برتقال مرّ

نشر في 20-12-2014 | 00:01
آخر تحديث 20-12-2014 | 00:01
No Image Caption
الظلمة ليست قاتمة. ستارة رماديّة.

يمكنني رؤية خيالاتهنّ، النسوة اللواتي رحن يجمعن عظامي من بين شقوق الأرض بأصابع سمينة ومقشّبة، كتلك التي يجمعن بها حبّات الزيتون من بين الشوك والحصى.

سمعتُ عظامي تتكسّر فوق التراب الجافّ والمتفسّخ، وجدّتي تصرخ مذعورة: «ماتت البنية ماتت».

وطبعاً أتت تلك الموسيقى.

تلك التي لا أعرف وصفها. التي أدندنها حتى في أكثر لحظاتي بؤساً. التي سترافقني دائماً من خلف جدار لا أراه، ولكنّي أتّكئ عليه. لأنّها على الأرجح موسيقى لا أسمعها، ولكنّي أتخيّلها عائمة حولي تحيطني كهالة، تصوّب نغماتها الحزينة نحو ظهري الذي يعيش ويلتصق بصدري رهبةً منها، ويوقظني من كابوسي.

أستيقظ، لكنّ لا أفتح عينيّ.

أحبّ تأمّل ظلام جفنيّ المطبقين.

أحبّ تخيّل أنّ الظلام استمرّ ولم أفتح عينيّ قطّ... وأنّ ما حدث لاحقاً هو محض كابوس في ظلمة قبر فتاة مدوّن على شاهدة التاريخ: 1970- 1975.

كان يمكن أن تنتهي الحكاية باكراً، وأموت خفيفة وبريئة. لو أنّ الأرض لم تكن مشبعةً بأمطار اليوم السابق، لو أنّ التي كانت تتجّه نحوي كانت «عيشة» كما ظننتُ، ولم تكن جدّتي خارجةً لتنتزعني من الموت، وتمسح الوحل بتنّورتها سامحةً للهواء بالدخول من أنفي. ولو أنّ جارتنا لم تقصد طالب الطبّ الوحيد في الحيّ، ليسعفني ويرتق مزق رقبتي. لو أنّ رائحة بنج أصابعه وبقايا عطر رجوليّ لم تستقرّ بين قطب الجرح.. وتبقى إلى اليوم.

***

قلّة يعرفون أنّ في رقبتي ندبة. عليّ أن أرفع رأسي وشعري كي تظهر بوضوح. حين أخرج من البيت أتعمّد إخفاءها، ليس خجلاً بها فقط، بل استياءً من استعادة حكايتها.

تعرفها نسوة الحيّ وبعض الأقارب، وذلك أنّي أهتمّ كثيراً بإخفاء شعري تحت المنديل المنزلي المزركش، لأجل النظافة وكرهاً في رؤية الشعر متناثراً في البيت، والمطبخ تحديداً، حيث كنت أشعر بعبء شعري فوق وجهي ورقبتي، لذا كنتُ أرفع رأسي وأحزم شعري تحت المنديل مراراً، فيرى المقرّبون نُدبتي التي تُشبه أثر أفعى بعيدة فوق الرمال.

«من شو؟ وقعة؟ أو ضربة منجل؟» يسألونني.

كنتُ أحكي بإسهاب، ثم صرتُ أتألّم من التفاصيل، ويؤلمني أكثر ما لا أقوله، إخفاء شغفي بمن خاط الندبة ولامس ما هو أعمق من جرحٍ سطحيّ.

لاحقاً، صرتُ أقول بإيجاز، كأنّ القصّة بسيطة فعلاً: كنتُ أمسك عصفوراً عند حافّة الشرفة، طار العصفور فلحقتُ به، ووقعت.. فقط.

بطريقة ما، كان هذا ما حدث حين كنتُ صغيرةً بما يكفي لتشفق عليّ الملائكة، وتزرع لي جناحين.

كنتُ أمسكُ العصفور بيد، وبالأخرى أحاول ربط قائمته بخيط.

لذنتُ بأقصى الشرفة المتهالكة وأنا أشعر بخطوِ عيشة يقترب.

ستسلبني أياه! ستخنقه!

حاولتُ ربطه بسرعة، لكنّ الخطوات اقتربت، فارتعش قلبي كعصفوري، ولم تعرف السماء أيّنا كان الأكثر خوفاً وضعفاً، وأيّنا الأكثر توقاً إلى الفرار.

عيشة تلاحقني، ستخنقه كما خنقت جميع عصافيري...

العصافير التي يجلبها أبي حيّة، وأجدها نافقة في الصباح التالي.

زعق ونفض جناحيه في وجهي. أوجعني فأفلتّه.

أردتُ اللحاق به، كان الخيط في يدي، لكنّني لم أكن عند حافّة الشرفة.

صرتُ في الهواء. عمتُ فيه زمناً لا أقدّره، لأنّني شُغلت بالبحث عن عصفوري.

عمتُ في الهواء وشممتُ رائحة البحر البعيد، التي اختلطت بروائح وحل الساقية وبراز الدجاج والقرفة المنبعثة من مطبخ قريب.

نفخ الهواء في فستاني الكتّاني فصار كالبالون. لم أتذكّر كيف أتنفّس. ملأ الهواء الثقيل صدري وأنفي وفمي.

حين ارتطمتُ بالأرض بحثت في السماء عن عصفوري، لكنّ لم أره.

لم أرَ السماء أو الغيوم، فقط وجه جدّتي التي أطلّت من فوق حديد الشرفة، ونادتني بسرعة البرق. أومض اسمي واختفى. حرفان. عدد يساوي صفراً في عالم الأسماء. كأنّني من دون اسم. ولن يحدث فرقٌ إذا متّ.

«ماتت البنيّة.. ماتت».

لم أكن أعرف ما الموت! لم أسمع إلاّ عن غيلان وذئاب تموت في حكايات جدّتي- التي لن تحكي لاحقاً حكايات أخوالي المُجهضين- لذلك لم أخف وأنا أسقط، وجدّتي تولول.

حتى بعد هدم سور الشرفة الحديدي الصدئ وبناء سور أمتن، وحين صارت تعرف  بـ«برندة» وليست «ترسينة»، بقيتُ أقف في الموقع نفسه، أحاول قياس المسافة وزمن شالسقوط.

أرمي ثمرة نارنج أو «كلّة»، وأحسب زمن وقوعها، فأعرف أنّه قليل جدّاً، ثوانٍ قليلة. لكنّي أستبعد الحسابات لتيقّني أنّ لحظة وقوعي طالت زمناً، سمعت خلاله أغاني تغصّ بالدموع، وشممت روائح  غير منسجمة، ورأيت وجوهاً بينها وجه جدّتي  ووجه طالب الطبّ الشابّ الذي أسعفني.

شو اسمك؟

..

قدّيش عمرك؟

..

طب قدّيش هودي؟

وجّه شيئاً نحو عينيّ لكنّ لم أره. كانت حواسي معطّلة، لم تبقَ إلاّ أقواها: الشمّ.

لم أردّ على الأسئلة. لم أتذكّر سوى عصفوري.

حاولتُ أن أصرخ فلم أقدر. أردتُ أن أبكي لكنّي لم أشعر بعينيّ. شعرتُ بأنّني  ربّما ما زلتُ أهوي، في تلك المساحة بين الشرفة والساقية، وبأنني في طريقي الآن إلى الوادي والساقية التي تحفر بطنه، وربّما لن تكون التربة رخوة هذه المرّة، ويكون المطر قد هجرها منذ شتاء بعيد.

***

تتجمّع نقاط العرق الزاحفة من خلف أذني اليسرى في شقّ الندبة المتماوج.

ظهيرة مؤلمة! عبثاً أحاول النوم. الوقت في هذه المدينة أطول من الوقت في قريتي.

عليّ أن أنام جيّداً. هكذا نصحتني سهى، مقلّمة الأظافر، كي ترتاح بشرتي ليوم الحفلة.

لم أخبرها أنّها ليست حفلة، خفتُ أن تكشف أمري إن نطقتُ. السخرية من لهجتي علّمتني الصمت وليس الهدوء. بدليل أنّ سهى طلبت منّي الاسترخاء بين دقيقة وأخرى. استحيتُ أن أخبرها أنّها المرّة الأولى التي أنظّف فيها أظافري في صالون تجميل، وأترك شخصاً يدعك قدميّ ويحفّهما ويمرّر أصابعه بين أصابعي!

“بليز ريلاكس... ريلاكس”، توسّلت إليّ، ولم أفهم كيف يمكنني أن أسترخي.

أردتُ الاعتذار عن مظهر أصابعي التي لم تعتد الدلال والاهتمام، وإخبارها أنّني منذ طفولتي أرهقها في أعمال الطبخ والحقول. لكنّي استحيتُ أيضاً من تبرير نفسي. ثم فكّرت في أن أعتذر عن حيائي... كانت دوّامة متّصلة، اشعرتني بصداع الظهيرة المعتاد.

أتجوّل في المطبخ كي أحفظه جيّداً.

أتناول حبّة مسكّن ثالثة.

الثلاجة تكاد تنفجر. أفسح للحمّص المبلول مكاناَ قرب الدجاج المنقوع في تتبيلة إكليل الجبل والثوم والصعتر الأخضر. لا يمكن المخاطرة بترك أيّ شيء حيث الحرارة تتجاوز 35 درجة مئويّة. الخضراوات واللحوم وكلّ ما أحضرته محشور في الثلاّجة.

يجب أن تكون المأدبة ناجحة. إن أغفلت أيّ تفصيل سأهلك.

ألمس الندبة.

لا تزال مكانها. لم تغمرها كثبان الأرق.

أشعر بأنّها تورّمت من الحرّ والحماسة.

يثير حماستي أنّني انتقلت إلى بيروت لأجلك، وأنّك لا تعرف بوجودي وبخطّتي، وأنّني سأقابلك بعد سنوات طويلة من انتظار هذا اللقاء. ينهش الشوق والخوف قلبي، فيتعاظم تعبي، وتنبض الندبة بألمٍ مضاعف.

أندسّ تحت الدوش للمرّة الثانية. تأتي مياهه من السطح ساخنة، ولا يعود لها الأثر المرتجى. أُغلق صنبور المياه، وأبقى جالسةً في “البانيو” المشقّق، أراقبُ آخر نقاط الماء تغادره إلى المصرف. تسقط في الظلام كما أسقط كلّما نمتُ على قلق. أترك شعري يجفّ ويبرّد تبخّر مياهه ظهري. أمسكُ خصلاته وأسائل نفسي كيف ستبدو في الغد، حين أعودُ من عند الكوافير؟

ثقيلةٌ الخصل المبلّلة، ثقيلةٌ بالذكريات والخوف.

***

كنتُ في الخامسة، لا أذهب إلى المدرسة، لأنّها لم تنتبه لعمري، لم يكن عليّ تمشيط شعري في الصباح، ولكن، في وقت ما من اليوم، كانت تناديني وتجلسني تحت هامتها لتمشّطني.

طمرتُ في التراب المشط الذي تغطّه في المياه قبل أن تغرسه في شعري. طمرتُ الكثير من الأمشاط، فوضعتني بين ركبتيها القويّتين كحجري صوّان، وأمسكت الخصل الغزيرة المتشابكة، وراحت تقصّها من فوق فروة الرأس مباشرة، حتى شعرتُ ببرودة معدن المقصّ يحرث شعري.

«... بيكفّيش بتضلّي ساخنة! يا ممروضة! كمان شعراتك جايين عبايا وخشنين ليعزّبوني. كلّ شي فيكي قاهرني!! بس خلص، إسه بتشوفي، راح ارتاح من كبّاشك بالمرّة، فرجيني وين راح تخبّي المشط».

تجمّع الجيران على صراخي، تتقدّمهم زوجة عمّي، نبيهة.

بدت الصدمة على وجوههم. طفلة بحلاقة سجناء ووجه مجرمين تلهث نحو أوّل منقذ.

غير ندبة رقبتي بانت نُدب رأسي من مشاغبات سنوات طفولتي الخمس، وبدا حاجباي أكثر كثافة. أخذتني زوجة عمّي إلى أقرب حلاّق رجّالي، لينقذ ما يستطيع إنقاذه. لم تكن لنساء القرية صالونات حلاقة حينها.

تهكّم الحلاّق عليّ وعلى عيشة، وسبّها. أجلسني قبالة مرآة صدئة. أغمضت عينيّ كي لا أرى كيف تحوّلت إلى كائن مخيف. لكنّ بقيت أرى نقاط الصدأ ترصّع جدار جفنيّ.

حين عادت أخواتي من المدرسة ورأينني، أُصبن بعدوى الضحك. أحضرت أختي “زلفة” منديلاً، وربطت رأسي كي لا ترى منظره المنفّر. من دون أن تقصد، ساعدتني على تخفيف خوفي من نفسي واتّقاء برد الشتاء المؤذي.

ثم أتى أبي. سبقته رائحة دماء العصافير الطازجة وريشها المرتعش.

أتى ليتناول الغذاء. تتدلّى من خاصرته العصافير التي قتلها مرّتين، مرّة بالخردق ومرّة ذبحاً، والتي لم أعرف تقديرها يوماً. وضع “ بارودة الحبّة” على “الصوفا” المرقّعة.

سارعت أخواتي إلى تحضير غدائه، بينما هو يغسل أصابعه من دماء العصافير وريشها. جلس يأكل بصمت ولم يعلّق على ما بي. حين شبع وتجشأ، سحب ورقة “سحبة” من حيث يخبّئ الأوراق التي يجلبها من بيروت. قبل أن يغادر سألني بوجه هادئ:

«شو عاملة بحالك؟»

“إميّ قصّت لها شعرها لأنها مقمّلة”، قالت سعدى.

“لا مش مقمّلة، قصّتو لأنو معربس”، صحّحت منال.

back to top