تحت جسر الهولندي

نشر في 20-12-2014 | 00:01
آخر تحديث 20-12-2014 | 00:01
No Image Caption
حتى تُنهي عبورك جسر الهولندي، وأنت تشق طريقك مبتعداً عن مدينة (الناصرية) نحو الشمال، يتحتم عليك أن تلتفت يساراً، وترمي بنظرةٍ نافذةٍ، متمعنةٍ، ومستغرقةٍ أيضاً، مع امتداد مجرى النهر والأرض المجدبة، المحاذية لضفتيه. وبالتأكيد من دون هذه النظرة سيلوح الأمر وكأنك لم تعبر جسر الهولندي على الإطلاق.

إذا صادف عبورك هذا أوقات الأصيل، فما من ريب أن نظرتك تلك ستفيض بوحشة غامرة تتسرب، مثل جيشٍ من النمل الزاحف، لتحتل كيانك فجأةً.

على طول مجرى النهر القادم من الأفق الغربـي تتراكم طبقات من تراب بني داكن.. تراب مسحون خالٍ من أي أثرٍ للحياة. ما أن ترمي بنظرتك نحوه حتى يغالبك الإحساس بأنه عالم بلا تضاريس، بحر صاف من الرمال، يرسم منظراً واحداً لا يتغير، يبدأ من الجسر حتى يلامس الأفق، يوحي إليك بأن النهر هذا تسلّل من الصحراء، مثل بدوي، حمل الشمس على هامته، وفي ثيابه تصفق الريح..

ومهما أطلت النظر إلى ذلك البر الأجرد ستعجز عن اكتشاف أي شيء.

كأن الصمت فيه ينـزل من السماء ويحبس الأنفاس.. صمت جارح ومهيب، يجثم فوق صدر الأرض ولا يتزحزح، حتى لتخال أنه سرٌّ من الأسرار.

ما أن تهبط الجسر، وتمسي في مواجهة الأفق الغربـي، تشعر على الفور وكأنك تقف في معبدٍ هائلٍ، مكشوفٍ، أمام آلهةٍ مبجلة.. صمت يحرك فيك الرغبة لأن تطلق في وجهه صرخةً مدوية، لتعرف أخيالٌ هو أم حقيقةٌ.

الشمس وحيدة، تائهة في الأفق، سابحةٌ في هالةٍ من ذهب، تسيل فوق النهر وتلون المياه الجارية بلون خمري لذيذ. في نهاية المطاف تبدو اللوحة الشقراء، الصامتة، غاية في الكآبة، وتسكب أحاسيس هروب مدرارة في العيون. إنها لوحة لا تدوم طويلاً، فسرعان ما يندفع الظلام من قلب الأفق ليحكم المكان برمته...

إن جسر الهولندي بحد ذاته تراه العين كئيباً من بعيد، في هذا الوقت بالتحديد، يبدو وكأنه نعش ممدّد عبر النهر، يعبر من فوقه الزمن متوجساً، حذراً!..

عندما تمسي بعيداً عن الجسر، فإن ما يتبقى من انطباع عالقٍ في أعماقك عن ذلك المشهد هو الإحساس بأنه مفعم بالانتظار الطويل الذي لا يتململ.. انتظار بالغ النقاء يمكنه أن يسحر أقل الناس افتقاراً للحساسية.. انتظار مفزع لا يُحتَمل.

تحت الجسر، عند الغسق، يجلس الرجل الغريب وحيداً، مقرفصاً على الضفة الشمالية للنهر. ممسكاً بطرف خيط سنّارته، التي تغوص في الماء، وإلى جانبه يتراقص ظلّه القاتم على صفحة النهر. يبدو مثل شبحٍ مهجورٍ، تسلّل في غموضٍ إلى هذا المكان من المجهول.

لم يكن الرجل ليشعر بالوحدة والعزلة وحسب، بل كان، في هذا المكان المتفرد، تجسيداً لكليهما معاً. ومن يصوّب نظره إليه، من فوق الجسر، يشعر باجتياح ألم الوحدة وبرودة العزلة لكيانه اجتياحاً يقشعر له بدنه.

يرتدي الرجل ثوباً أزرق فضفاضاً، وسترة داكنة تبدو غامضة الألوان عن بعدٍ، لا يمكن تمييزها على وجه التقريب عن لون ثوبه الغامق. فيما تلتف حول رأسه كوفية كحلية. وما أن يشيع الظلام حتى تحيل تلك الكوفية ثوب الفضاء الرحب كحلياً هو الآخر أيضا.. الهواء كحلياً، والنهر كحلياً، وحتى الأفكار السانحة، التي تتدفق مع دفق المياه، تمسي كحليةً تتقلب في ذلك اليباب مثلما تتقلّب الحيوانات البرية..

يجلس الرجل، وعيناه منكّستان في أعماق المياه، مستغرقاً في خيالاته، وضائعاً في غمار تأملاته. لا أحد يقتحم عليه خلوته، ولا أنيس يحوم قربه، نائياً وكأنه جزءٌ من هذا المنظر الغروبـي الموحش..

كان النهر والمساء يجريان، وكان الرجل راكداً حتى الأعماق.

أحياناً يخترق سمعه صوتٌ جارحٌ، شديد الحرارة، من أصوات الأبواق. يرفع أنظاره عالياً يرنو بدقةٍ إلى الطريق، ولكنه سرعان ما يعود بها إلى النهر. ذلك الطريق يلوح نائياً لا يقود أحداً إلى عالمه.

إن هذا الرجل المعتزل، الذي يجهله من يعبرون الجسر طيلة اليوم، لم يكن في حقيقة الأمر سوى امرأة!

إن الناس بمجموعهم ينظرون إليه ولا يجدون فيه سوى رجلاً.. رجلاً بمعنى ما من معاني الرجولة، وإن كان بعضهم يبخسونه، ويحطّون من قدره، فيدّعون أنه رجل مخنث، ناعم كالحريم، لا تنبت له لحية ولا يطرّ له شارب، ضمرت فيه لمحات الفحولة وباتت قسماته وأديم جسده أقرب إلى الأنوثة الفاضحة.

بالنسبة لي ولصديقي (مالك)، لم نكن لندعوه باسمه (مجيد)، كما تعارف الجميع عليه. بل كنا نؤنث هذا الاسم ونطلق عليه اسم (إمْجَيْدَة). في الحقيقة لم نطلق عليه اسم (مجيدة) مؤنث (مجيد)، مثلما نعلم، كلا إن مدينتنا الجنوبية الصغيرة لا تعرف أنثى يمكن أن تُسمى على غرار هذا الاسم، ولم نسمع في حياتنا على الإطلاق بمن تجرّأت أن تكون (مجيدة)..

في الواقع كنا نؤنثها باسم (إمْجَيْدَة)، بالهمزة المكسورة كسراً بالغاً، والميم الساكنة، والجيم المفتوحة نحو السماء، التي تمنح الاسم، بسخاءٍ، لوناً أزرقَ، والياء الساكنة، والدال المفتوحة كالنحر المكشوف، وتاء التأنيث المدورة.. التاء التي تحيّر العقول وتخلب الألباب.. تاء تحيطك بنيران اللوعة والهيام.. التاء المقفلة التي لا يتهيأ لأحدٍ أن يقتحمها إلا بعد دمار. هل يدرك أحدٌ، أيضاً، أي حنانٍ جارف يكمن في الهمزة المكسورة؟..

لم نعمد إلى هذا الاسم الجديد ازدراءً ولا استخفافاً، ولم نتلفظه بحس فكاهي، بل أترعنا حروفه بالدلال والغنج الأنثوي ونحن نطلقه من قوقعة الافتتان المثير. حاولْ أن تهمس هذا الاسم همساً خفيضاً، فعلى الأثر سوف تحس بأن شيئاً خفياً فيه يثير مكامن غرائزك!..

لم يتسنَ لي أن أدرك كيف حلّت في الحي الذي نسكنه، ومتى جاءت إليه، ولا حتى من أين أتت. على حين غفلةٍ بدأنا نعتاد على رؤية وجهها كل يوم، وهي تؤوب من العمل، بملابس عمّال البناء، المعفّرة بالغبار، والمرقّطة ببقايا الإسمنت والملاط الأبيض.

يوماً تلو آخر رحنا نألف وجهها الملفت للأنظار، ذلك الوجه الذي تظلّله كوفيتها، ولا ينكشف منه إلا الشيء القليل.

تلوح أذناها الصغيرتان، المرهفتان، مثل ورقتين مُشعّتين من أوراق الورد، لونهما زهري ذائب، يتقطّر على جانبـي جيدها ويسيل تحت القميص، وشحمتاهما الفقيرتان تتشهيان عنقودين صغيرين من الذهب الإبريز، يرقصان تحتهما في ظلال الخدين.

فمها دقيقٌ ومزمومٌ على الدوام، ولكن الشفة السفلى مرتوية، نضرة، تنادي على النحل من بعيد. في بعض الأحيان ترطبها بلسانها وتجعلها تلمع مثل العقيق اليماني الأحمر. إن مسحة الرضاب الرقيقة تلك كافية لجعل كل شيء من حولها يترنح مخموراً.

أما ذقنها المستدق فإنه يشبه ذقون الفتيات الصغيرات اللواتي يجلسن عادةً مستحيات، في أحضان بعضهن بعضاً، وهنّ يتهامسن بتلك الذقون الشمعية، التي تعكس الأضواء، همساً خفياً، لا تسمع منه شيئاً، وإن يمكن رؤية لونه الوردي، البارد، وهو يومض مع كل إيماءة ذقن.

من قبل، كنت قد لمحت (مجيد) بضع مرّاتٍ، هنا أو هناك، من دون أن أتنبه له. أو يجذب اهتمامي في شيء. ولكنني زرت صديقي (مالك) ذات يوم لأجده عاكفاً على ترميم بيته، ومشغولاً مع مجموعة كبيرة من عمّال البناء..

قادني من يدي، وأوقفني أمام أحد العمّال مباشرةً، وقال لي:

“هاك أنظرْ، هل ثمة فتاةٍ في كل أنحاء المدينة تمتلك مثل هذا الوجه؟..”.

حينما التفتُّ إلى الرجل الذي أشار نحوه (مالك)، لم يتيسر لي رؤية وجهه جلياً، في بادئ الأمر. كان الرجل يعمل وهو منكفئ على كومٍ كبيرٍ من خليط الأسمنت، ورأيت حاجبيه الأنثويين فقط..

كان حاجباه خيطين من خيوط الحرير الأسود. عندما وقعت أنظاري عليهما لم أعد أشعر بما كان يتحدث به صديقي. سرحت أفكاري بعيداً، فقد سبق لي أن رأيت مثلهما من قبل، نعم.. سبق لي أن رأيت رموزاً وعلاماتٍ سحرية، في كتابٍ مدهشٍ عن السحر الأنثوي القديم، تشبه تمام الشبه هذين الحاجبين، فأيقنت لفوري أن في هذا الوجه مسٌ من ذلك السحر العجيب..

رفع الرجل رأسه، وتسنى لي رؤيته من الجانب الآخر، وكان خدّه منديلاً من قماش الملائكة، يمكنه أن يمسح التعب عن وجه الإنسان إلى الأبد..

“شكراً..”.

سمعته يقولها لأحدهم في همسٍ عذبٍ، كانت ندية وكأنها مغموسة بذلك الرضاب العذب.

حدّقت في وجهه، وساورني إحساسٌ بأنه إنسان كسير الفؤاد، يذلّه الشعور الدائم بالإخفاق.

في غمرة الأشغال كان يسمح لنفسه في التحليق بأفكاره، بعض الأحيان، ولكنه يظل شبيهاً بربّ العمل في صمته، وهمته الدؤوبة.

أراه وأسمعه يتحدث إلى عاملٍ ثانٍ، يبتسم له، ابتسامة تشق طريقاً وعراً، بائساً، وتطفو فوق شفتيه كالشمس البازغة من بين غيوم..

أمعنت النظر إليه وحرت جواباً.

back to top