في ذكرى ميلاد أديب نوبل آخر الـ{حرافيش} أحمد فؤاد ريان: نجيب محفوظ

نشر في 19-12-2014 | 00:02
آخر تحديث 19-12-2014 | 00:02
رأى في «الصوفية» سماحة الإسلام وتمنى الفوز بـ{نوبل» في سن مبكرة
بينما تشهد الأوساط الأدبية العربية الاحتفال بذكرى الميلاد 103 لساحر الراوية العربية وأديب نوبل، الكاتب الراحل نجيب محفوظ (11 ديسمبر 1911- 30 أغسطس 2006) – التقت «الجريدة» أحمد فؤاد ريان- المدير العام الأسبق في التربية والتعليم- آخر من انضم إلى شلة «حرافيش محفوظ» في مدينة الإسكندرية الساحلية في مصر، منذ صيف أغسطس عام 1989، وهو التاريخ الذي انضم فيه ريان إلى مجلس محفوظ اليومي في حديقة فندق «سان أستفانو القديم» حيث كان أديب نوبل يمضي إجازته السنوية المعتادة في الإسكندرية، بعيداً عن الكتابة، والتي كانت تبدأ من أول شهر مايو، حتى الأربعاء الأخير من سبتمبر، وفق الضوابط التي كان يضعها محفوظ لنفسه ولا يحيد عنها أبداً.

لدى ريان عشرات الصور التي تجمعه بأديب نوبل في مجلس «حرافيش الإسكندرية» في فندق سان أستفانو القديم، بعضها يحمل توقيع محفوظ، إضافة إلى مجموعة من كتبه تحمل توقيع الأديب الراحل أيضاً هي أنيس وحدة ريان راهناً، ومثار ذكرياته مع «نجيب بك» كما كان يناديه دائماً، تتخللها دموعه.

يقول عن محفوظ إنه كان شخصية أسطورية تعيش في إطار يحكمه التواضع والالتزام والموهبة معاً.

كيف بدأت معرفتك بأديب نوبل الراحل، وانضمامك إلى مجلسه في الإسكندرية؟

في منتصف أغسطس صيف 1989، كنت جالساً مع زوجتي وبناتي في كافيتريا فندق سان أستفانو القديم (فورسيزون سان أستفانو راهناً) فشاهدت مجلسه، وتجرأت على الذهاب إليه ومصافحته. سألني أحد الحضور عن شخصيتي، فأجبت بأنني مدير المدارس القومية في الإسكندرية، وأحد معجبي أعمال الأستاذ، فطلبوا مني الانضمام إلى المجلس إذا أردت. جلست فعلاً معهم، إلى جواره مباشرة، بعدها بلحظات ردَّ محفوظ {أهلاً وسهلاً} بطريقته المعهودة. في اليوم التالي، تعمَّدت الذهاب مبكراً قبل حضور {شلة الحرافيش} في موعدها في السادسة مساء يومياً، وانضممت إلى المجلس من يومها، وحتى آخر زيارة لمحفوظ للمدينة الساحلية عام 1995، التي أعقبتها محاولة اغتياله الآثمة، والتي أعاقت حركته. واستمرت صلتي به حتى وفاته عام 2006.

من هي شلة {حرافيش محفوظ} في الإسكندرية؟

الأديب الراحل يوسف عز الدين، السكندري الأصل والإقامة، وكان الأقرب إلى نجيب محفوظ ، هو وعصام الإنة (محام من الاسكندرية شهير تأثر أديب نوبل بوفاته، وكتب عنه مقالاً في الأهرام باسمه في رثائه) والشاعر السكندري عبد الله الوكيل، والروائي نعيم تكلا، عصام الجمل وشقيقه محمد، وموريس خليفة، وعميد كلية رياض الأطفال سابقاً الدكتور أنس داوود، والروائي علي المغربي، ومحمد صالح أبوبكر. وكنت أنا آخر من انضم إلى شلة حرافيش الأستاذ ولم ينضم أحد من بعدي إلى مجلسه اليومي في المدينة الساحلية. كان ثمة من ينضمون إلى المجلس على فترات متباعدة، من بينهم الكاتب الراحل ثروت أباظة والدكتور يوسف زيدان، وغالبية لقاءاتنا لم تكن لها علاقة بالأدب أو الفن، والأستاذ كان آخر من يتكلم بيننا والأكثر استماعاً إلى كلامنا.

أخبرنا عن طقوس محفوظ خلال تواجده في الإسكندرية ومجلس شلة «الحرافيش».

كان «نجيب بك» يحضر إلى الإسكندرية السبت الأول من مايو حتى الأربعاء الأخير من سبتمبر، فيما يسافر الخميس إلى القاهرة لحضور مجلس شلة «حرافيش» قصر النيل الجمعة، ويعود السبت. خلال هذه الأشهر الخمسة، كان لا يكتب أو يشتغل بالأدب نهائياً. كان منضبطاً جداً ويأتي يومياً في السادسة مساء من كل يوم حتى التاسعة. مواعيده دقيقة بالثانية. كان يعشق الفندق ذا الطراز المعماري القديم، تم بناؤه في عهد الملك فاروق وكان يحضر حفلاته أثناء تواجده في الإسكندرية. وعادةً، لم تكن للمجلس أجندة للحديث أو الحوار مسبقاً. كان محفوظ كريماً جداً ومعطاء في مشاعره، يقربك منه، ولم يبعد عن أحد يحبه يوماً، وكان يتمتع  بود غير عادي تجاه أصدقائه، وإذا غاب أحدهم يوماً عن المجلس كان ينزعج. كذلك كان يتحرَّك في إطار من التواضع ومحبة الناس، ولم يكن مغروراً أو متعالياً، وأكثر من مرة عرض علينا قصاصات لخواطر روايات له، وكان يحب أن يأخذ برأينا، رغم حصوله على جائزة نوبل.

ما هي العادات التي كانت ملازمة له خلال مجلسه وإقامته مدة إجازاته الصيفية الخمسة أشهر؟

كان في شدة النظام، ويرفض استقبال أحد في منزله نهائياً، لأنه يرى أن المنزل  مخصص للراحة والكتابة فقط، وكان خلال إقامته في الإسكندرية، يستيقظ مبكراً ويرتدي ملابسه، ويتناول فطوراً خفيفاً، ثم يتوجَّه للجلوس في «تريانون» الحلواني الشهير في محطة الرمل، وكان يرفض الجلوس مع أحد في تلك الأثناء مكتفياً بتأمل البشر والحياة واختزال تلك المشاهدات في ذاكرته القوية، ولو طلب أحد الحديث معه، كان يرد بعبارة لا تتغير وهي «تعالً بالليل في سان أستفانو».

ثم يتناول غذاءه في أحد مطاعم محطة الرمل، ويعود إلى المنزل للراحة، لاحقاً يتوجَّه إلى مجلس الحرافيش الساعة السادسة مساء، وينصرف  الساعة التاسعة مساء بصحبة أي منا لتناول العشاء في أحد مطاعم محطة الرمل. ومن ضمن ثوابته في برنامجه اليومي في «مجلس الحرافيش» كان تدخين السجائر مع القهوة السادة، وكان في شدة الأدب والذوق ومحباً للناس جداً، ومستمعاً جيداً.

هل كان محفوظ يتحدَّث عن طفولته وشبابه في مجلسه، وأحب أعماله الروائية لقلبه؟

كان يتحدَّث دائماً عن عشقه لسعد باشا زغلول، منذ أن رأه طفلاً، وكان مثله الأعلى في الحياة من الزعماء السياسيين في تاريخ مصر، وظلَّ حتى وفاته ينتخب مرشحي «حزب الوفد» في الانتخابات البرلمانية، تكريماً لسعد رغم علمه بهزيمتهم، وكان هذا الأمر مثار حديث جلساتنا في بعض الأحيان. كان وفدياً معتزاً جداً بوفديته، لكن كان دائماً يخفي هذا الموضوع، من منطلق قاعدة أن الكاتب لا بد من أن يكون حراً دون توجه أو انتماء سياسي. وكان كثيراً ما يحكي عن والدته، وتأثره وارتباطه بها، وذهابه معها إلى مسارح روض الفرج، كونه أصغر أشقائه الثمانية بنحو 10 سنوات، وتعرفه منها إلى تاريخ مصر، ومنها «الحسين» وموالد الصوفية. كان يعشقه الصوفيون بشكل غير عادي ويرى في تدينهم وسماحتهم وجهاً جميلاً من أوجه الإسلام، و{قصر الشوق» و{بين القصرين» و{السكرية» و{زقاق المدق» وهي الأماكن، التى حولها في ما بعد إلى روايات خالدة، خلَّد فيها قاطني هذه الأماكن في صفحات تاريخ الأدب العالمي. وكانت «الثلاثية» الأقرب إلى قلبه، كذلك «زقاق المدق». وكان محفوظ يرى نفسه في شخصية «كمال» التي حاول من خلالها رسم ملامح شخصيته، تاريخه وطفولته، وكان ينظر إلى المخرج الراحل حسن الإمام كعبقري، واعتقد أن الفنان الراحل يحيى شاهين أبدع في شخصية «السيد أحمد عبد الجواد» في «الثلاثية» بشكل فاق تصوره. وعموماً، كان لا يتحدَّث عن أعماله التي تحوَّلت إلى أعمال سينمائية إلا نادراً.

هل كان يتحدَّث عن رؤساء مصر السابقين وما كان رأيه فيهم؟

كان قليلاً ما يتحدَّث في السياسة، باستثناء عشقه لسعد باشا زغلول، وفي المرات القليلة التي تحدَّث فيها، أتذكَّر أنه كان يرى أن جمال عبد الناصر حاكم دكتاتوري، في ظل حكم دكتاتوري أيضاً. ولكنه أشار إلى أنه مهما كتب التاريخ عنه، يكفيه ما حققه من عدالة اجتماعية للفقراء، لم يحققها أحد غيره وتغفر له أخطاءه. كذلك قال إن السادات حاكم ديمقراطي في ظل حكم دكتاتوري أورثه حكم عبد الناصر، فيما أن حسني مبارك حاكم دكتاتوري في ظل حكم ديمقراطي.

فرحة ناقصة

هل كان يتحدَّث معكم عن فرحته بالفوز بجائزة نوبل العالمية باعتباره أول أديب عربي يحصل عليها؟

ربما لن تصدق أنه رغم فوزه بـ{نوبل» كانت فرحته ناقصة، وكان يتمنى الحصول عليها في سن مبكرة نسبياً (حصل عليها في سن الـ 77 عاماً)، وكثيراً ما اعتذر عن إجراء حوارات صحافية وتلفزيونية أثناء وجوده معنا في الإسكندرية، بسبب حالته الصحية وتقدمه في السن، وكان يشعر بالضيق من اعتذاره عن إجراء تلك المقابلات بسبب عاملي السن والصحة. حتى إن إنتاجه الأدبي تأثر بذلك، لدرجة أن كثيراً من مراسلي الصحف الأجنبية كانوا يحضرون إلى الإسكندرية لإجراء حوارات معه، وكان يصرح لنا أن تقدمه في السن انتقص جزءاً كبيراً من فرحته بالفوز بنوبل، لأنه كان يحترم الصحافيين والإعلاميين ويقدر طبيعة عملهم.

هل أثرت محاولة اغتياله الآثمة عام 1995 على تمضية إجازته السنوية المعتادة في الإسكندرية؟

بالتأكيد. أعاقت حركته بشكل كبير، وتأثرت صحته نتيجة الحادث الغادر وامتنع عن تمضية إجازته السنوية المعتادة، وعقب الحادث مباشرة توجهت إلى القاهرة لزيارته في مستشفى الشرطة، والاطمئنان عليه. سعد جداً بزيارتي، وكان متعباً واحتضنني قائلا: «أنا عارف اللي عندك، وأنت عارف اللي عندي»، ثم انصرفت كي لا أرهقه. لاحقاً، أصبحت أزوره شهرياً في القاهرة، في مجلس «الحرافيش» في قصر النيل، وكافيتيريا عمر الخيام في فندق شبرد.

back to top