اتجاه جديد للصحة العالمية

نشر في 18-12-2014 | 00:01
آخر تحديث 18-12-2014 | 00:01
إذا نجحت البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل على مدى السنوات العشر المقبلة في تحسين سبل الوقاية من الأمراض غير المعدية وعلاجها بنفس المعدل الذي حققته الدول الغنية في المتوسط في الفترة من عام 2000 إلى عام 2013، فإنها سوف تتجنب أكثر من خمسة ملايين وفاة.

 من السهل أن يشعر المرء بالإحباط إزاء حالة التعاون الدولي اليوم، ولكن الصحة العالمية تظل هي المجال الذي يحشد جهود العالم لتحقيق أعظم قدر من الخير، فعلى مدى الأعوام العشرة الماضية، نجحت المبادرات الدولية في تسليم علاج فيروس نقص المناعة البشرية المكتسبة (الإيدز) لملايين البشر، وتوسيع نطاق تغطية تطعيم الأطفال، وتحفيز زيادة كبيرة في الدعم العالمي لمعالجة تحديات الصحة العالمية الأخرى، من الملاريا إلى صحة الأم.

إن الدعم الدولي للصحة العالمية يُعَد استثماراً في ازدهار البلدان النامية ورفاهية شعوبها في المستقبل، وهو استثمار تستطيع أغنى بلدان العالم تحمل تكاليفه ببساطة.

على سبيل المثال، تعتبر الولايات المتحدة المساهم الرئيسي في مساعدات الصحة العالمية، والتي مثلت 0.23% فقط من إنفاق الولايات المتحدة في عام 2013، وكانت عائدات الاستثمار رائعة، حيث تشهد معدلات الوفاة بين الأطفال انخفاضاً متزايدا، وما زال على قيد الحياة ملايين الأشخاص الذين كان مصيرهم الموت المؤكد بسبب فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) لولا هذه الاستثمارات، وأصبحت البلدان التي كانت متلقية للمساعدات مكتفية ذاتياً على نحو متزايد، وتحولت إلى أفضل شركاء تجاريين واستراتيجيين نتيجة لذلك.

لكن الاحتياجات الصحية في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل تشهد تحولاً الآن، ذلك أن التغيرات الجذرية في التوسع الحضري والتجارة العالمية والأسواق الاستهلاكية- والتي حدثت على مدى عقود من الزمان في البلدان الثرية- تحدث بوتيرة أسرع وعلى نطاق أوسع كثيراً في البلدان التي لا تزال فقيرة، وقد جلبت هذه الاتجاهات فوائد صحية كبيرة، مثل تحسين مرافق الصرف الصحي وزيادة الإنتاج الغذائي، ولكنها كانت أيضاً سبباً في ظهور تحديات كبيرة.

وكان وباء الإيبولا من الأمثلة الواضحة. فقبل هذا العام، قتل فيروس الإيبولا عدداً من البشر أقل من 2000، وجميعهم في إفريقيا الوسطى، منذ اكتشافه لأول مرة في عام 1976، وفي عام 2014 وحده قتل الفيروس ثلاثة أضعاف هذا العدد، مع انتشار عدد كاف من الحالات دولياً لكي تهيمن أخبار هذا المرض على نشرات الأخبار المسائية وتفزع الناخبين في انتخابات الولايات والمحليات الأخيرة في الولايات المتحدة.

وكان نمو المدن الصغيرة والمتوسطة الحجم من الأسباب الرئيسة وراء هذا، ذلك أن التوسع الحضري يشهد تزايداً ملحوظاً في غرب إفريقيا، بمعدل 3% سنويا (مقارنة بنحو 0.2% و0.3% على التوالي في أميركا الشمالية وأوروبا). وكانت النتيجة انتشار المستوطنات التي تضم كل منها مليون شخص أو أقل يعيشون مع بنية أساسية محدودة للصحة العامة.

وهذه المدن المكتظة بالسكان حاضنة مثالية لتفشي الأمراض المعدية الناشئة مثل الإيبولا، ومع زيادة التجارة والسفر إلى المنطقة من المرجح أن تنتشر الأوبئة قبل أن تتكتل الجهود الدولية اللازمة لاحتوائها.

ومن الأمثلة الأخرى لاحتياجات الصحة العالمية المتغيرة تلك الزيادة السريعة إلى حد مذهل في أمراض القلب، والسرطانات، والأمراض غير المعدية في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، والواقع أن هذه الأمراض، التي كان من المتصور ذات يوم أنها من التحديات التي تواجه البلدان الثرية وحدها، سرعان ما تحولت إلى أسباب رئيسة للموت والعجز في المناطق النامية، حيث قتلت ما يقرب من ثمانية ملايين شخص قبل بلوغهم سن الستين في عام 2013.

في تقرير حديث صادر برعاية مجلس العلاقات الخارجية، نسلط الضوء على التناقض بين ارتفاع معدلات أمراض القلب والسرطان والسكري وغير ذلك من الأمراض غير المعدية في البلدان النامية وبين نجاح الجهود الدولية في التصدي لفيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) وغيره من الأمراض المعدية. فمنذ عام 1990 حتى عام 2010، شهدت معدلات الوفاة والعجز بسبب الأمراض غير المعدية في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل زيادة كانت أسرع بنحو 300% من معدل انحسار الأمراض المعدية.

ومن الواضح أن بعض العوامل المؤثرة نفسها في تفشي الإيبولا الأخير تدفع معدلات الأمراض غير المعدية إلى الارتفاع، فكثيراً ما يتعرض أهل المناطق الحضرية المكتظة بالسكان في الاقتصادات النامية للتلوث في الأماكن المغلقة وفي الهواء الطلق، وهم أقل قدرة على الحصول على التغذية الكافية، والواقع أن أغلب الأنظمة الصحية في هذه البلدان ليست مؤهلة لتقديم الرعاية الوقائية أو رعاية الأمراض المزمنة، كما تفتقر إلى سبل حماية المستهلك الأساسية، ففي الفترة من 1970 إلى 2000، تضاعف استهلاك السجائر إلى ثلاثة أمثاله في البلدان النامية، وكثيراً ما تشكل الأمراض التي يمكن الوقاية منها في البلدان ذات الدخل المرتفع مثل سرطان عنق الرحم، أو علاجها مثل السكري، سبباً أكيداً للموت في البلدان النامية.

ولم تتكيف الاستثمارات الدولية بعد مع الاحتياجات الصحية العالمية المتغيرة، خصوصاً فيما يتعلق بالأمراض غير المعدية، ففي عام 2010، أنفِق نحو 69.38 دولاراً من المساعدات الدولية عن كل سنة من حياة إنسان أهدِرَت بسبب الموت أو العجز بسبب فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) "قياساً على سنوات الحياة المعدلة تبعاً للعجز"، وأنفِق نحو 16.27 دولاراً عن كل سنة مهدرة بسبب الملاريا، و5.42 دولارات عن كل سنة مهدرة بسبب سوء صحة الأمهات والرُضَّع والأطفال، ولكن لم يُنفَق سوى 0.09 من الدولار عن كل سنة مهدرة بسبب أمراض القلب والسرطان وغير ذلك من الأمراض غير المعدية. ومن ناحية أخرى، تتفاقم أوبئة الأمراض غير المعدية الناشئة، إذ يتوقع المنتدى الاقتصادي العالمي خسائر تعادل 21.3 تريليون دولار بسبب هذه الأمراض في البلدان النامية حتى عام 2030.

ومع هذا فإن إحراز التقدم في مواجهة الأمراض غير المعدية أمر ممكن، فرغم ارتفاع معدلات البدانة والسمنة بشكل كبير في البلدان ذات الدخل المرتفع، شهدت حالات الوفاة والعجز المبكرة بسبب أمراض القلب والسرطان وغير ذلك من الأمراض غير المعدية هناك انحداراً كبيرا، والواقع أن أغلب الأدوات والسياسات التي أسست لهذا النجاح زهيدة التكاليف، ولكنها لا تنفذ على نطاق واسع في البلدان النامية، وهي تتضمن عقاقير منخفضة التكلفة للحد من النوبات القلبية، واللقاحات لمنع سرطان عنق الرحم، ونفس الضرائب المفروضة على التبغ والقواعد الإعلانية التي نجحت في خفض معدلات التدخين بشكل كبير في مختلف أنحاء أوروبا والولايات المتحدة، وقد نجحت برامج تجريبية في دمج هذه الأدوات والسياسات في البرامج التي يمولها المانحون في التصدي لفيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) وغيره من الأمراض المعدية في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط.

وإذا نجحت البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل على مدى السنوات العشر المقبلة في تحسين سبل الوقاية من الأمراض غير المعدية وعلاجها بنفس المعدل الذي حققته الدول الغنية في المتوسط في الفترة من عام 2000 إلى عام 2013، فإنها سوف تتجنب أكثر من خمسة ملايين وفاة، وهذا العائد مماثل لأكثر استثمارات الصحة العالمية نجاحاً في التصدي لفيروس نقص المناعة البشرية المكتسبة وتطعيم الأطفال، وهو استثمار يستحق العناء لنفس السبب: ذلك أن نجاح الاقتصاد العالمي السلمي الشامل يستلزم توفير حياة أكثر صحة وإنتاجاً لكل البشر.

* ميتش دانيلز مدير مكتب الإدارة والميزانية الأسبق في عهد الرئيس جورج دبليو بوش، ورئيس جامعة بوردو حاليا. وتوم دانيلز كان مستشار الأمن القومي للرئيس باراك أوباما في الفترة من 2010 إلى 2013، وقد اشترك الاثنان في رئاسة فريق العمل المستقل بشأن الأمراض غير المعدية في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل برعاية مجلس العلاقات الخارجية. وتوم بوليكي كبير زملاء الصحة العالمية والاقتصاد والتنمية لدى مجلس العلاقات الخارجية، وكان مديراً لمشروع فريق العمل المستقل.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top