أدهم الدمشقي في «لم يلد ذكراً... لم يلد أنثى» كلمات حزينة مزيّنة بدمع الجمال

نشر في 02-02-2015 | 00:01
آخر تحديث 02-02-2015 | 00:01
No Image Caption
قد تكون المعرفة ابنة الفقر الشرعيّة، فللفقر في جوهره ذكر وأنثى يلدان كلّ ما هو غريب وثمين في الإنسان، ودائم الإقامة في ظلال جغرافية العقل والقلب.
في جديده «لم يلد ذكراً، لم يلد أنثى» يحاول الشاعر أدهم الدمشقي ارتداء اللغة ليكون هو النصّ. ويحمل مصباح الحبر بيد ذاكرته متوغّلاً في ضباب ذاته، مسترجعاً أمسه الطفولي فتغدو الكتابة إعادة ولادة لا تحتفظ إلاّ بالقليل الكافي لرسم المشهد.
إنّ أجمل ما في جديد أدهم الدمشقي «لم يلد ذكراً، لم يلد أنثى» أنّه يقطف الذهب الحلال من شجرة فقره العملاقة، وأنّه يتنازل عن المجاز لصالح حقيقة ذات جناحين أين جناحا الخيال منهما.

المقدّمة هي بقلم خلود الدمشقي كلشكو، وهي شهادة من أهل البيت لكنّها ليست مجروحة. رسمت خلود أخاها رسماً تقريبياً مقنعاً بكلمات لا تصادر فيها العاطفة المساحة المخصّصة للحقيقة: «... هو الذي ما تلقّى هديّة إلاّ قُبَلاً وأحضاناً دافئة. أخي ما عرف من ملذّات الحياة، إلاّ ما جادَه عليه خيالُه، أو ما قرأه في قصّة أو كتاب»...

يعلن الدمشقي في «فاتحة» كتابه أنّه يستردّ زمن الطفولة محاولاً اصطياد قمر الدهشة الأولى بشبكة الحنين رغم أنّ الأطفال الذين لعب معهم في ساحات الطفولة ليسوا سوى الفقر والحرمان والغربة... ما جعل عقله ووجدانه حقلاً ترتفع فيه علامات الاستفهام شجراً شاهقاً: «أعيد كتابة طفولتي، برصد الدهشة الأولى التي تتجلّى من ذكريات عاشها الطفل فيّ، بين الفقر والحرمان، الغربة والغرابة، الموت والتساؤلات الوجوديّة».

لم يكتب الدمشقي سيرة ذاتيّة، إنّما اكتفى ببناء بيت لغويّ حميم من ظلال طفولته، كأنّها هي صانعته الأولى، والأخيرة ربّما، وهو المسرحيّ العارف أنّ الناس، كلّ الناس، ممثّلون، ولذلك قفز عن شرفة العمر الخلفيّة إلى حديقة الطفولة، حيث يستقيل من ثياب التمثيل ويعيش النصّ العُمْري الأجمل رغم أنّه صندوق ألم: «فاتحة التجليّات هي لعبة «بيت بيوت»... حيث الكاتب هو الممثّل الذي يعتلي خشبة المسرح، لا ليمثّل، إنّما لينسى التمثيل الذي يعيشه فعلاً يوميّاً في مجتمعه».

ومن اللافت أنّ الدمشقي الشاعر يتجنّب «الجماليّات اللغويّة المكتسبة والمعيشة»... ليؤدّي جملة تستمدّ الجمال من حقيقة الواقع الذي قد يسيء إليه خيال الشعر فيأخذه إلى مواضع الالتباس ويبعده عن صدق المعاناة، بينما ما يريده صاحب النصّ هو الأمانة لجروح يكفيها ما تحمله من وجع وربّما ترتاح له ناجياً من سلطة المجاز عليه: «وعدتُ بدهشتي المسترَدّة لتشكيل مدلول جديد للجماليّة، موسيقاها التموجات والصدى الباقي للذكريات المتجلّية».

عند باب ذاكرة الدمشقي يقف موت الأب حارساً يترك وشماً حزيناً على وجوه الداخلين إليها. إنّها ذاكرة تفيض كينابيع الربيع، لكن ليس بفرحها، وإنّه موت أسطوري يفيض بألف شعور أسود.

موت

يسرد الكاتب الابن موت أبيه بالعامّية اللبنانية، ربّما لأنّها لغة الموت والحياة في آنٍ، أو لأنّها الأكثر قُرباً من حقائق نشاطاتنا الإنسانيّة تحت الشمس: «كان عمري تسع سنين.../ إطّلّع ببيّي وما عارف إزا ببكي أو بنطرو يوعا». وينتبه الدمشقي كثيراً إلى التخلّف الاجتماعي، لا سيّما في مواقف مأساويّة، متل موقف الموت. وعلى طريقة الأديب مارون عبود يحتجّ، دالاًّ بإصبع النقد، على هؤلاء الناس الذين لا يحسنون قراءة مشاعر الناس ولا مداراتها، فنساء قرية الدمشقي يردْنَ من ابن التسع سنوات أن يحمّل أباه الميت سلاماً إلى جدّه: «قِلّو شي لَ بيّك، قلّو يسلّملَك على جدّك». كما يتعجّبن من أنّ أخوات الكاتب لا يغنّين لأبيهنّ أشعار الفراق: «عم يطّلّعو فيكن الناس، قولو شي لَ بيّكن، قولو شي ردِّه...». وهرباً من غياب الأب، يلوذ الابن بأمّه ويغوص فيها على لؤلؤ الحنان، ولو أنّه يصرّح بعدم معرفته الحنان ولقائه وجهاً لوجه: «ما بعرف شو يعني الحنان. بسّ بعرف إنّو إمّي بإيّام الشتي، كانت تنيّمنا أنا وإخواتي ع فرشي وحدي، ونغمر بعض تا ندفا».

وتحت قناطر التغرّب والوحدة يقدّم الدمشقي رسماً تقريبيّاً له بلغة كثيفة، فهو البدويّ الساكن رحيلاً متواصلاً، ليغدو هو بيتاً لذاته، وليجد في سقوطه إلهاً يدعوه إلى أن يكون على صورته ومثاله: «أنا البدويّ الراحل في غربة لا تستقرّ/ بيتي ذاتي، ظلّي خيمة/ رحيلي الدائم جعلني أكون بيتي/ سقوطي الدائم جعلني أكون إلهي».

طرحة بلا لون

يحلو للدمشقي الانتقال، بين بوح وآخر، من ضفّة الوضوح إلى ضفّة الغموض مرتاحاً لعباراته الارتياح نفسه. فها هو يتزوّج البومة اللابسة طرحة بلا لون، والمستعدة لإنجاب الصّبح وزوجها المصرّ على كل إنجاز أبيض من سواد يضيع في ذاته: «... وزوجتي البومة تلبس الطرحة/ حبلى هي منّي،/ وقبل أن ننجب الصّبح معاً، كنّا نشتهي ملامح طفلنا.» متعدّد هو الدمشقي لغةً وأساليب تعبير، ويبدو خارج المدارس الأدبيّة كلّها وداخلها في آن. إنّه يعبّر حُرّاً من القيود، ويبْري قلمه على هواه، إلى حدٍّ يُشعر القارئ بأنّه يراعي خاطر المعاني التي تخصّه جدّاً، ولا يهمّه الشكل الذي سيتبنّاها واللغة التي ستعلنها.

وفي أكثر من موضع، تظهر الأمّ أيقونة الدمشقي تحرس عنق الروح: «طعم الحليب في دمي (...) وجهكِ العجوز أمّي، كلّ حنين يقرع مرآتي، يسألني عن عذريّة صدرك وعمرك المفقود». ففي موت الأب المبكر لم يكتف الابن بتأريخ هذا الموت في سجلّ الذاكرة الأسود، إنّما وقف أمام أمّه راثياً المرأة التي فيها، وكأنّها العذراء العائشة بلا رجل ولو أنّ صدرها قد أرضَع، ولو أنّ في صوتها أصداء من أغنية: «يلاّ ينام، يلاّ ينام»...

في «لم يلد ذكراً، لم يلد أنثى» أرّخ أدهم الدمشقي وجعه بقلم محترف رعشة الجمال، والصدق المرتقى إلى الإبداع، وأدّى جملة خاصّة تنتمي إلى عدّة مناخات وتعرف كيف تحتفظ بخصوصيّتها.

back to top