المتمردة

نشر في 31-01-2015 | 00:01
آخر تحديث 31-01-2015 | 00:01
No Image Caption
استيقظت وأنا أردّد اسمه.

ويل.

قبل أن أفتح عينيّ، شاهدته وهو يتهاوى على الرصيف مجدّداً، بلا حياة.

أنا من قتله.

انحنى توبياس أمامي، ووضع يده على كتفي اليسرى. ارتجّ القطار فوق السكّة، ووقف ماركوس، وبيتر، وكاليب عند الباب. أخذت نفساً عميقاً، وحبسته، في محاولة لتنفيس شيء من الضغط الذي أخذ يتراكم في صدري.

قبل ساعة، لم يبدُ شيء ممّا حدث حقيقياً بالنسبة إليّ. غير أنّني بدأت أعي الواقع الآن.

زفرت الهواء من صدري، لكنّ الضغط ظلّ موجوداً.

قال توبياس، وعيناه تبحثان عن عينيّ: «تعالي، تريس. علينا أن نقفز».

كان الظلام حالكاً، ما دمنا سنترجّل من القطار، فهذا يعني أنّنا اقتربنا من السياج. ساعدني توبياس على الوقوف، وقادني إلى الباب.

قفز الآخرون واحداً تلو الآخر: بيتر أوّلاً، ومن ثمّ ماركوس، ومن بعده كاليب. وقفت على حافة المقطورة وأمسكتُ بيد توبياس، فلفحني الهواء، مثل يد تدفعني إلى الخلف، نحو الأمان.

غير أنّنا قفزنا في الظلام، وهبطنا بقوّة على الأرض. آلمت الصدمة الجرح الذي أحدثته الرصاصة في كتفي. فعضضت على شفتي لأمنع نفسي من الصراخ، وبحثتُ عن أخي.

رأيته جالساً على العشب على بعد عدّة أقدام منّي، يدلّك ركبته، فسألته: «هل أنت بخير؟».

هزّ رأسه. سمعته يشهق كما لو كان يقاوم الدموع، فاستدرت عنه.

نـزلنا على العشب بالقرب من السياج، على بعد عدّة ياردات من

الطريق البالي الذي تعبره شاحنات جماعة الوئام لإيصال الطعام إلى المدينة، والبوّابة التي تمرّ عبرها. كانت البوّابة مغلقة حاليّاً، تعيق دخولنا. أطلّت علينا أبراج السياج، وبدت عالية وليّنة بحيث يصعب تسلّقها، ومتينة بحيث يصعب اختراقها.

قال ماركوس: «من المفترض وجود حرّاس من جماعة الشجاعة هنا، أين هم يا ترى؟».

أجاب توبياس: «ربّما كانوا تحت تأثير المحاكاة، وهم الآن... من يدري أين وماذا يفعلون».

ذكّرني وزن القرص الصلب في جيبـي الخلفي أنّنا أوقفنا المحاكاة، لكنّنا لم ننتظر لنرى ما حدث بعد ذلك. ماذا حلّ بأصدقائنا، وزملائنا، وقادتنا، وجماعاتنا؟ لا سبيل إلى معرفة ذلك.

اقترب توبياس من صندوق معدني صغير على الطرف الأيمن للبوّابة، وفتحه، فظهرت لوحة مفاتيح.

قال وهو يطبع سلسلة من الأرقام: «آمل ألاّ تكون جماعة المعرفة قد غيّرت هذا الرقم». توقّف عند الرقم الثامن، ففُتحت البوابة.

سأله كاليب: «كيف عرفتَ الرمز؟» كان صوته عميقاً من شدّة الانفعال، حتّى إنّه بدا على وشك الاختناق.

قال توبياس: «كنت أعمل في غرفة المراقبة في مقرّ الشجاعة، وأراقب نظام الأمن. نحن لا نغيّر الرموز سوى مرّتين في السنة».

قال كاليب: «كم أنت محظوظ»، ونظر إلى توبياس بحذر.

قال توبياس: «لا علاقة للحظّ بذلك. عملت هناك لكي أخرج متى شئت».

ارتجفت. فقد تحدّث عن الخروج كما لو كنّا محاصَرين. في الواقع، لم أفكّر بالأمر على هذا النحو من قبل، وقد بدا لي ذلك جنونياً الآن.

مشينا في مجموعة صغيرة. حمل بيتر ذراعه الدامية على صدره، تلك الذراع التي أطلقتُ عليها النار، في حين وضع ماركوس يده على كتف بيتر، ليسنده. كان كاليب يمسح خدّيه من وقت إلى آخر، فأدركت أنّه يبكي لكنّني لم أعرف كيف أواسيه، أو لماذا لم أكن أبكي أنا أيضاً.

عوضاً عن ذلك، مشيت في المقدّمة، ومشى توبياس إلى جانبـي بصمت، ومع أنّه لم يلمسني، إلاّ أنّ وجوده أشعرني بالثبات.

***

كانت الأضواء البعيدة هي أوّل علامة على اقترابنا من مقرّ جماعة الوئام. ثمّ تحوّلت مربّعات الضوء إلى نوافذ متوهّجة. وظهرت مجموعة من المباني الخشبية والزجاجية.

قبل أن نتمكّن من بلوغها، علينا أن نمرّ ببستان. غرقت قدماي في التراب، بينما تشابكت الأغصان فوقي على شكل نفق. تدلّت من بين الأوراق فاكهة داكنة جاهزة للقطف. واختلطت رائحة التفّاح المهترئ، الحادّة والحلوة، بعطر الأرض الرطبة في أنفي.

عندما اقتربنا، ترك ماركوس بيتر، ومشى في المقدّمة. قال: {أنا أعرف الطريق}.

قادنا من أمام المبنى الأوّل إلى المبنى الثاني إلى اليسار. كانت كلّ الأبنية، باستثناء المشاتل، مصنوعة من الخشب الداكن نفسه، الخشن وغير المطلي. تناهت إلى مسمعي ضحكة من إحدى النوافذ المفتوحة. فبدا التنافر بينها وبين السكون الأصمّ في داخلي صارخاً.

فتح ماركوس أحد الأبواب. كان من الممكن لانعدام التدابير الأمنية أن يصدمني، لو لم نكن في مقرّ الوئام. فهم غالباً ما يخلطون بين الثقة والغباء.

لم نسمع في هذا المبنى سوى صرير أحذيتنا. حتّى بكاء كاليب هدأ، مع أنّه لم يكن مسموعاً قبل ذلك.

توقّف ماركوس عند غرفة مفتوحة، جلست فيها جوانا ريس، ممثّلة جماعة الوئام، تحدّق من إحدى النوافذ. عرفتها لأنّه من الصعب نسيان جوانا، سواء رأيتها مرّة أو آلاف المرّات. فقد امتدّت ندبة سميكة من أعلى عينها اليمنى إلى شفتها، بحيث أعمت إحدى عينيها وسبّبت لها لدغة وهي تتحدّث. ومع أنّني لم أسمعها تتكلّم سوى مرّة واحدة، لكنّني أتذكّر. لولا تلك الندبة، لكانت امرأة جميلة.

قالت عندما رأت ماركوس: {آه، الحمد لله}. اقتربت منه فاتحة ذراعيها. لكن عوضاً عن معانقته، اكتفت بلمس كتفيه، كما لو أنّها تذكّرت نفور جماعة نكران الذات من الاحتكاك الجسدي العارض.

قالت: {وصل أعضاء حزبك الآخرون إلى هنا منذ بضع ساعات، لكنّهم كانوا غير واثقين من نجاتك}. كانت تشير إلى مجموعة نكران الذات التي كانت مع أبـي وماركوس في المنـزل الآمن. حتّى إنّني لم أفكّر بالقلق عليهم.

نظرت من فوق كتف ماركوس إلى توبياس أوّلاً، ومن ثمّ إلى كاليب، وإليّ، وأخيرا إلى بيتر.

هتفت عندما وقع نظرها على قميص بيتر المخضّب بالدم: {آه، ربّاه. سأرسل بطلب طبيب. يمكنني منحكم الإذن بالمكوث هذه الليلة، لكن غداً، يجب أن يقرّر أعضاء الجماعة معاً، و}، نظرت إلينا أنا وتوبياس مضيفة: {لن يعجبهم على الأرجح وجود شجعان في مجمّعنا. بالطبع، أطلب منكم تسليم أيّ أسلحة تملكونها}.

تساءلت فجأة كيف عرفت أنّني من الشجاعة. فما زلت أرتدي قميص أبـي الرمادي.

في تلك اللحظة، تصاعدت رائحته، التي امتزجت فيها رائحة الصابون والعرق، وملأت أنفي، وملأت رأسي به. فشددت قبضتي بقوّة، بحيث غرزت أظفاري بجلدي. ليس هنا، ليس الآن.

سلّم توبياس سلاحه، لكن عندما مددت يدي إلى الخلف لأُخرج سلاحي المخبّأ، أمسك بيدي، وأبعدها عن ظهري. ثمّ شبك أصابعه بأصابعي، ليموّه حركته.

أعلم أنّه من الذكاء الاحتفاظ بأحد أسلحتنا، لكنّ تسليمه كان سيريحني.

{أنا جوانا ريس}. قالت ذلك وهي تمدّ يدها نحوي، ومن ثمّ نحو توبياس. هذه تحية الشجعان، وقد فاجأني اطّلاعها على عادات الجماعات الأخرى. أنسى دائماً مدى حرص الوئام على مراعاة مشاعر الآخرين، حتّى أرى ذلك بنفسي.

{هذا تـ-} بدأ ماركوس بتعريفها علينا، لكنّ توبياس قاطعه قائلاً: {اسمي فور، وهذه تريس، وكاليب، وبيتر}.

قبل يومين، لم يكن أحد سواي بين الشجعان يعرف اسم {توبياس}. فقد كان ذلك هو الجزء الذي كشفه لي عن نفسه. وأنا أعرف لماذا يخفي هذا الاسم عن العالم خارج مجمّع الشجاعة، فهو يربطه بماركوس.

نظرت جوانا إليّ، وارتسمت على وجهها ابتسامة عوجاء وهي ترحّب بنا قائلة: {أهلاً بكم في مجمّع الوئام. دعونا نهتمّ بكم}.

***

تركناهم يفعلون ذلك. أعطتني ممرّضة من الوئام مرهماً صنعته جماعة المعرفة يسرّع على الشفاء لأضعه على كتفي، ثمّ قادت بيتر إلى جناح الاستشفاء لعلاج ذراعه. اصطحبتنا جوانا إلى الكافيتريا، فوجدنا عدداً من أفراد نكران الذات الذين كانوا في المنـزل الآمن مع كاليب وأبـي. كانت سوزان هناك، وعدد من جيراننا القدامى، بينما امتدّت صفوف من الطاولات الخشبية على طول الغرفة. ألقوا علينا التحية، لا سيّما على ماركوس، بابتسامات باهتة ودموع محبوسة.

تمسّكت بذراع توبياس. فقد أحسست بوطأة أعضاء جماعتي القديمة، وحياتهم، ودموعهم.

وضع أحد أفراد نكران الذات كوباً يحتوي على سائل ساخن تحت أنفي وقال: {اشربـي هذا، سيساعدك على النوم كما ساعد آخرين، من دون أحلام}.

كان السائل وردياً داكناً، بلون الفراولة. فأمسكت بالكوب، وشربته بسرعة. شعرت لبضع ثوانٍ، أنّ حرارة السائل ملأت فراغي الداخلي. وبينما كنت أفرغ القطرات الأخيرة في فمي، أحسست بالاسترخاء. قادني أحدهم عبر أحد الأروقة، إلى غرفة تحتوي على سرير. وكان هذا كلّ شيء.

back to top