طلّاب الموت... أطبّاء القتل الرحيم يبحثون عن إجابات وجودية

نشر في 10-12-2014 | 00:02
آخر تحديث 10-12-2014 | 00:02
زارت مجموعة من كبار ممارسي {القتل الرحيم} في بلجيكا أخيراً النصب التذكاري لمعسكر اعتقال أوشفيتز كي تتعلّم المزيد عن الموت والإنسانية. وقد تبيّن أنّ الرحلة مثيرة للجدل بالنسبة إلى الأطبّاء وزادتهم تبصّراً على السواء.

يتحمّل ويم ديستلمانز مسؤولية موت المئات، لا بل الآلاف من الناس. إنّه رجلٌ يدرس بدقة مجال عمله، وقد زار في لندن أوّل تكية حديثة في العالم، وجال في أوّل منزلٍ للموتى في اسكتلندا. وسافر أيضاً إلى المكسيك كي يفهم بشكلٍ أفضل كيفية تعاملنا مع الموت والموتى، وهو الآن يستعدّ ليسافر في جولته الدراسية المقبلة إلى بولندا. ديستلمانز طبيب اختصاصي في المعالجة المسكّنة من بروكسل، أي أنّه طبيب يساعد الناس على الموت. إنّه عصبي اليوم، لم ينل قسطاً جيّداً من النوم واستيقظ باكراً، ففكرة زيارة معتقل أوشفيتز تشعره بعدم الارتياح.

في صباح يوم من شهر أكتوبر، وقف ديستلمانز البالغ من العمر 62 عاماً أمام إحدى البوّابات في مطار بروكسل. عيناه زرقاوان وشعره رمادي متموّج بعض الشيء عند العنق، يرتدي قميصاً ومعطفاً بنياً من جلد. يفوق المحيطين به طولاً وهدوءاً. قبل بضع ساعات، عند الخامسة صباحاً، تلقّى الرجل اتّصالاً. إنّها صديقته التي نجت من جحيم معسكرات الاعتقال والتي كانت تخطّط لترافق المجموعة إلى أوشفيتز كدليلة سياحية. أبلغته أنّها ألغت رحلتها لأنّها أصيبت بالزكام.

يحدّق ديستلمانز في الناس المتحلّقين حوله ويسألهم مرحّباً بهم: {صباح الخير، كيف الحال؟}، فيما يربّت على أكتاف الرجال ويقبّل النساء على وجناتهنّ. ويضيف أنّه ليس متأكّداً من أنّ اعتذار الدليل السياحي عن المشاركة يتعلّق بوجهتهم في هذه الجولة الدراسية الممتدّة على خمسة أيّام.

يتحلّق نحو 70 شخصاً حول ديستلمانز، وتضمّ المجموعة أطبّاءً وعلماء نفس وممرّضين من بلجيكا، يعمل معظمهم في مجال القتل الرحيم. أحد هؤلاء إريك فاندفلد الذي في خلال مسيرته المهنية قتل 20 شخصاً نزولاً عند طلبهم، على الرغم من أنّه يساعد النساء على الإنجاب يومياً. ترافقه زوجته كوليت، التي اضطلعت بدورٍ جوهري في تعريفه إلى قانون القتل الرحيم في بلجيكا قبل 12 سنةً. ومن جملة المشاركين أيضاً عالم النفس مانو كيرس، الذي أصدر 35 كتاباً، يتناول معظمها موضوع الحداد، وبيا فربيك، طبيبة نفسانية تدرس حالياً طلباً تقدّم به رجلٌ مهووس ومصابٌ بالاكتئاب، يقامر بآلاف الدولارات في أثناء مراحل هوسه. وقد دعاهم جميعاً ديستلمانز، الذي يرأس لجنة القتل الرحيم في الحكومة البلجيكية، إلى رحلة إلى بولندا.

الموت بكرامة

يسعى إذاً في أوشفيتز إلى أن يتأمّل معهم في معنى {الموت بكرامة}. وهذا أيضاً عنوان جولتهم المطبوع على كتيّب البرنامج الذي يتمحور حول أسئلة وجودية: حق تقرير المصير، والخوف، والحرية، وما تعنيه هذه الأمور بالنسبة إلينا اليوم، ويتطرّق البرنامج إلى الحدود إلى نذهب إليها، وإلى أيّ حدٍّ علينا أن نذهب، وإلى أيّ حدٍّ ينبغي السماح لنا بالذهاب إليه.

لكن لا تقتصر المجموعة على اختصاصيي القتل الرحيم، إذ تجد صحافياً بلجيكياً واقفاً أمام البوّابة، فيخبرك: {أسافر إلى بيركناو وعندما أجمع معلومات كافية، سوف أعود أدراجي}، ويردف مشغّل الجولة السياحية الذي يرافق المجموعة: {أتولّى عادةً جولات كرة القدم}، فيما يشرح طبيبٌ تجانسي: {لا يحتاج امرؤ متّزنٌ إلى القتل الرحيم}. أخذ بعض المهنيين الطبيين زوجاتهم اللواتي يتطلّعن إلى رؤية مدينة كراكوف القروسطية ذات المعالم الخلّابة. ويشارك في المجموعة أيضاً مصوّرٌ يدعي غي كلينبلات، كان أعضاءٌ من عائلته قد لقوا مصرعهم في أوشفيتز، وهو يزور الموقع للمرّة الأولى. ما يجمع هؤلاء جميعاً هو أنّهم يدعمون القتل الرحيم والمجتمع الليبرالي.

يتبعون ديستلمانز إلى أوشفيتز ليتعلّموا المزيد عن احترام البشر، ويعتزمون في أوشفيتز اكتشاف السبب الذي يجعل من حقّ الإنسان أن يقرّر مصير حياته حقّاً لا يُسلب، ولم يجب أن يكون الناس أحراراً بشكل مطلق حتى يتّخذوا قراراتهم بأنفسهم في هذا الشأن. ويعتبر أعضاء المجموعة أن معتقل أوشفيتز يمثّل نقيض كلّ ما يأملون أن يحقّقوه، وأنّهم يسعون إلى التأمّل هناك في ما يعنيه سحق الاتّضاع والحبّ.

احتجاج على {طبيب الموت}

برز بعض الاحتجاجات في أثناء التحضير لهذه الرحلة، إذ أطلقت جريدة Daily Mail Online البريطانية على ديستلمانز اسم {طبيب الموت} ووصفت رحلته إلى أوشفيتز بالعديمة الطعم. وفي الوقت عينه، تنبّه صحافيون بلجيكيون إلى النقاش الدائر واستخدموا اللقب عينه مترجماً إلى اللغة الهولندية. وفي مدينة أنتويرب شمال بلجيكا، خرج اليهود المتشدّدون في احتجاجاتٍ ليعبّروا عن غضبهم من استخدام ديستلمانز عبارة {موقع ملهم} في إشارةٍ إلى المعتقل في برنامج الرحلة، ووصفوه بـ}القاتل المحترف}. وتلقّى ديستلمانز أيضاً رسالة إلكترونية من باحث علمي يتكلّم الألمانية لم تتضمّن سوى كلمة: {مجرم}. وبعد انتهاء الرحلة، أرسل نائب مدير النصب التذكاري في أوشفيتز رسالة إلكترونية ردّاً على المتظاهرين قال فيها: {نشعر بأنّ محاولة ربط تاريخ أوشفيتز بالجدال القائم بشأن الموت الرحيم غير مناسبٍ}.

لا غيوم في السماء لدى وصول المجموعة إلى المطار في كراكوف، ولا يزال ديستلمانز هادئاً بعض الشيء فيما يجلس في الحافلة إلى جانب صديقته، سونجا سناكن، وهي اختصاصية في علم الإجرام تدرس تدهور حال المأسورين.

يألف ديستلمانز جميع الادعاءات ويشعر بانعدام الثقة الذي أرخى بظلاله بعدما أعلن عن الرحلة إلى أوشفيتز، فالعالم هنا يشكّك في غايته. هل يُسمح لطبيب يمارس القتل الرحيم أن يزور هذا المكان؟ هل يُسمح له أن يُحدّق في الهاوية ليطمئن نفسه إلى الثبات الأخلاقي لأعماله؟ هل يمكن دراسة معاناة أحدهم لتخفيف معاناة شخصٍ آخر؟ هل في الأمر سخريةٌ؟ هل فيه عبثٌ؟ أليس هذا أشبه بأن تسافر إلى القطب الشمالي لتتعلّم شيئاً عن الحرارة؟

قبل أسبوعين، كان ديستلمانز يجول في مركز المساعدة على الانتحار الذي يملكه بالقرب من بروكسل، وهو أحد المراكز التي يلجأ إليها الناس ليتعرّفوا إلى الموت الرحيم. يمضي المرضى وقتهم هنا ويلعبون الورق أو يكتفون بالجلوس في كرسي لساعات من دون انتظار أيّ أمرٍ. إذا أعلن أحدهم أنّه سوف يموت قريباً ويعلم تاريخ ذلك، يقيم له الآخرون حفلةً مميّزةً تضمّ الموسيقى الأحبّ إلى قلبه.

استعجال الموافقة

يدرّب ديستلمانز الأطباء الذين يساعدون الآخرين على الانتحار، وقد طوّر نظاماً للأطبّاء، الذين يقدّمون المشورة والدعم للأطباء العامين في بلجيكا، ويوزّعون استمارات الطلب للموت الرحيم في الصيدليات والمكتبات. فقد لا يزال المرضى قادرين على المشي، وتناول الطعام، والشرب، والكلام، لكن لم يعد يسعهم مواجهة هذا الخوف.

في هذا اليوم المميّز في بروكسل، يحضر ديستلمانز حفلة وداع أقيمت لستيف، شابّ مقعدٌ له ابنة بات مستعدّاً لمغادرة هذا العالم. يتّهم منتقدو ديستلمانز الأخير بأنّه سارع إلى الموافقة، كما حصل عندما وافق على سبيل المثال على إجراء عملية القتل الرحيم لشخصٍ ينازع بعدما أجرى جراحة فاشلة لتغيير جنسه، أو كما حصل عندما ساعد توأمين بعمر الـ43، كانا قد ولدا أصمّين، على وضع حدّ لحياتيهما بعدما اكتشفا أنّهما قد يمسيان ضريرين أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، رفع شابٌ دعوى ضدّ ديستلمانز لأنّ الطبيب أجرى عملية الموت الرحيم لأمّه المصابة بالاكتئاب بناءً على طلبها.

وفي حديثٍ له في مكتبه في بلجيكا قبل الرحلة إلى أوشفيتز، شرح ديستلمانز: {نحن أوّل جيلٍ قادرٍ على أن يحدّد اصطناعياً بداية الحياة ونهايتها. يطعن الناس في السنّ وتسمح الآلات لهم بالبقاء على قيد الحياة إلى الأبد. علينا إذاً أن نتحمّل مسؤولية أنّ بعض الأفراد لا يريد أن يسلك هذا المسار}.

{الموت الحسن}

في العودة إلى كراكوف، أنهى ديستلمانز والأطبّاء تناول العقبة وراحوا يخرجون ببطءٍ من المطعم. النشاط التالي هو جولة في المدينة بصحبة مرشد، وقد حصل كلّ مشاركٍ على شارةٍ كُتب عليها اسمه. يعلّق قائد المجموعة الشارة على قميصه، ثمّ يلفّ وشاحه حول عنقه فيغطّيها، ويغلق معطفه كاملاً ويردف: {لست أعلم إن كنت سأواجه أيّ خصومٍ هنا}. فقد نُشرت صورة له على غوغل، بدا أنّ أحدهم عدّلها وألبسه زيّ الجندي في وحدة الأس أس النازية فوق سترته.

 تنزل المجموعة في فندق Hilton Garden Inn. تجد في الردهة الرخامية إشارة كُتب عليها {الموت بكرامة}. إنّها الليلة التي تسبق زيارة المعتقل، والبلجيكيون يدخلون قاعة المؤتمر. تقضي الفكرة بأن تجد الإطار الذهني المناسب لأوشفيتز. يصعد ديستلمانز إلى المنبر ويقول: {نحن اليوم هنا لنتأمّل في معنى الموت بكرامة. برز بعض الاحتجاجات قبل رحلتنا، لكن لا مكان أفضل من معتقل أوشفيتز للتأمّل في معنى الكرامة. عندما نتعامل مع الموت الرحيم، علينا أيضاً أن نتصالح مع نقيضه. فنحن في بلجيكا نستخدم الموت الرحيم في معنى الكلمة الأصلي، أي الموت الحسن. وهنا تكمن المشكلة، إذ علينا أن نفسّر مراراً وتكراراً أنّ مسعانا هو نقيض ما حدث في أوشفيتز}.

ثمّ تعتلي صديقته سونجا سناكن المنصّة، وتبرز صوراً من سجن أبو غريب، وصور سجناء أُعدموا في إيران وآخرين سوريين عُذّبوا في سجون الأسد، وتردف: {إذا كان أحدهم خاضعاً لشخصٍ آخر، ومعتمداً عليه في الوقت عينه، فقد تنتهي به الحال ذليلاً}. تروي القصّة الشهيرة بشأن تجربة سجن ستانفورد في الولايات المتّحدة، التي أدّى فيها طلّاب دور المساجين والحرّاس لدراسة الآثار النفسية التي ستنتج عن ذلك، وقد تمّ إيقاف التجربة لأنّ الحرّاس انحرفوا عن المسار وأساؤوا معاملة المساجين.

يتابع ديستلمانز: {ما الذي يعنيه هذا بالنسبة إلينا؟ معظمنا أطبّاء ولنا سلطة على باقي الناس، نعلم بشأن أيّ أمرٍ على نحوٍ أفضل وقد تعلّمنا أن نحافظ على الحياة. لكن علينا أن نحرص على ألّا نستمرّ في معالجة مرضانا بخلاف مشيئاتهم عندما يريدون فعلاً الانتحار. لا يعود لأحدٍ أن يعتبر أنّ له سلطة أن يحكم في قيمة الحياة. علينا أن نستحيل خدّاماً لدى مرضانا وعندما تصل الأمور إلى خواتيمها، علينا أن نتقبّل فشلنا كأطبّاء}.

حان دور مانو كيرس في الكلام. عالم النفس الذي جمع 40 سنةً من الخبرات في عمله في مستشفيات بلجيكية زار إلى الآن عدداً كبيراً من النصب التذكارية لمعسكرات الاعتقال. يحمل عرضه عنوان {ماذا علّمتني أوشفيتز عن رعاية المرضى الميؤوس من شفائهم}. ويشرح فيه: {نريد أن ندرس الظلم الذي ارتكب هنا سابقاً ونحوّله إلى عدالةٍ. حوّل النازيون في أوشفيتز الناس إلى أرقام، أعطوهم ملابس مقلّمة وصادروا أسماءهم ووشموهم بالأرقام. ما الذي نفعله؟ لا نتحدّث في المستشفيات عن الناس، بل نشير إليهم تبعاً لأمراضهم: المصاب بالسرطان هنا، ومريض الرئة هناك، ومريض الأمعاء في الغرفة المجاورة}. يتوقّف كيرس لبرهة حتى يترك تأثيراً في نفوس المشاركين، ثمّ يختم: {لا نفعلنّ ذلك، من نكون حتى نرفع أنفسنا فوق الآخرين؟}.

في اليوم التالي، تدوم الرحلة من كراكوف إلى أوشفيتز ساعةً ونصف الساعة، يقرأ في خلالها كريس كتاباً بعنوان {القلب المستنير – الأثر النفسي لحياةٍ في خوفٍ شديد}، لكاتبٍ نجا من معسكرات الاعتقال. أمّا غي كلينبلات، المصوّر الذي قُتلت عائلته في أوشفيتز، فقد أسدل جفنيه مريحاً رأسه على يديه المضمومتين إلى بعضهما. يصل البلجيكيون إلى المعسكر ويشكّلون مجموعات صغيرة في مرجٍ قريب بانتظار أن تبدأ جولتهم، ثمّ يتبعون مرشدهم ويعبرون المدخل عينه الذي عبره اليهود، متوقّفين لبضع لحظاتٍ أمام البوّابة ليحدّقوا في شعارٍ ساخرٍ بالألمانية: {العمل يحرّرك}.

يتابعون طريقهم وصولاً إلى المباني المصنوعة من الآجر، حيث يرون جرّةً تحفظ رماد الموتى. يصلون بعدها إلى لوحٍ زجاجي يفصل بينهم وبين نموذج غرفة غاز. كان السمّ، وهو سيانيد الهيدروجين في شكل زيلكون ب، يُضخّ عبر ثقبٍ في السقف. يسيرون بالقرب من كميات هائلة من الشعر الممتدّ على شكل صفّ طويل. إنّه شعر النساء اللواتي كنّ يُسقن حليقات الرأس إلى حتفهنّ، وقد صنع الناس منه سجّاداتٍ.

تثقل خطوات ديستلمانز ويكاد يتعثّر فيما يشقّ طريقه بين الحصى. أمضى أشهراً يفكّر في هذا المكان. أراد أن يفهم ما الذي يدفع بالناس إلى القضاء على أناسٍ آخرين. أراد أن يحوّل القتل الجماعي الصناعي إلى أمرٍ خاصٍّ وملموس. لكنّه كان يخشى أيضاً أن يتخطّى هذه العتبة، وقد بات الآن يستشعر الخوف الذي يحوم فوق هذا المكان، وهو صريع مشاعر تمنعه من التعبير عنها بالكلمات. يقرّ أنّه لا يفهم شيئاً.

يسير الأطبّاء ليصلوا إلى قبوٍ في الطابق السفلي، حيث يرون زنازين صغيرة لدرجة أنّ السجناء اضطروا إلى الوقوف، وزنازين أخرى احتجز فيها الناس حتى يموتوا جوعاً. ثمّ يعبر الأطباء بغرفة غاز يلمحون فيها خدوشاً أحدثتها الأظفار على الجدران. ثمة أيضاً مستشفى تضمّ غرفةً أجرى فيها أطباء نازيون تجارب على السجناء، فجعلوا من الرجال والنساء عقماء وحقنوا قلوب السجناء بالفينول. يطيل الأطباء البلجيكيون بقاءهم أمام هذه الغرفة، مذهولين لرؤيتهم سمّاعة طبيب وثوباً أبيض على الطاولة.

يخرج ديستلمانز وعالم النفس كيرس لتنشّق بعض الهواء. أسوأ ما في الأمر بالنسبة إلى كيرس أنّ نازيين كُثراً كانوا يحبّون الحيوانات، ويضيف: {كان رودلف هيس يحبّ الكلاب}. تسير امرأة من المجموعة خلفهما وتقول إنّها تودّ أن تتوسّع قوانين القتل الرحيم في بلجيكا لتشمل الأشخاص ذوي الميول الانتحارية، وتعتبر أيضاً أنّ الأطفال المصابين بأمراض ميؤوس من شفائها يجب أن يحصلوا على توقيع الوالدين إذا ما أرادوا أن ينتحروا.

مكانٌ خالٍ من الأمل

يدخل ديستلمانز وكيرس مكتبةً عند المدخل ويشتري كلٌّ منهما كتاباً لميكلوس نيسزلي يحمل عنوان {أوشفيتز: رواية طبيبٍ شاهد عيان}. كان نيسزلي سجيناً في السندركوماندو (وحدة العمل في المعتقلات النازية) يعمل تحت أمرة الطبيب النازي السيئ السمعة جوزف منغيل الذي كان ضابطاً في وحدات الأس أس. يصف السجين السابق كيف اضطرّ إلى أن يغلي الجثث في براميل ليحضّر عظامها، ويروي أنّه عثر في إحدى المرّات على امرأةٍ على قيد الحياة تحت جبلٍ من الجثث.

يعلمهم المرشد أنّهم سيتابعون رحلتهم الآن حتى يصلوا إلى بيركناو مع غروب الشمس. كان السجناء يُنقلون في القطار إلى معسكر الإبادة هناك، حيث كانوا يجبرون على الوقوف في صفوف. يعبر ديستلمانز ببعض الأسلاك الشائكة، وهو الآن مستعدّ للكلام. يتحدّث عن الأبوية الخاطئة التي يتّسم بها الأطباء، فالطبيب الأبوي هو ذاك الذي يرغم مريضاً ما على الحياة، ذاك الذي دائماً ما يعلم أفضل الأمور، فيحاول أن يقنع المريض بقبول العلاج، عوض أن يكتفي بإعلامه بخياراته. يحرّك ديستلمانز يديه في الاتجاه المعاكس ليثبت وجهة نظره، فالمريض هو اليد السفلى، فيما الطبيب هو اليد العليا. يكره ديستلمانز السلطة ويتذكّر أنّه ارتاد في صغره مدرسة يسوعية، كان الطلّاب فيها يكافَؤون بعلاماتٍ إضافية إذا ما وشَوا بأولادٍ آخرين.

يسير كيرس خلف الطبيب الذي مرّ 20 عاماً على معرفته به. كيرس كاثوليكي أمّا ديستلمانز فملحدٌ. يعترف الأوّل بأنّه اضطرّ إلى الجلوس أمام أنقاض غرفة غاز لأنّ لم يعد يتحمّل الاستمرار، فهذا مكانٌ خالٍ من الأمل. ثمّ يؤكّد أنّه يشجّع مرضاه الميؤوس من شفائهم على اختيار الاستمرار في الحياة في كلّ مرّة يستشيره فيها أحدهم، ويفسّر: {إنّهم وحيدون في آلامهم، ولذا عليّ أن أعطيهم أمراً يتطلّعون إليه، عيد ميلادٍ آخر، وزواج آخر، ورحلةٌ أخيرة على شاطئ البحر، وإمساك يد شخصٍ، وما شابه، وإلّا فإنّ الخوف يغدو أمراً لا يُطاق}.

يغادر الأطباء المباني بعدما شهدوا فيها الحدّ المهول من الحرية في سعيهم إلى اكتشاف ما تعنيه الحرية التي لا حدود لها.

يقول الأطباء بغالبيتهم، بمن فيهم ديستلمانز، بعد انتهاء زيارتهم أنّ أوشفيتز حرّكتهم، وباتوا بشراً أكثر تعاطفاً في تفاعلهم مع المرضى.

لكن وبخلاف الآخرين، جاء ديستلمانز إلى أوشفيتز وقد وضع جدول أعمال: أراد أن يفهم زملاؤه تعريفه الحريّة، آملاً أنّهم قد يقرّون بأن لا يمكن للحرية أن تكون إلّا إن حرّر الناس أنفسهم من سلطة الآخرين. ديستلمانز راديكالي يفكّر في القيم المطلقة، فهو لا يعتقد أنّ حرية خيار المريض في ما يتعلّق بحياته الخاصّة يمكن أن تكون أمراً ساحقاً بالنسبة إليه، ولا يعتقد أنّ شخصاً ما يترنّح ما بين الحياة والموت يحتاج إلى شخصٍ ينهيه عن الانتحار.

يعمّ الهدوء في الحافلة في طريق العودة إلى كراكوف. حلّ الظلام وأرخت الغابة بظلال أشجارها أمام المصابيح الأمامية في الحافلة. قبل بعض الوقت، فيما كان ديستلمانز لا يزال واقفاً أمام أنقاض غرفة الغاز، تلقّى اتّصالاً من عائلة في بلجيكا، طلبت إليه أن يساعد مريضاً غير قابلٍ للشفاء كان قد دخل في غيبوبة على إنهاء حياته. أجاب أنّه لا يستطيع فعل أيّ شيءٍ ما دام المريض لم يكتب طلبه هذا، ثمّ أطفأ هاتفه الخلوي.

أزعج موقف العائلة الطبيب، مشيراً إلى أنّه في حال كان هذا المريض واعياً، لشعر بأنّه يزعج عائلته إلى حدّ أنّه من الأفضل له أن يموت، وأضاف: {لا نصنّف الأشخاص، نحتاج إلى الحرية في الموت، لكن يُستتبع أيضاً من ذلك حرية ألّا نمارس هذا الحقّ}.

موت رحيم في بلجيكا

كان ديستلمانز مرتاحاً يومها في بروكسل وفخوراً بما أنجزه. تحدّث عن أفلامه المفضّلة للمخرج الألماني ويم وندرز، ثمّ تلا بعض الوقائع عن بلده، أصبح قانونياً من العام 2002 للطبيب أن يقتل مريضاً ميؤوساً من شفائه يتمنّى أن يموت. في العام الماضي، أجرى 1807 أشخاص عملية الموت الرحيم، أي ما نسبته 2% من الوفيات في البلد. في خلال الأشهر الأخيرة، أصبح بإمكان الأطفال الميؤوس من شفائهم أن يقدّموا طلباً لإجراء العملية، مهما تكن أعمارهم. يستطيع أيّ شخصٍ يعاني مرضاً ميؤوساً من شفائه وباتت آلامه لا تُطاق أن ينال مساعدةً على الانتحار. ما هو حدّ ما لا يُطاق؟ يجيب ديستلمانز: {يعود إلى المريض أن يحدّد ذلك}. تحدّث عن ألمانيا، واعترف بأنّه يشعر بالأسف على كلّ مريضٍ لا يملك المال ليسافر إلى سويسرا، حيث تُعتبر المساعدة على الانتحار أمراً قانونياً.

يجب أن يتمتّع من يريد الانتحار بمساعدة الغير بحالة ذهنية سليمة في بلجيكا. عليه أن يكتب طلبه ويعبّر عنه في عددٍ من المناسبات. ثمّ يعود إلى الطبيب المعالج أن يحدّد إذا ما كان المريض يعاني مرضاً لا شفاء منه وأن يشرح له عن العلاجات التي لا تزال ممكنةً. ينصّ القانون على ضرورة أن يتوصّل الطبيب والمريض إلى خلاصةٍ مفادها غياب أيّ حلّ آخر قابلٍ للتطبيق. إذا كان المريض سيموت في المستقبل القريب على كلّ حال، لا يعود إلّا لطبيبين أن يجزما بشأن طلبه. أمّا في حال غياب أيّ إنذار يتعلّق بعمر المريض المتوقّع، فيجب عندئذ استشارة ثلاثة أطبّاء.

موت رحيم لنازي

في الليلة الأخيرة في بولندا، يرافق ديستلمانز مجموعته إلى مطعمٍ في الحي اليهودي القديم في كراكوف. يعزف أحدهم على الكمان والجوّ لطيف، فيما يتحدّث الأطباء عن أولادهم والإجازات في السويد. وفي وقت لاحقٍ نحو منتصف الليل، يعود النقاش ليدور حول عملهم، فيناقشون حالة زميلٍ لهم في المجموعة سأل إذا ما يُسمح له أن يساعد نازياً على الانتحار. المريض مشلولٌ من أحد طرفيه وعضوٌ سابقٌ في منظمة فافن أس أس النازية العسكرية، ولا يزال يضع صورةً لهتلر فوق أريكته. رفض الطبيب الزميل أن يجري له عملية الموت الرحيم لأنّه يشعر بأنّ النازي لا يستحقّ موتاً سهلاً غير مؤلمٍ. يعلن زميلٌ آخر بجواره: {لا يمكنني أن أتعاطف مع معاناته لأنّه شخصٌ لا يفكّر ويتصرّف بشكلٍ طبيعي، وإذا ساعدته على الانتحار، سأشعر بأنّني مجرمٌ}.

ديستلمانز جالسٌ بالقرب منه لا يفتح فاه. لدى عودته إلى العمل في بلجيكا نهار الاثنين الأسبوع التالي، يروح يتذكّر ذاك الحوار. ها هو مجدّداً يرتدي ثوب الطبيب ويقف في غرفة إحدى المستشفيات في بروكسل. تفقد الأشجار المبتلّة في الخارج أوراقها ويراها ديستلمانز عبر النافذة. يحضر مرضاه إلى هنا قبل أن يمنحهم الحقنة الفتّاكة، فيرون الأشجار ويلاحظون أنّ أصدقاءً آخرين يمكنهم الانضمام إليهم أمام هذه النافذة الواسعة. ويؤكّد ديستلمانز أنّه غالباً ما يجب أن يأتي هو أيضاً إلى هنا حتى يبدّد أفكاره السلبية.

ينظر عبر النافذة ويجتاح نفَسه الزجاج. يفكّر لبرهة في قصة النازي، ثمّ يعترف بأنّه يقبل إجراء عملية الموت الرحيم إذا ما كان الطلب يتناسب والقوانين، ويجريها احتراماً لمعاناة الرجل والإنسانية، بوصف الموت الرحيم في هذه الحالة فعل حبٍّ غير مشروط.

back to top