسبقاً، ولم يكن أمام صدام إلا خيارات محدودة، أفضلها الانتحار أو قبول النفي، وكلاهما بعيد عن قبوله.

• لم تستطع القوات الضاربة العراقية الدفاع عن بغداد ولا عن أي موقع حساس، وهذا يدل على فشل وعدم كفاءة خطط الدفاع الاستراتيجي. وعندما نتحدث عن خطط استراتيجية، فالمطلوب العمل بموجب نظريات واسعة وأفق غير مقيد وشعور بفرصة مناسبة من فرص تحقيق النصر، وهذا كله لم يعد موجوداً في تلك المرحلة الهزيلة من مراحل تاريخ العراق.

• الفشل الاستراتيجي يعود إلى أسباب كثيرة، أهمها الرغبة الشعبية العامة في التخلص من نظام الحكم عموماً وصدام شخصياً، ويعود أيضاً إلى فشل القيادات في التخطيط الاستراتيجي، وضعف القدرة في قيادة العمليات ميدانياً، كما أن انتشار الفساد واشتراك القيادات فيه أسهم بشكل مباشر في إضعاف المؤسسة العسكرية والأمنية.

• تولي قصي صدام حسين مهمة القيادة الفعلية للحرس الجمهوري تحت

لافتة الإشراف، وعدم صراحة بعض القادة وتجنبهم تحمل المسؤولية، عوامل أضاعت فرص الاستخدام الصحيح لقوات الضربة الرئيسية، فحرمت القوات المسلحة من الاحتياط الاستراتيجي الفعال، وكل حرب لا يحتفظ فيها باحتياط استراتيجي تكون نتائجها الهزيمة، فالهزيمة قرينة عدم وجود الاحتياطات.

• خلاف طريقة العمل في أفغانستان، من مشاكل قوات التحالف الرئيسية، عدم وجود قوات صديقة جاهزة للتعاون بعد دخول بغداد واسقاط النظام، وتحول أمن بغداد إلى عبء كبير على التحالف، فمدينة بسعة بغداد تحتاج إلى قوات كبيرة للمعاونة في ضبطها، بعد تفتت جهاز الشرطة وتدمير معسكرات الجيش التي تعرضت للنهب والفرهود ولم يبق شيء منها على الإطلاق. أما في أفغانستان فكانت قوات المعارضة مؤهلة للقيام بأدوار مهمة في عملية إزاحة «طالبان» عن الحكم وليس في مسك الحكم، الذي تطلب جهوداً دولية لاتزال مستمرة منذ أكثر من ثلاثة عشر عاماً.

هروب القادة

ما إن اقتربت قوات التحالف من بغداد حتى هرب جميع القادة السياسيين والعسكريين، أو اختفوا وتواروا عن الأنظار، وفي المقدمة منهم صدام حسين، ولم تظهر أي عمليات مقاومة في بغداد يفترض التخطيط لها من قبل النظام، كما واصلت قوات التحالف زحفها شمال بغداد إلى محافظة صلاح الدين ولم تطلق رصاصة واحدة عليهم، وهذا يثبت أن تصورات أجهزة الاستخبارات العراقية كانت بائسة وقاصرة عن فهم ظروف الحرب وسيناريوهات عمل التحالف، وهذه حالة شاذة تماماً عن السياقات المعتادة خلال عملنا السابق في الاستخبارات.

إن هروب القادة أعطى فرصة ذهبية لترتيب أوضاع تشكيلات التحالف في بغداد وشمالها، وامتدت فترة الاستقرار إلى بضعة أسابيع، قبل أن تبدأ نشاطات مسلحة. ومن بقي من القادة متخفياً ألقي القبض عليه، بينما شق الكثير منهم الطريق إلى دمشق التي قدمت لهم تسهيلات الإقامة، ومنهم من غادر إلى اليمن بعلم السلطات اليمنية التي رحبت بهم وإلى دول أخرى تدريجياً، فخلت الساحة العراقية من القيادات العسكرية والسياسية لصالح تنظيم القاعدة الذي انتشر بشكل سريع في مناطق شمال بغداد وغربها. ولم يحاول صدام الهروب خارج العراق وكذلك ابن عمه علي حسن المجيد وزير الدفاع، الذي اعتقل في وقت مبكر بعد مغادرة سامراء، وبدأ صدام بتشكيل نواة لعمليات مسلحة من البعثيين تحديداً، قبل أن يتم القبض عليه.

تصرف القوات الأميركية

بصرف النظر عما ورد عن تعامل الأميركيين مع قادة الجيش العراقي السابق كالتعامل مع العدو وفق نهج بريمر، فإن تعامل القوات الأميركية اتسم بالهدوء والتعاطي الإيجابي خلال الأسابيع الأولى مع عموم الناس، ولم يحاولوا التوسع في الاعتقالات خارج نطاق المطلوبين إلا في حالات قليلة، لكنها لم تتدخل نهائياً لمنع عمليات نهب المعسكرات ومخازن الأسلحة والعتاد، مما أدى إلى انتشار السلاح والعتاد والمتفجرات بصورة كبيرة بين المدنيين، وهو ما ساعد -إضافة إلى تسيب الحدود- على انتشار النشاطات المسلحة وتصاعدها بوتيرة عالية. وقد احتلت القوات الأميركية مواقع لها داخل المدن اضطرارا، خلافاً لمتطلبات أمنها المباشر، وذلك لعدم وجود قوات شرطة وقوى أمن عراقية لضبط الأمن الداخلي، علما بأنها لا تمتلك أي معلومات عن الوضع المدني للعراقيين، وكان عليها أن تبدأ من الصفر في التعرف على الحقيقة، ومن هنا ظهرت قصص المخبر السري، بالتعاون والتوسع مع المترجمين الذين جرى تشغيلهم من أبناء المدن، أو من المستقدمين بعقود من خارج العراق، وبعضهم من أصول عراقية وعربية، وكثير من الأشخاص الذين اعتقلوا في مراحل لاحقة كانوا ضحية التحريض والمعلومات الكيدية من بين أبناء المناطق نفسها، وهو ما ترك آثاراً نفسية ساهمت في انتشار العنف.

اتصال برؤساء العشائر والبعثيين

 لم تجد قوات التحالف صعوبة في إقامة روابط مع رؤساء العشائر، وفي مناطق شمال بغداد وغربها كان معظم رؤساء العشائر على استعداد تام للتعاون مع القوات الأميركية، وكان كثير من البعثيين على استعداد للتعامل على هذا النمط من العلاقات دون تحفظ، أما في بغداد، فكان تعاون البعثيين من الدرجات الحزبية الصغيرة والمتوسطة واضحاً، ومن خلال المعارضين العائدين من خارج العراق أو بالتعاون مع المترجمين، كما تعاون مع الأميركيين عدد كبير من الضباط الكبار، وبعضهم ممن شغلوا مواقع مهمة قبل سقوط النظام، وهذا يعطي دليلاً على وجود عدد كبير ممن كانوا مستعدين للتفاعل الإيجابي مع الواقع الجديد، ومع الأميركيين بلا حرج.

إن الاتصال بالعشائر كان توجهاً أميركياً، ولايزال المسؤولون الأميركيون يطرقون عليه من خلال تعاملاتهم، فأهملوا شرائح مهمة أكثر فائدة من الناحية الثقافية والمجتمعية، إلا أن التصورات الأميركية لاتزال حتى الآن تفتقر إلى رؤية واقعية، ويبدو أن معلوماتهم كانت تركز بشكل شبه كلي على الوضع العسكري، ضمن الاختصاص الأساسي لاستخبارات الدفاع، ومن الصعب الوصول إلى حالة من التكامل في ظروف تطلبت عملاً سريعاً وألقت عبئاً كبيراً على القوات.

إن عقد المخابرات الأميركية والجيش تجاه البعثيين محدودة، خلاف ما يروجه البعثيون أو يتظاهرون به. ولولا النشاطات المسلحة التي يقوم بها بعثيون ينتمون إلى جماعة النقشبندية الموالية لعزة الدوري أو ممن ينتمون إلى الدواعش، لشاهدنا تفاعلاً بين الأميركيين والبعثيين أكثر من أي شريحة أخرى.

فرهود الحواسم

مادام الحديث عن حرب الحواسم، فعمليات الفرهود وعمليات نهب ممتلكات الدولة كانت قصة مثيرة، وكما قلنا، فلم تحاول القوات الأميركية منع الفرهود، عدا وزارات ودوائر مهمة كوزارة النفط. والفرهود لم يقتصر على الناس البسطاء والفقراء نتيجة العوز، بل جرى نهب الطائرات المتبقية وتحويلها إلى خردة، وكذلك مئات الدبابات والمعدات الهندسية وسيارات وآليات الدولة المختلفة، ومحطات الكهرباء وجرى تدمير أبراج الضغط للحصول على أسلاك الكهرباء وصهرها وتهريبها، وأغلبية المعدات جرى تهريبها إلى شمال العراق وإقليم كردستان تحديداً، لكن لم يتم التجاوز على ممتلكات الناس، عدا بعض القادة من النظام السابق الذين استغل السياسيون ممتلكاتهم أو استحوذوا عليها. واستمرت الحالة هكذا حتى بدء النشاطات المسلحة منتصف 2003، ولم تحاول القوات الأميركية المس بأي مواد حكومية أو أهلية وبقيت محصنة في تلك المرحلة على المستويين العام والشخصي لأفرادها. والفرهود شارك فيه سياسيون كبار قبل أن تمتلأ حاوياتهم من أموال الشعب بطرق غير شرعية.

back to top