باعة الصداقة المتحولون!

نشر في 28-01-2015
آخر تحديث 28-01-2015 | 00:01
 طالب الرفاعي «محظوظ ذاك الذي يخرج من الدنيا بصديق»، لا يمكن أن أنسى عبارة ذاك الصديق، يرحمه الله، معلمي الأول. كنت في زيارته في شقته الصغيرة، وكان كعادته محاطاً بوحدته وكتبه وشيء من موسيقى هادئة. لكني ما أن دخلت عليه حتى نطقت نظرة عينيه بشيء من ألم أقرب للحزن. ولأنني أعرف صديقي بطبعه الكتوم، ذهبت أخدم نفسي بعمل كأس شاي لي، فجاءني صوته واهناً على غير عادته:

«أعدَّ كأس شايٍ لي.»

ابتسمتُ في سري، فأنا أعشق خدمة معلمي، لكنه يعفّ عن طلب أي شيء، ويصرّ عليَّ بأن أكون مخدوماً ما دمت في بيته وضيافته.

عدت إليه حاملاً كأسيّ الشاي. ولأن وجه صديقي يشفّ عن ألمه كما روحه، بادرته بالسؤال عن سبب ضيقه. وكعادته ظل لثوانٍ في صمت، قبل أن يقول: «الموت فقد أكبر، ويليه فقد الصديق»!

بقيت صامتاً أرتشف الشاي الحار، أنتظره يكشف عن وجعه، لكنه عاد يلوذ بسكوته، ولأنه يدرك حرصي عليه، التفت إليَّ قائلاً: «فقدت اليوم صديق عمري، فقدته في انقشاع ضباب الحياة، وليس زحمة الموت».

بقيت نظراتي معلقة به: «لست حزيناً لأنني كنت مغشوشاً به، لكن روحي حزينة، لأنها آمنت له كصديق، ومعه سارت في الدرب».

سكت معلمي، ليضيف بعد برهة: «لن أقول لك أكثر».

ولأنني أعرفه بطبعه وأحترم خصوصيته، لم أزد بكلمة.

احتسينا الشاي معاً في مأتم فقد شيء من الصداقة. تكلمنا كعادتنا عن مواضيع كثيرة. حدثني عن رواية لا أذكرها الآن، لكنه ربط بين أحداثها وما مرَّ به بيومه. وتحسّر ناظراً في وجهي، وزفر جملته:

«إن استطعت بيع صديق عمرك، بجائزة كبيرة تُعطى لك، أو مكانة تُسعد بها لوقت عابر، أو مكافأة بائسة، أو تقرّب من مسؤول، فأنت تبيع جزءاً من صفاء روحك».

لمع شيء لا أعرف ما هو في نظرته العميقة، همس بي:

«لا أعشق الألم، لكن بعض الفقدِ كسبٌ».

انتبهت أن الموسيقى قد توقفت، وأن كأسيّ الشاي قد فرِغا، وحين هممت بالقيام أشار لي: «لنحتسي الحكاية».

طربت روحي لعزمه الحديث، فمعلمي مغرمٌ بمعاشرة صمته، وقلما يبوح:

«لي صديق مشيت معه درب العمر، وكنت أمدُّ له يد قلبي حين يتعثر، وأكفكف دمعه. صديق سار بنا الدرب معاً وسرنا به.. وكم تباهت روحي بصداقته، وكم راهنت روحي على أن الموت وحده سيغيّب أحدنا عن الآخر. لكن الرهان خسر. فلقد تفاجأت اليوم بأنه باع صداقتي مقابل هدية، ضحى بعشرة عمرٍ مقابل جائزة، صفَّ مع الآخر لا لشيء إلا لكسب زائل، وباعني كأرخص ما يكون».

لبس وجه صاحبي حزناً مخيفاً: «ليت الأمر وقف عند ذلك، بل إنه ادعى أنه عمل ما عمل حرصاً عليَّ».

لاحت ابتسامة مرة على وجه معلمي، أضاف في ما يشبه وجعاً:

«تركته في غيّه، لكنني كنت ألحظ وأنا إلى جانبه أن شيئاً سقط عنه. يسقط عن أحدنا شيءٌ من روحه متى كذب على صديقه».

بلل الأسى حسّ صاحبي: «بنيل جائزة كبيرة باعني صاحبي، وبجائزة كشف حقيقته فاز قلبي».

فجأة سكت صاحبي. لبس دثار صمته. تحدثت معه حول الموضوع، وبقى يومئ إليَّ موافقاً أحياناً ورافضاً أحياناً أخرى. وحين نهضت إلى المطبخ، سألته إن كان يرغب بشيء فظل صامتاً.

فهمت أنه لن يزد بكلمة. غسلت كأسيّ الشاي، ووضعتهما في مكانهما. وأحضرت لي كأس ماء، وكأس ماء له. لكني وجدته قد أدار موسيقى جديدة، وغطس في بحر كتابه.

حياني واقفاً: «آسف أثقلت عليك».

قبّلت جبينه، وودعتني جملته: «جائزتي أكبر بأصدقاء أحب».

back to top