«كيف تصبحُ غبياً»

نشر في 27-01-2015
آخر تحديث 27-01-2015 | 00:01
 د. نجمة إدريس طالعَنا منذ شهر تقريباً مقالٌ مؤثّر للزميل أحمد الصراف في صفحة "القبس" الأخيرة، يعلن خلاله يأسه المطلق من قدرة الكتابة الصحافية في بلادنا على تغيير الواقع بكل صوره الناقصة والمشوّهة والسائرة ضد منفعة الإنسان أو رقيه. ويقول إنه وبعد عشرين عاماً من الكتابة في الشأن المحلي وفي متابعة العيوب والأخطاء والإشارة إلى أدوائها وحلولها بقلب الحريص وجهد الناصح، بات يشعر أخيراً بأنه كان يحرث في البحر.

وبعيداً عن محاولة تحليل خلفيات المجتمع الثقافية والنفسية، وكونه مجتمعاً استمرأ "الحقران الذي يقطّع المصران"، أو أصابته البلادة نتيجة تراكم الخيبات في إدارة شؤون البلاد والعباد، فوجد في اللامبالاة منجاة ومهرباً، نقول نعم ليس للكتابة تأثير يُذكر بين ظهرانينا، أو هكذا يبدو الحال.

وكان الزميل في مطلع مقاله يقارن بين صحافة العالم الحيّ، وقدرتها على إحداث التغيير والتنوير، وصحافتنا التي تبدو مجرد هذر ولغو وسد لفراغات الأعمدة، دون قدرة على زحزحة حال البلادة واللامبالاة في أجهزة الدولة ومؤسساتها. وفي هذا المقام أذكر مثالاً معاكساً لأحوالنا المتبلّدة، حين كتبتُ منذ سنوات قليلة مقالاً أشتكي فيه من التسويف والتلكؤ الذي يستشعره المواطن حين يتوجه إلى السفارة الفرنسية لاستخراج فيزا، حتى لو كان السفر استجابة لدعوة من مؤسسة ثقافية! ولم يمرّ على نشر المقال ساعات قليلة إلا وأنا أتلقى اتصالاً من السفارة الفرنسية تحدد معي موعداً لمقابلة السفير بشخصه للتباحث حول الأمر. وأمثلة استجابة السفارات الأجنبية لمقال أو تنويه في أي من صحفنا المحلية –مهما قلّ شأنه- أمر معروف ومتداول، ولعله يصور لنا وجهاً من وجوه المبالاة والجدية لدى العالم الحيّ في التعامل مع شؤون وشجون الحياة، وقبل ذلك احترام كينونة الإنسان واستهداف منفعته وتطوّره قبل كل شيء.

أمرٌ آخر لفتني في مقال الزميل، وهو تصويره لمدى ما يعانيه الإنسان الذي ابتلاه الله بحسّ اليقظة المفرطة من همّ وكرْب. فهو إزاء الخطأ والنقص وتشوهات الحياة المعيشة في تعاسة وشقاء لا ينتهي، لكأنه الضمير الموكل بإصلاح العالم، والعالم قد خُلق ناقصاً في الأصل. هذه الحالة التي غالباً ما يعانيها "الحريص/ الذكي" ذكّرتني برواية "كيف أصبحتُ غبياً" لمارتن باج، التي كانت تسخر بمرارة من يقظة الضمير والتلمّس لمواضع النقص والظلم لدى بطل الرواية (أنطوان)، في مجتمع يفوح بالتلوث والفساد والوصولية والإثراء غير المشروع. وكان أنطوان يستشعر مدى ما وصل له من تعاسة وشقاء مقيم، بسبب اشتعال الذهن على مدار الساعة بهذه الهموم المتراكمة التي لا تنتهي إلى حلّ.

وفي محاولة للتخلص من هذا الذهن المتيقظ، يحاول أنطوان في البدء أن يدمن على الكحول لعله ينسى، لكن جسده لم يكن مؤهلاً لذلك، فيصاب بتسمم الكحول ويُنقل مريضاً ويائساً إلى المستشفى. المحاولة الثانية تبلورت في أن يتعلم كيفية الإقدام على الانتحار بطريقة حرفية وناجحة، فانضم إلى دورة تعليمية تساعد العازمين على إنهاء حياتهم على تنفيذ ذلك بأكثر الطرق نجاحاً. لكنه يغادر المحاضرة دون اقتناع، وبعد ذلك يلجأ إلى استشارة طبيب ليعينه على إيقاف ذهنه عن الاشتغال بهموم وسطه وبيئته الاجتماعية لعله يتذوق طعم الراحة، فيقترح عليه تناول نوع من الأقراص الدوائية التي عادة ما يصفها الاختصاصي النفسي لمن يعانون القلق والاكتئاب، وأقنعه بأن تلك الأقراص ستنقله إلى عالم وردي خالٍ من المنغصات ومن كل ما يؤذي الضمير والنفس الحساسة.

وتحت تأثير الدواء تنفرج أمام أنطوان مشاهد الحياة وتخف أحمالها، بل تقوده تلك الحال من الخفة إلى الانغماس في عالم المال والثراء والكسب السريع المبطن بالاحتيال، فيطفو فوق أمواج هذا العالم وهو شبه نائم أو منسلخ عن ذاته القديمة. ولكن سرعان ما تذهب السكرة وتأتي الفكرة، فيعود من جديد إلى الوعي وإلى الذات القديمة، ثم تنتهي الرواية بفصل أخير يعبر عن أمنية متجذرة في نفس أنطوان، وهي أن يتحول إلى شبح يهيم في الآفاق، ويشخص في كل نواقص العيش وهمومه من علو ومن مسافة فاصلة تمنعه أن يكون واحداً من الناس أو شبيهاً بهم.

ذكرتني هذه الرواية الأشبه بالكوميديا السوداء ببيت الشاعر القديم:

ما أطيبَ العيشَ لو أنّ الفتى حجرٌ تنبو الحوادث عنه وهو ملمومُ

ومنا إلى الزميل أحمد الصراف، لعله يجد عزاءً في هذا التعبير الذي قاله شاعر يبدو أنه مات من اليقظة!

back to top