متاحف ألمانيا... ضغوط لإعادة المسروقات

نشر في 17-12-2014 | 00:02
آخر تحديث 17-12-2014 | 00:02
يهوى هرمان بارزنغر إخبار قصة عن وجوده قبل نحو 15 سنة واقفاً أمام فوهة بندقية كلاشينكوف في شمال باكستان. فقد فاجأ عالِم الآثار هذا مجموعة من الناس وهم يحاولون نهب معبد بوذي، فسارع وزملاؤه إلى الهرب.

بعيد ذلك، في شهر يوليو عام 2001، اكتشف هو وفريق المنقبين الروس والألمان الذي يرافقه مخبأ كبيراً للكنوز الذهبية من السكيث، شعب كان يرتحل على الأحصنة عاش في سهوب وسط آسيا في جمهورية تيفا الروسية في سيبيريا قبل نحو 2700 سنة. وبعد توصلهم إلى هذا الاكتشاف المذهل، احتاج علماء الآثار هؤلاء إلى حراسة على مدار الساعة.

ما من مسؤولين ثقافيين كثر في ألمانيا قادرين على سرد روايات مماثلة. يُعتبر رئيس مؤسسة التراث الثقافي البروسي خبيراً في الفنون القتالية يحمل حزاماً أسود، وقد فاز بجوائز كثيرة لفئته العمرية في عدد من مسابقات الجودو في برلين. ولكن وراء كل هذه القوة، يكفي أحياناً أن تطرح سؤالاً لتثير استياء هذا المؤرخ البالغ من العمر 55 سنة.

في هذه الحالة، سألناه عن الفترة التي توقفت فيها المتاحف الواسعة الشهرة التي تديرها مؤسسته (المتاحف الوطنية بما فيها تلك الواقعة في جزيرة المتاحف في برلين المدرجة على لائحة اليونسكو) عن شراء القطع الأثرية من الخارج في صفقات تجارية فنية.

تردد بارزنغر. يترأس هذا المسؤول إحدى أهم المؤسسات الثقافية في العالم منذ فترة طويلة كفاية ليدرك في الحال أنه يدخل حقل ألغام سياسياً مع أي جواب قد يقدّمه.

تسعى الحكومة الألمانية إلى ضبط عمليات التنقيب والتجارة غير المشروعة بالقطع الأثرية باعتماد قانون جديد متشدد. ومن المتوقع أن تزيد هذه الخطوة الضغوط على بعض أشهر المتاحف في هذا البلد والتي تضم قطعاً عدة مجهولة المصدر. التفاصيل عرضها كونستانتين فون هامرشتاين في «شبيغل».

يستضيف بارزنغر مؤتمراً دولياً كبيراً في برلين يركز على عمليات التنقيب غير القانونية والتجارة غير المشروعة بالممتلكات الثقافية. ومن المتوقع أن يمهد هذا المؤتمر، الطريق أمام تشديد القوانين المعتمدة في شأن حماية الممتلكات الثقافية. فالحكومة الألمانية بحد ذاتها تنتقد بشدة قانونها الأخير الذي سنته عام 2007. جاء في تقرير صادر عن البرلمان أن الحكومة أعلنت أخيراً أن ثمة {حاجة ملحة} إلى إجراء التعديلات فيه.

كتبت الحكومة أن {المتاحف اعتادت منذ فترة الامتناع عن شراء قطع ثقافية مجهولة المصدر}، لكن الواقع يُظهر أن {الكنوز الثقافية المستخرجة بطريقة غير قانونية أو المصدرة بشكل غير مشروع ما زالت تُباع وتُشرى}. وعلى غرار كثير من علماء الآثار البارزين، يدعو بارزنغر إلى فرض قيود قانونية أكثر تشدداً بغية كبح لجام تجارة القطع الأثرية غير المشروعة.

يتصل بارزنغر بعد ذلك بمستشارته القانونية، لكنها في اجتماع. رغم ذلك، يطلب منها الحضور. وعندما تصل، يسألها: هل نملك مشتريات حصلنا عليها من خلال صفقات تجارية فنية؟

تجيب المحامية: {نعم}. فقد اشترت Antikensammlung (أو مجموعة التحف الأثرية الكلاسيكية) في المدينة 21 زهرية من بوليا نحو منتصف ثمانينيات القرن الماضي. وبعد سنوات، فتح المحققون الألمان والإيطاليون على حد سواء تحقيقاً في هذه القضية. وأمضى أعضاء من الشرطة العسكرية الفدرالية الإيطالية بضعة أيام في العاصمة الألمانية بغية التدقيق في السجلات ومقابلة مدير المجموعة كشاهد. لكنهم لم يتوصلوا في النهاية إلى أي دليل على أعمال تنقيب أو تصدير غير مشروعة من إيطاليا.

تؤكد المستشارة القانونية للمتاحف الوطنية أن هذه المتاحف لم تشترِ أي قطع أخرى. إلا أن بارزنغر بدا متوتراً وطلب من المتاحف الأثرية التي يشرف عليها بإجراء مراجعة داخلية ورفع التقرير له.

يوم الخميس الماضي، أخبر بارزنغر المراسلين أن المتاحف لم تتوقف عن شراء القطع إلا قبل سنوات قليلة. كذلك قُبلت الهبات في حالات لم يكن فيها المصدر واضحاً دوماً. لا تضم هذه القطع أي أعمال مهمة (زهريات قديمة، كتابات مسمارية، وأختام أسطوانية من بلاد ما بين النهرين)، فضلاً عن أنها لا تؤدي إلى أي مشاكل.

مراجعة المصدر

طُلب من المتاحف اليوم مراجعة مصدر كل القطع الأثرية التي دخلت مجموعاتها منذ عام 1970. كذلك عُين ممثل عن كل متحف لإجراء هذه المراجعة. بالإضافة إلى ذلك، وعد بارزنغر: {سنكون مستعدين لإعادة القطع إن تبين أن مصدرها غير مشروع}.

أثار نهب المتحف الوطني في العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003 وصور المواقع الثقافية المدمرة في الدول التي تمزقها الحرب الأهلية في الشرق الأوسط وأفريقيا جدالات كثيرة عن حماية هذه الكنوز من خلال الغرب، ولا سيما ألمانيا. صحيح أن المتاحف الغربية قامت بعمليات الشراء المريبة طوال سنوات، إلا أنها باتت تُعتبر اليوم غير أخلاقية.

يسود الاعتقاد اليوم أن أعمال التنقيب والتصدير غير المشروعة للتحف الفنية تقوض التراث الثقافي العالمي. ولا شك في أن ما يراه العالم بأسره في العراق وسورية مأساوياً بكل معنى الكلمة. رغم ذلك، لا تتوافر بيانات يُعتمد عليها في شأن نطاق التجارة غير المشروعة وتفاعلاتها.

نقص في المعلومات

في «دراسة التهديد الاستخباراتية» الداخلية التي نُشرت في شهر يوليو، حدد مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي 12 مجالاً تتعلق بتجارة الآثار غير المشروعة وتعاني «نقصاً في المعلومات». تشمل هذه:

• ما هي القيمة الإجمالية لتجارة الآثار غير المشروعة في الولايات المتحدة؟

• أين تقع الشبكات العالمية الكبرى في هذه التجارة؟

• كم عدد تجار الآثار في الولايات المتحدة الذين يتعاطون بالقطع المنهوبة أو المسروقة ومَن هم؟

• ما مدى تورط الموظفين الحكوميين الأميركيين والأجانب في هذه التجارة غير المشروعة؟

• هل الشبكات المتخصصة في تجارة الآثار غير المشروعة متورطة أيضاً في نشاطات إجرامية أخرى؟

• كيف تنقل عائدات التجارة غير المشروعة من الولايات المتحدة إلى الشبكات في دول المنشأة؟

• كيف يُنفذ معظم النشاطات ومن أي بلدان يأتي؟ هل المنفذون متورطون أيضاً في تجارة المخدرات، الاتجار بالبشر، أو أي عمليات تهريب أخرى؟

يشير تقرير مكتب التحقيقات الفدرالي إلى أن السلطات الأميركية أعادت أكثر من 7 آلاف قطعة أثرية إلى 26 بلداً مختلفاً من عام 2008. إلا أن هذا على الأرجح مجرد جزء صغير من الآثار التي دخلت الولايات المتحدة، وفق الدراسة.

لا تتوافر أرقام محددة عن الحجم العالمي للتجارة غير المشروعة. أما الأرقام المطروحة، فتتفاوت كثيراً. يذكر تقرير مكتب التحقيقات الفدرالي أن البعض يقدر قيمة التجارة غير المشروعة بنحو ملياري دولار سنوياً، إلا أن البعض الآخر يقول إن الأرقام الفعلية تضاهي تجارة المخدرات والأسلحة.

تقع أعمال النهب الأسوأ راهناً في سورية والعراق. فقد نشرت وزارة الخارجية الأميركية صوراً عالية الوضوح التقطتها الأقمار الاصطناعية لبعض مواقع التنقيب في سورية. وتُظهر هذه الصور حجم الدمار الذي يحدث في هذا البلد؟ ففي غضون سنتين، تحولت حفر التنقيب في موقع دورا أوربوس التقليدي إلى أرض خراب.

أين تختفي الآثار؟

قبل ثلاثة أسابيع، التقى عدد من الخبراء في باريس بدعوة من مجلس المتاحف الدولي بهدف تبادل المعلومات في شأن ما يحدث في المنطقة. لكن هؤلاء الخبراء واجهوا صعوبة في تقديم معلومات أكيدة خلال هذا الاجتماع السري. يوضح أحد المشاركين، متحدثاً عن المعلومات المتوافرة: {تشكل هذه المنطقة ثقباً أسود؟}.

رغم ذلك، من الواضح أن عمليات نهب كبرى تحدث في سورية وشمال العراق. ومن المعروف أيضاً أن السلطات اللبنانية والتركية اعترضت آثاراً كثيرة عند الحدود خلال الأشهر الماضية. ويشير بعض التقارير إلى أن المسؤولين الأتراك ملؤوا عدداً من المخازن بالآثار التي صادروها. كذلك عُثر على عدد من القطع الأثرية في أسواق سورية ولبنان.

لكن حصة الأسد من القطع المسروقة تختفي بكل بساطة. يدعي تجار التحف أنهم لا يحصلون على كثير من القطع من الشرق الأوسط في الوقت الراهن. كذلك لم تسجل السلطات أي تدفق كبير للقطع الأثرية. إذاً، ماذا يحلّ بالقطع المسروقة؟

من المتوقع أن تُخزن بعيداً عن أعين الناس طوال السنوات العشر إلى الخمس عشرة التالية لتبدأ بعد ذلك بالظهور تدريجاً في الأسواق الفنية العالمية بأوراق مزورة، ما إن يخفت الجدال الراهن حول القطع غير المشروعة. أو يُحتمل أيضاً أن جامعي القطع الأثرياء في المنطقة العربية والشرق الأقصى يعملون راهناً على توسيع مجموعاتهم.

يبدو الخبراء واثقين من مسألة واحدة: ستُعاود القطع الظهور في مرحلة ما من المستقبل، تماماً كما حدث في الماضي.

مجموعات عالمية

في عام 2000، أجرى عالما الآثار البريطانيان كريستوفر تشيبيندايل وديفيد جيل الدراسة الشاملة الوحيدة من هذا النوع عندما راجعا بدقة مدى مصداقية المراجع المزعومة في كتيبات سبع من مجموعات القطع الأثرية الدولية المهمة.

جاءت الاكتشافات صادمة. فمن بين القطع المراجعة الـ1396، افتقرت 75% منها إلى أوراق تثبت مصدرها. حتى إن أكثر من 500 قطعة أثرية لم تحظَ بأي {تاريخ للقطعة}، ما يعني أنها ظهرت على ما يبدو للمرة الأولى في تلك المعارض العامة. ولا شك في أن هذه إشارة واضحة إلى أنها ناتجة من عمليات تنقيب غير مشروع.

علاوة على ذلك، تكبد تشيبيندايل وجيل عناء مراجعة ما إذا كانت تفاصيل المصادر المقدمة هي ذاتها التي قُدمت عن القطع عينها في معارض سابقة. وهنا أيضاً جاءت الاكتشافات صادمةً. فالقطع التي كان موقع اكتشافها {مجهولاً} في المعارض السابقة حصلت فجأة على مصدر فعلي، ما يشكل إشارة أخرى إلى أن مصدرها مزور.

منذ صدور هذه الدراسة المفاجئة، يتحدَّث علماء الآثار عن {قانون تشيبيندايل} يقول أحد الخبراء: {مهما بدا تقييمك للوضع سيئاً، يُعتبر الواقع أكثر سوءاً بعد}.

معاملات سريعة

يدعي تجار تحف كثر أنهم يدركون جيداً مصدر قطعهم الأثرية، إلا أنهم لا يملكون الأوراق المناسبة. يسأل فنسنت غيرلينغ، رئيس الجمعية الدولية لتجار القطع الفنية القديمة: {أما زلت تملك إيصالاً لكل قطعة أثاث أعطاك إياها والداك؟}. يملك هذا الهولندي مؤسسته الخاصة في أمستردام، فضلاً عن أنه يملك مجموعته الخاصة من التحف. يجيب بصراحة مخيفة: {كلا}. فهو لا يملك سوى قطعة أثرية واحدة يستطيع أن يحدد بدقة موقع التنقيب عنها. لكنه يؤكد أنه يعرف تماماً تاريخ ملكية كل قطعه الأثرية.

يبدو جلياً أن عدد القطع {البيضاء} (أي التي يمكن تحديد بدقة موقع اكتشافها وملكيتها السابقة) في الأسواق محدود جداً، فضلاً عن أننا نقع على عدد من القطع {السوداء} (أي التي نعرف يقيناً أنها مسروقة من مجموعة أو متحف). لكن غالبية القطع المتوافرة {رمادية} لأن لا أحد يستطيع أن يحدد مصدرها بدقة. يوضح عالِم الآثار لوكا غيولياني، مدير معهد الدراسات المتقدمة المتعدد الاختصاصات في برلين: {يميل تجار التحف إلى اعتبار القطع الرمادية بيضاء لأن من الواضح أنها ليست سوداء. أما نحن علماء الآثار فنفضل اعتبار القطع الرمادية سوداء لأن من الواضح أنها ليست بيضاء}.

في عام 1970، مررت اليونسكو قراراً ضد المتاجرة غير المشروعة بالممتلكات الثقافية. لكن ألمانيا لم تصدق هذه المعاهدة وتطبقها في قانونها الوطني إلا بعد 37 سنة. ولم يؤدِ الضغط الخارجي إلى أي تأثير. فقد شمل القانون عقبات قانونية عدة صعب تذليلها، ما حال دون إعادة أي من القطع غير المشروعة إلى مالكيها الأصليين نتيجة القيود والقواعد.

تزايد الوعي

يريد المسؤولون الحكوميون اليوم تبديل هذا الواقع. تعد مونيكا غروترز، كبيرة المسؤولين في الشؤون الثقافية في مكتب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، راهناً قانوناً جديداً يصبح ساري المفعول في مطلع عام 2016 إن مُرر. ينص هذا القانون على حظر بيع وشراء أي قطع لم يحدد بعد بلد مصدرها. كذلك خُففت القيود المفروضة على إعادة الملكيات الثقافية المتنازع عليها.

من المتوقع أن يفرض هذا القانون الجديد ضغوطاً كبيرة على بارزنغر وعدد كبير من زملائه. صحيح أن ألمانيا لم تصدق على معاهدة اليونسكو إلا عام 2007، إلا أن المجتمع الدولي يعتبر عام 1970 التاريخ المفصلي.

لا شك في أن مَن اشتروا قطعاً أثرية منذ ذلك الحين من دون أن يعرفوا مصدرها الفعلي لا يُعتبرون مذنبين بموجب قواعد القانون الجديد، إلا أنهم سيجدون أنفسهم أمام مشكلة أخلاقية. فإحدى المجموعات الأثرية الأكثر شهرة في العالم، تحف الشرق الأدنى في المتحف البريطاني، توقفت نتيجة لذلك عن شراء الأعمال التي لا تعرف بوضوح مصدرها في أواخر ستينيات القرن الماضي.

بدأ الوعي يزداد في ألمانيا في شأن هذه المشكلة. في السنوات الأخيرة، استلم جيل جديد من مديري المتاحف إدارة مجموعات عامة كثيرة. لكنهم يواجهون اليوم معضلة مراجعة الإرث المثير للجدل الذي خلَّفه أسلافهم بمواصلتهم شراء القطع من الأسواق الفنية حتى وقت ليس ببعيد.

تتعرَّض المجموعة الحكومية Badisches Landesmuseum في منطقة كارلسروه لانتقادات كثيرة منذ عقود بسبب سياسات الشراء التي اعتمدتها. لكنها أعادت خلال الصيف الماضي قطعتين من منطقة كيكلادس إلى اليونان، منهية بذلك صراعاً طويلاً بين الفريقين. يتمتَّع هذان التمثالان القديمان من الجزيرة اليونانية بشعبية واسعة بين هواة جمع القطع الأثرية منذ عقود، إلا أنهما من نتاج عمليات تنقيب غير مشروعة.

يوضح إكارت كون، مدير المتحف ورئيس جمعية المتاحف الألمانية: {يؤدي شغف جمع القطع الأثرية وجشع مديري المتاحف أحياناً إلى أوضاع تدفعهم إلى التورط في التجارة غير المشروعة. في عالم الآثار، لا نستطيع أن ندعي البراءة إن اشترينا قطعة حصلنا عليها، حسبما نزعم، من مجموعة سويسرية مجهولة}.

يوضح كون أيضاً أن على المتاحف أن تكون على قدر المسؤولية وتبذل الجهد لتتأكد من أصول القطع الأصلية التي تملكها بالطريقة عينها التي تعاطت بها متاحف كثيرة في ألمانيا مع الفنون المنهوبة خلال العهد النازي. تريد غروترز، المسؤولة الثقافية في مكتب المستشارة الألمانية، أن ترغم على الأقل المجموعات العائدة للحكومة على التحلي بشفافية أكبر. تعلن: {أطالب أن تضمن المتاحف تقريرها السنوي تقريراً إضافياً عن تقدمها في إثبات مصدر قطعها الأثرية}.

back to top