خلسة في كوبنهاﭽن

نشر في 31-01-2015 | 00:01
آخر تحديث 31-01-2015 | 00:01
No Image Caption
شهقت ثم دوّت صرختها لتمزّق سكون البيت. هرع حسام على صوت صرختها وتبعته صديقة ليجدها تحدّق بالتلفاز مذهولة. عيناها مفتوحتان على اتّساعهما وشفتاها تتمتمان كلمات غير مفهومة. أحرف متقطّعة تتشابك في ما بينها، ويداها تنتقلان إلى أعلى رأسها ثم تنزلان إلى صدرها، فبطنها.

تنظر إلى شاشة التلفاز، ثم حول نفسها، تتأكّد أنّها لا تحلم، وحين تلحظ حسام وصديقه اللذين دخلا غرفة المعيشة للتوّ، تؤشّر بسبّابتها أن ينظرا!

معقول؟ عمر؟ صرخت صديقة بصوت خفيض، ثم عادت وكرّرت اسم عمر أعلى فأعلى، فيما حسام يحدّق مذهولاً هو أيضاً.

صارت فاطمة تشدّ حفيدها إليها كمن يتعلّق بحافّة صلبة لينجو من السقوط. ثم تنظر ناحية صديقة بحنان وتوسّل لتؤكّد لها أنّها ليست وحدها من تراه. حنجرتها تتقلّص من وقع المفاجأة وتخنق الكلمات في مهدها.

عمر الابن المفقود منذ أكثر من عشر سنوات يظهر فجأة ومن غير سابق إنذار.

هو من تألّمت لأجله أضعاف ما تألّمت حين خطف الموت أولادها الأربعة واحداً تلو الآخر. كان يمكن لأيّ أمّ أن تفقد الأمل، لكنّها لا. لم تفعل. مع أنّها تمنّت لو يأتيها أيّ خبر. حتى لو كان خبر وفاته. مع أنّها تصوّرته في سجن ما. عربي أو إسرائيلي. يلقى التعذيب والإهانة. لا يطعمونه جيّداً، أو يضعونه في زنزانة انفراديّة يبوّل ويتريّض في مساحة ضيّقة. وحين تصل بها أفكارها إلى هذا تطلب من الله ألا يبقيه حيّاً.

لكنّه لم ينتمِ لأيّ حزب أو فصيل. يكره السلاح ولا يتقن استعماله. فكّرت مراراً. ثم فكّرت أنّ احتمال اعتقاله غير وارد. مع أن عثمان ابن جارتها في مخيّم برج البراجنة اعتقل في سجن المزّة السوري سنوات طويلة دونما سبب. هو الآخر كان شغوفاً بالعلم مثل عمر ولم ينتم لأيّ فصيل مسلّح. اعتُقل لأنّه فلسطيني فقط وحين أفرجوا عنه مات بعد ثلاثة أشهر من التهاب مزمن بالمثانة.

كان تفكيرها بعمر لا يتوقّف. تنام وتقوم وهي تفكّر به. يسكن وعيها ولا وعيها. تراه في أحلامها يحمل كتاباً ويقرأ لها كيف حرقوا غاليله لأنه قال بكرويّة الأرض. تسمع ولا يهمّها سواء كانت الأرض كرويّة أم مسطّحة. يحمل كتاباً آخر ويقرأ لها أشعار محمود درويش. تذكر آخر ما قرأه لها. كان  شيئاً عن الرحيل. تذكّرت.. {في الرحيل الكبير أحبّك أكثر}،  قالها ثم اقترب منها وضمّها إلى صدره، وفي اليوم التالي غادر. لا تعرف إلى أين. لكنّها ما تزال تتذكّر أنّه بعد رحيله كانوا يعدّون العدّة للانتقال إلى مخيّم أوزو بعد مجيء أصحاب البيت الذي كانوا يشغلونه مؤقّتاً في مخيّم شاتيلا. كانت تنتظر أن يساعدها في الانتقال، لكنّه لم يعد!

اليوم وبعد أن حاولت أن تتعايش مع غيابه الغامض، تراه يظهر أمام عينيها. يتحدّث لغة لا تفهمها. هي الانجليزيّة حتماً. لم تفهم كلمة ممّا قال.

وحين سألت حسام لم تنتبه للتكشيرة التي علت جبين حفيدها. ألحّت بالسؤال فتدخّلت صديقة وأخبرتها أنّ اسمه ليس عمر بل {آدم} وهو بروفيسور أميركي وعالم بالرياضيّات والفيزياء والفلسفة ويدرّس في الجامعة العبريّة في تل أبيب. أتى للمشاركة في مؤتمر علمي عن تأثير التغيير البيئي على بعض الأشحار والأزهار حين تزرع في غير أرضها. صديقة تتحدّث وتخبرها بعضاً ممّا فهمته، فيما جبين حسام يزداد عبوساً والحيرة تغمر وجهه رغم أمل باد في عينيه. كانت صديقة تفهم الإنجليزيّة بعد سنوات العيش بدبي، فقالت:

عم يحكي عن التين! بس مش فاهمة! معقول مش هوّي؟ بس هادا هويّ... مش ممكن يكون واحد تاني. هادا عمر! بحلف عولادي إنّو عمر. تردّد عمر، وهي تنظر إلى ابنها حسام ما بين متأكّدة ومستغربة. ثم تقترب من فاطمة وتمسك بيديها. تقبّلهما فيما دموعها تنهمر وتبلّلهما... دقائق وكان حسن وهشام يقفان وسط المشهد يحدّقان ببلاهة بالجدّة فاطمة وأمّهما صديقة وحسام الذي سارع وقال:

هادا عمّي عمر بتتذكّروه؟

التين؟ تساءلت فاطمة ولم تفهم. هل هي مصادفة أم تفسير لحملها الذي رأته البارحة؟ فكّرت وهي تستعيد تفاصيل حلمها العجيب حين أفاق سكّان كوبنهاﭽن على أكواز تين تتدلّى من الأشجار، وتكتحل بلون بنفسجي يقطّر سائلاً عسلياً شهياً. تين يتدلّى من جميع الأشجار. من أشجار السرو والسنديان والصنوبر والأرز وحتى من شجيرات الورود المنتشرة على جانبي الشارع المؤدّي لوسط المدينة الشمالي. بدت المدينة كأنّها تحتفل بعيد الميلاد، مع أنّ الوقت كان ربيعاً. عيد الميلاد لكنّه ميلاد لشيء جديد. لأعجوبة ربّما... هكذا تحادثت الناس. ظنّت فاطمة أنّ ثمّة معجزة تحدث، على غرار ما حدث حين أمطرت السماء على اليهود ثمار {المنّ والسلوى} كي يصدّقوا موسى، ولم يفعلوا. تدلّت أكواز التين من أشجار السرو والسنديان والأرز... ومن شجيرات الورود المنتشرة في الحدائق العامّة وعلى جوانب الطرق... وفي كلّ حيّ ودرب... وعلى أغصان عانقت الشرفات وحوافّ النوافذ...

كان الحلم قويًّا وساطعاً جعل فاطمة تظنّ أنّ شجيرتها الصغيرة لقّحت أرض المدينة فأثمرت كلّ أشجارها. ما تزال تذكر كيف سيطر على حلمها إحساس عميق أنّ ثمّة شيئاً كبيراً قادم. ثم أنصتت لروحها وهي تهمس «عمر»، كأنّه جرح راسخ في لاوعيها أيقظ شوقها إليه. كأنّما ثمّة ألم يعتلي مسرح هذا العالم الذي سلبها مجرّد أن تكون من تكون وما تريد أن تكون.

وهناك خارج نافذتها تدلّت من شجرة السنديان أكواز التين. تدافع الجميع وخرجوا إلى الشوارع لقطف الثمار الشهية وتبادل الهمس واللمس والأحداق تنفتح عن عيون تنتشي بالدهشة واللذة. يلتهمون الثمار بشهيّة أجّجت كلّ غرائزهم النائمة في البرد الذي غطّى المساحات بلونه الأبيض، منذ بضعة أيّام خلت.

رأت نفسها في غرفة المعيشة تتفرّج على شاشة التلفاز. كاميرات الأخبار صوّرت الحدث السعيد الذي لم تدم سعادته إلاّ بضع ساعات قليلة.

بعدها غمرت المدينة وناسها نوبة بكاء بدا كأنّه بكاء عتيق يسكن في الصدور منذ زمن يمتدّ إلى لحظة غامضة غير مدركة. قال مذيع النشرة الإخباريّة.

رأت كيف سالت الدموع غزيرة على الخدود. سالت هكذا... من غير سبب. كانت الدموع تنساب بصمت مثل نهر يكمل انسياباً بدأه منذ الأزل. رأت صديقة في منامها تبكي هي الأخرى، مع أنّها لم تأكل التين وتبادلت النظرات الرطبة مع فاطمة ومن غير أن تتحدّثا، تواطأتا على الفهم وتركتا للأمر أن يمضي في ضباب الغرابة والطرقات من غير تفسير. فاطمة بكت وهمست باسم ابنها واستيقظت على دموعها تنساب على خدّيها غزيرة وساخنة.

وهي على أيّ حال تبكي بسرعة ولأيّ سبب. فكّرت. واستعادت تفاصيل الحلم الذي رأته. انشرح صدرها بشكل غريب رغم الحلم الذي أيقظ الأحزان من غفوتها. كأنّما نور حلّ في قلبها، وتذكّرت صديقة التي كانت تذرف الدموع بمجرّد أن تجلس إلى نفسها. فاجأتها مراراً ومراراً ولكنّها كانت تسارع بالانسحاب وتدّعي أنّها لا ترى دموعها... لم تكن تقوى أن تسأل وتعرف...

العبور إلى أرض الغياب

صديقة أحسّت ببعض العزاء حين رأت شجيرة التين الصغيرة التي زرعتها فاطمة في الفناء الخلفي للحديقة... وبكت نفسها. بكت الغياب الذي ظلّ يلاحقها كالظلال الشاردة من أرض الغياب. ظلّ الغياب يطاردها هناك في لبنان ودبي وينقضّ على أيّ محاولة للتأقلم والحضور الحيّ هنا في يوميّات كوبنهاﭽن ولياليها.

وأمام الشجرة الصغيرة بكت أحمد، الحبّ الذي انكسر حين تفتّحت أزهار الغياب في جسدها الفتيّ باكراً.

بكت وليد كوعد بالحبّ انتظرته طويلاً فأتى ولكن ما لبث أن هجرها بعد أن حطّ عليها مثل شهب أضاء عتمة ليلها الطويل. رحل قبل أن يدركه بصرها ويتملّى بنوره ويمعن في التملّي.

بكت أحمد أكثر بعد أن تركته وحيداً مع موته، غريباً على قاب قوسين من أرض لم يستطع العبور إليها إلاّ ميتاً أو متسللاً.

أخبرها حسام حين زرعت شتلة التين أن الدانمارك تستورد التين من تركيا وإسبانيا. لم يفكر الدانمركيّون بزراعته يوماً، لأنّ كلفة زراعته ستفوق بكثير كلفة استيراده. ولأنّ المناخ لا يساعد أيضاً.

صديقة فهمت أنّ الشجرة لن تثمر حتى لو عاشت لتكبر رغم عناد فاطمة الساذج. فكّرت.

شعرت أنّ ثمّة تشابهاً بينها وببن هذه الشجرة اليتيمة حين هطلت في الحديقة منذ اليوم الأوّل لقدومها من دبي. نزلت وتأمّلت شجرة التين وامتدّت أصابعها تمسح قطرات الندى التي بلّلت أوراقها، ثم لمست شفتيها واختلج صدرها بالغياب. غياب ما زال يحملها من أرض إلى أرض حتى أدمنت الغياب. ولم تعد تعرف نفسها أو واثقة ممّن تكون.

لم يكن التين قد نبت بعد من شجرتها التي جلبتها فاطمة خصّيصاً لها كي تؤنسها في وحشتها. واظبت صديقة على زيارتها كلّ يوم كما لو أنّها تزور نفسها، أو تخرج إلى الحديقة كلّما استبدّت بها مشاعر الغياب لتهطل قرب الشجرة الصغيرة التي ظلّت مثلها عصيّة على التربة الغريبة.

لكنّ دموعها التي انهمرت على الثلوج وقرب جذع الشجرة تسرّبت إلى تراب الأرض. فكّرت صديقة أو أحبّت أن تعتقد أنّها ربّما تحدث معجزة إن ثابرت على التواصل معها كأطلال امرئ القيس، وكانت تفكّر بوليد. لا. بأحمد. لا. بالاثنين معاً وصار التذكّر جداراً تتسلّقه صديقة كلّ يوم كي تستعيد ذاتها أو تتذكّرها.

أيضاً فاطمة وحسام وحسن وهشام.

back to top