دكتاتوريتان مذهبيتان عربيتان وديمقراطية علمانية كردية وجه من التناقضات العراقية

نشر في 29-11-2014
آخر تحديث 29-11-2014 | 00:01
 أنس محمود الشيخ مظهر الديمقراطية حالة تفاعلية بين المجتمع والأفكار السياسية التي يتبناها ذلك المجتمع، وقد أثبتت التجربة أنه ليس بالإمكان تطويع مجتمع ما قسرياً للحالة الديمقراطية ما لم يكن هو نفسه مهيأً لذلك، فقد أمَل العراقيون خيراً ولادة نظام سياسي ديمقراطي يكون فيه تبادل السلطة على أساس دستور يكتبه ويقره الشعب نفسه، ويلتزم به السياسيون، لكن ما حصل هو أن العراق خرج من دكتاتورية فردية ليقع في مطب دكتاتورية جمعية مركبة تتكون من أطواق متعددة، تتأسد على شعبها وتخضع لأوامر دولة جارة لا يمكن اعتبارها من الدول الكبرى، وليست هناك دواعٍ سياسية حقيقية للدخول في فلكها والدوران حولها، إلا ما تمليه مصالح المكون الذي يمثل الأغلبية في البلاد. وقد استطاعت (الجارة) إيران تمرير مشروع لن نقول عليه طائفياً بقدر ما هو متناسق مع أجنداتها كدولة إقليمية مؤثرة مقابل حماية (سوف) توفرها طهران لهذه الدكتاتورية.

فمبدأ الديمقراطية السياسية الذي يعتمد على حكم الأغلبية استُغِل من قبل المكون الشيعي، لينحو منحى أغلبية مذهبية سياسية تحيّد كل ما سواها، وترسخ وجود أحزاب عقائدية تتخذ من الطرح المذهبي وسيلة لحشد الشارع خلفها، ساعدها في ذلك تجذرات تاريخية تشكلت على أساس الشعور بالمظلومية، ما جعل هاجس رجوع عقارب الساعة إلى الوراء وفقدان السلطة مبدأ يعمل عليه هذا المكون ليحول دون احتمال حدوثه. وبذلك نشأ أول أطواق الدكتاتورية في عراق ما بعد الألفين وثلاثة.

لم تتوقف ملامح الدكتاتورية في علاقة هذا المكون مع المكونات الأخرى، بل تجاوزته إلى الطوق الثاني من الدكتاتورية داخل المكون نفسه، بمباركة وضغط إيرانيين، فبدأ الحديث عن البيت الشيعي، لينتهي بتشكيل أول تركيب سياسي يتألف من أحزاب وأشخاص يتوافقون مع الأجندات الإيرانية في العراق والمنطقة، واستُبعدت عنه أحزاب أو شخوص شيعية ليبرالية لها توجهات لا تتطابق بالضرورة مع وجهة النظر الإيرانية.

داخل التحالف الوطني يوجد طوق ثالث من الدكتاتورية يبعد ويحيد أي توجه سياسي لا يتبنى النظرية العقائدية الشيعية كمنطلق للعمل السياسي، فالأحزاب والشخصيات غير الإسلامية في هذا التحالف لا تستطيع أن تحصل على فرص حقيقية للعمل السياسي داخل التحالف ولا أن تحصل على البركات الإيرانية إلا من خلال الطرح المذهبي الشيعي الذي يفرض دكتاتوريته على تركيبة التحالف الوطني من الداخل، فشخص مثل شخصية أحمد الجلبي مثلاً، ورغم براعته السياسية ونسيج علاقاته العنكبوتية، لم ينجح طوال الانتخابات الثلاثة السابقة في شغل منصب وزاري في الحكومات الثلاث الماضية على أقل تقدير.  أدت هذه الأطواق الثلاثة إلى انحسار التجربة الديمقراطية في العراق، لتضاف إليها تجربة المالكي في رئاسة الوزراء الذي حاول تعزيز أطواق الدكتاتورية هذه واستغلالها كي تدعم طموحاته في بناء دكتاتورية فردية جديدة أطيح بها بصعوبة في الانتخابات الأخيرة بتدخلات دولية وإقليمية.

وبدلاً من معالجة هذه الظواهر الخطيرة في العملية السياسية بعلاج جذري، فإن ما نتلمسه الآن في العراق هو محاولة لإزالة ترسبات تجربة المالكي ومظاهرالحكم الفردي فيه والإبقاء بل وتعزيز التركيبة المعقدة الأخرى من الدكتاتوريات، من خلال تحويل التحالف الوطني إلى مؤسسة يصدر منها القرار الحكومي بدلاً من شخص رئيس الوزراء، وأن التوافق الذي حصل في اختيار حيدر العبادي لمنصب رئاسة الوزراء لا يخرج من هذا التوجه، فمؤهلاته الشخصية لا ترشحه للاستفراد بالسلطة بقدر ما ترشحه لوضع كل القرار الحكومي بيد التحالف الوطني، وهذا ما يحاول التحالف ترسيخه بدعم إيران.

في الجانب الآخر، فإن المكون السني العربي يستغل وجود تنظيم داعش الإرهابي للمراهنة على مستقبله ضمن الوضع العراقي، والدفع باتجاه تهذيب التوجهات الشيعية في العراق مادام ليس بمقدوره تغييرها جذرياً، فما نراه الآن من محاولة تسابق مع الزمن يقوم به المكون السني للتوازن بين عملية محاربة هذا التنظيم وطرده من البلاد وبين استغلال وجوده هو لإحداث تغير جذري في العملية السياسية والحصول على مكتسبات سياسية تصب في صالحه.

في هذه المعمعة يقف إقليم كردستان بين الطرفين محاولاً إنقاذ مكتسباته ضمن هذه الأوضاع والمتغيرات التي يهيئ الآخرون لها، كي لا يكون التغير القادم في العراق على حسابه، فوجود حكومة إقليم كردستان التي تتبنى الطرح العلماني وتتوجه بثبات مع الحراك الديمقراطي كضرورة مرحلة ومطلب سياسي يتبناه السيد مسعود البرزاني بشخصه... وجود هذا الإقليم في عراق تتقاذفه توجهات تسلطية مذهبية ممزوجة بتجذرات تاريخية تتجه في أحسن حالاتها إلى دكتاتورية المذهب من الطرفين العربيين.. يمثل مشكلة حقيقية لا يمكن معها التوصل إلى حلول مشتركة ونقاط التقاء، كونهما خطين غير متوازيين، والتصادم بين ما هو موجود في كردستان من توجه ديمقراطي حقيقي، وبين ما هو موجود من تقهقهر للديمقراطية في الأجزاء العربية من العراق قادم لا محالة، ونتمنى ألا يكون تصادماً مسلحاً، وأن يبقى في حدوده السياسية.

* كردستان العراق – دهوك

back to top