أرجوحة الموت... لعبة أطفال سورية

نشر في 29-11-2014
آخر تحديث 29-11-2014 | 00:01
ماذا تفعل يا ماجد؟ يجيب: {أسقي أمي}. يجرّ ماجد دلواً أزرق كبيراً ممتلئاً بالماء يعجز عن حمله على العشب الذابل. ولكن لمَ تسقي أمك؟

بدا هذا الصبي في الثالثة عشرة من عمره حائراً، كما لو أننا طرحنا عليه سؤالاً غبياً لا يسأله سوى شخص غريب. يقول: {لأنها هنا}. ويروح يصبّ الماء على تلة محاطة بصف من الحجارة هدفها رسم حدود القبر. تظلل شجرة صنوبر قديمة المكان. ولكن حتى اليوم، لم ينبت أي زرع حيث دُفنت والدة ماجد. لكنه يؤكد بصوت حازم وهو يسير عائداً لإعادة ملء الدلو: {علي أن أسقيه. عندئذٍ سيطلع نبت ما بالتأكيد}.

كل يوم، يلتقي أولاد من حي صلاح الدين في حلب في ملعب محلي. ويستمتعون بلعبة الحرب، في حين تشتعل نيران الحرب الحقيقية على بعد أمتار قليلة. لكن الموت بدأ يخترق عالمهم الصغير تدريجاً. «شبيغل» زارت المكان وكتبت عن الحرب.

ماتت والدة ماجد في الصيف. ولكن ما كان أحد في العائلة يملك المال الكافي لشراء شاهد قبر ملائم أو حتى حدود للموقع. يوضح ماجد: {ماتت بسبب قلبها، كانت في منتصف ثلاثينياتها}. لا يملك الصبي تفاصيل أدق، فلا أحد في حلب يسأل عن سبب موت شخص ما. يجرّ ماجد الدلو الثالث الممتلئ إلى القبر، كما لو أنه يحاول تقبّل أمر ما كانت له يد فيه، كما لو أنه يستطيع تحقيق نصر صغير ضدَّ الموت.

يعود ماجد بعد ذلك إلى الأولاد الذين يلعبون في الرمل القريب. في هذا الملعب مجموعة من الأراجيح، زحلوفة، لعبة التأرجح صعوداً ونزولاً، وكومة صغيرة من الرمل. ويشكّل هذا المكان الملعب الوحيد المتبقي في منطقة صلاح الدين في قلب حلب. يأتي الأولاد إليه كل يوم، يكونون نحو 12 ولداً حيناً و15 أحياناً. يقصدونه من الحي المجاور، فيلهو الصغار بملء قناني البلاستيك المقطوعة إلى نصفين بالرمل. يصيح جوجو البالغ من العمر خمس سنوات: {نعد الطعام!}. أما الأكبر سناً، فيلعبون {الحرب}. يتمايلون معاً على الأعمدة وينزلون بسرعة على الزحلوقة.

تسمع من المناطق المجاورة طلقات نارية تكون تارة معزولة وصوراً متلاحقة. كذلك تهزّ الانفجارات الدورية المباني المحيطة. لكن ماجد، جوجو، وآخرين لا يأبهون لذلك كله. لا تعود لامبالاتهم هذه إلى استخفافهم بالخطر، بل إلى فهمهم هذا الخطر جيداً. يقول عماد (11 سنة) بعد سماع دوي خافت: {هاون! صوت قذائف الدبابات مختلف}. ويضيف موضحاً أن صوتها يكون عادةً أعلى.

قواعد نجاة غريبة

صارت أذان أولاد حلب مدرَّبة على الأصوات التي ترافق الموت، وخصوصاً مَن يلهون في آخر ملعب صلاح الدين. يقع الملعب على الجبهة مباشرة، ويمثل الشارع التالي خط إطلاق النار بالنسبة إلى قناصي النظام. ولهذا السبب نُصب حاجز عند التقاطع قرب الملعب. وبات جدار الملعب المواجه لذلك الجانب من المدينة يشكّل الحد الفاصل بين الحياة والموت، حتى إن رائحة الجثث المتحللة تملأ أحياناً الجو.

وُضعت في سورية قواعد نجاة غريبة، من بينها: كلما اقتربت من الجبهة، تراجع خطر البراميل المتفجرة، تلك الحاويات المعدنية المليئة بالمتفجرات والكرات المعدنية التي يصل وزنها إلى نحو طن. تُلقى هذه البراميل من مروحيات تحلّق على علو آلاف الأمتار، وتؤدي الرياح غالباً إلى خروجها عن مسارها. نتيجة لذلك، تتفادى المروحيات الأماكن حيث لا تتعدى المسافة الفاصلة بين جنود الحكومة وبين الثوار المئة متر. في هذا المكان، يفصل بين هاتين القوتين المتحاربتين شارع سكني واحد. لذلك لا تشكّل حتى قذائف الدبابات خطراً.

في المناطق الأخرى كافة في النصف الشرقي من هذه المدينة الكبيرة، التي كانت تعد أكثر من مليوني نسمة، بات الموت ينهمر من السماء أكثر من أي وقت مضى. فقد تضاعف عدد البراميل منذ شهر أكتوبر، حتى إنه ازداد بنحو ثلاثة أضعاف في مدن أخرى في شمال سورية. ومجدداً، يوشك الجيش السوري أن يحاصر الثوار في حلب.

لكن الأوضاع في هذا الملعب تبدو طبيعية على نحو غريب. فعلى قاب قوس من الحرب، يتأرجح الأولاد ويتزحلقون، إلا أن الكلمة التي يكثرون في ترديدها تبقى {عادي}. وهكذا يكون واقع أنهم يلعبون في مكان ملاصق لخط نيران القناصة {عادي}، أن القبور باتت قريبة جداً منهم {عادي}، أن كثيراً من أبائهم وإخوانهم وأقاربهم اختفوا أو قُتلوا {عادي}، وأنهم هم أنفسهم رأوا الموت مراراً {عادي}.

ما عاد عماد، ماجد، وصديقهما أحمد (13 سنة) يلهون بالرمل لأنه مخصص للأطفال، على حد تعبيرهم. يخبر أحمد بصوت مرتفع: {نلهو بلعبة الحرب بين جيش الأسد والثوار}. ويضيف هذا الصبي الذي لم يدركه بعد سن البلوغ: {نحارب، ننصب الكمائن، ونأخذ أسرى}. يتسللون أحياناً من وراء الكوخ، وفق أحمد، أو يظلون قريبين من جدار الحماية، إلا أنهم لا يخرجون مطلقاً من محيط الملعب. كذلك لا يغامرون بدخول ما تهدم من الحي. يوضح: {تقول أمي إن هذا الأمر غير مسموح}.

ملعب متقلص

يخبر أحمد أن والديه صارا اليوم يريان بسهولة الملعب بعدما تعرَّض المبنى الذي يقطنونه للقصف: {اختفى الجدار الذي تخللته النوافذ}. يؤكد أنه هو وأصدقاؤه يلعبون بعدل: {يفوز هذا الطرف حيناً وذاك أحياناً. ويعتمد النصر على مَن ينصب الكمين الأفضل}. يملك ولد واحد في المجموعة لعبة كلاشينكوف حقيقية. أما الباقون، فقد أعدوا الأسلحة من العيدان والأغصان وقطع البلاستيك.

تعرَّض آلاف الأشخاص في حلب، كثيرون منهم أولاد، للتفجير أو القتل رمياً بالرصاص أو سحقاً تحت أنقاض منازلهم المنهارة. ولكن بالنسبة إلى مَن نجوا، أولاد لم يعيشوا إلا الحرب خلال جزء كبير من حياتهم، تحوَّل الجهيم المحيط بهم إلى واقع باهت في هذه الحياة. لذلك يواصلون اللهو، في هذا المكان على الأقل.

لكن المساحة المتوافرة لألعابهم تتقلَّص كل أسبوع. يشكل هذا المنتزه الذي كان هادئاً وجميلاً بأشجاره الصنوبرية القديمة المساحة المفتوحة الوحيدة المتبقية في هذه المنطقة. ويحتاج الناس إلى مكان ما ليدفنوا فيه الموتى. هكذا عثروا على مثوى أخير لهم هنا. عندما ينتهي أحمد والآخرون من اللعب، يسقون القبور المصفوفة، علماً أن كثيراً منها لا يحمل حتى لوحة تدلّ على اسم صاحبه. يُدفن الشهداء وسكان الحي قرب المدخل. أما في الخلف قرب جدار الفصل بين المنتزه وبين خط إطلاق النار، فتجد جنود النظام و{الشبيحة»، رجال ميليشيات جُندوا عموماً من أحقر المجرمين في الحي.

تحت كومة الرمل حيث يلهو الأولاد الصغار بقايا ثلاثة مجاهدين فجروا أنفسهم في مكان قريب في مطلع شهر يناير. يخبر عماد: {لربما كانوا أربعة. كانت الأشلاء كثيرة، فصعب علينا التحديد. صب الرجال من الثوار الرمل عليهم}. ويضيف آخرون أنهم لا يحبون المجاهدين في مطلق الأحوال. {يضربوننا باستمرار ويريدون حملنا دوماً على الذهاب إلى المسجد للصلاة. لكننا نرغب في اللعب}.

إذاً، تعود هذه التلة ورمالها إلى أن بعض المتشددين من داعش فضّل تفجير نفسه على الانسحاب عندما حاول الثوار السوريون إخراجه من المدينة في مطلع السنة. ولكن بما أن الناس لم يعرفوا أي ذراع تعود لأي رجل، لم يتمكنوا من دفنهم في قبور ملائمة. لذلك دُفنت أشلاء الأجسام المدممة تحت الرمل، وأضيفت كميات أخرى من الرمل إلى أن شكلت تلة في النهاية.

القصة كاملة

يشير الأولاد: {لا نسقي سوى الشهداء}. هذا تفصيل مهم، ويردده عماد مرات عدة. وكما يحمل ماجد الدلو تلو الآخر إلى قبر أمه، يتولى آخرون الاعتناء بقبور أفراد عائلاتهم أيضاً. فتخال أن هذا العمل البسيط يمنح الأولاد نوعاً من الاستقرار وسط الفوضى المحيطة بهم: {لا تسقِ القبور الخطأ}. صحيح أن هذه ليست حربهم، إلا أنهم يخسرون فيها آباءهم وإخوتهم وأقاربهم وأمهاتهم. يرقدون هنا على بعد أمتار قليلة عمن حاربوا إلى جانب القتلة. لكن هذه القبور لا تحظى بأي ماء من الأولاد.

قبل سنتين، خرج شقيقه أحمد ليبحث عن الخبز لأن الفرن المحلي ما عاد قادراً على تأمين الخبز، إلا أنه لم يعد. وذهب قريب أحمد ليقص شعره، واختفى هو أيضاً، كذلك شقيق عماد. يستطيع الأهل الذهاب للبحث عنهم. وقد أُقيم في وسط حلب مركز تُجمع فيه صور الجثث المجهولة الهوية. ويقوم شرطي متقاعد في هذا المركز بجمع مقتنياتها في أكياس صغيرة ويدخل البيانات ويحدد المكان الذي عُثر فيها عليها في كتيب صغير. إلا أن عملية البحث هذه تكلف المال والوقت والطاقة، علماً أن هذه موارد قيمة يحتاج إليها معظم الناس في حلب للبقاء على قيد الحياة.

هل يعتقد أن أخاه قد يعود ذات يوم؟ يطقطق عماد بلسانه ويرجع رأسه إلى الخلف. يلتزم الصمت لبرهة قبل أن يتنحنح ويجيب: {رحل أخي ولم يعد. هذه هي القصة بأكملها}.

ليس محرماً الحديث عن أمور مماثلة. ولكن من العقيم توقع جواب. أوقف والد ماجد ولم يعد هو أيضاً. وعلى نحو مماثل، اعتُقل والدا صبيين آخرين عند نقطة تفتيش.

{أريد والدي}

يرفض حسن البالغ من العمر خمس سنوات أن يذكر لمَ اعتُقل والده أو حتى أن يقر بأنه رحل. اغرورقت عيناه بالدمع عندما سارع ولد آخر إلى القول: {لكنه مات منذ زمن بعيد}. يسمعه حسن ويستشيط غضباً ويشد قبضتيه استعداداً لتسديد اللكمات، إلا أنه سرعان ما يرخي ذراعيه استسلاماً: {أرغب في استعادة والدي فحسب}.

صحيح ان أعداد القبور بدأت تقضم أجزاء من الملعب من الجانبين، إلا أن حديقة خضراء تشغل الجانب الثالث. زرع أحد الجيران الحديقة في الربيع، ما أغضب قادة الثوار المحليين، الذين كانوا قد أعلنوا تحويل كامل هذا الموقع إلى مقبرة.

يشتكي بكري محسوم: {يريدون أن أرحل، إلا أني أروي هذا المنتزه منذ سنوات وأعتني بالحديقة يومياً. هذه الطماطم والكوسا والبامية للجميع في الحي}. وما زاد الطين بلة أن حديقته طغت على قبرين قبل مدة، مع التفاف نبات الكوسا على الشاهدين.

موت وحدائق، قبور وكوسا، رمل للعب فوق أشلاء جثث، يضمّ هذا المكان كل ما ميَّز حلب منذ أشهر: جنون لا يُسبر غوره تحت قناع رقيق من الحياة الطبيعية.

أزت رصاصة. صعدت هرة إلى سطح كوخ متداعٍ قرب الجانب الخطر. لحقها ولد قدم أخيراً إلى الحي، فتمكَّن القناصة من الجانب الآخر من رؤيته لمدة وجيزة. ولكن من حسن الحظ أن أحداً لم يصب بأذى وعاودت الهرة النزول. صاح البستاني من وراء نباتاته محذراً من الصعود إلى السطح لأنه خطير.

ولكن ما هي إلا دقيقة حتى نسيت هذه الحادثة. يخبر أحمد أن صديقه سمير تعرَّض لإطلاق نار في يده عندما كان يساعد والده الذي حاول سحب أحد الجيران المصابين من مرمى النيران. اعتاد الأولاد الخروج مع عائلاتهم أيام الجمعة، حسبما يذكرون. كانوا يقصدون الريف لزيارة أجدادهم أو ينزلون إلى الشارع لشراء المثلجات. يقول ماجد بسرعة: «نعم، كانت الأحوال جميلة». كان يهمس كما لو أن العودة إلى هذه الذكريات القديمة خطر.

افتقاد المدرسة

أصبحت المدرسة أيضاً جزءاً من الماضي. في البداية، قبل نحو سنتين ونصف السنة، استمرت الدروس رغم القتال، وفق ماجد. {ولكن بدأ قصف الصواريخ بعد ذلك، وصرنا نتنقّل من مدرسة إلى أخرى لنصل أخيراً إلى القبو}. إلا أن عدد التلامذة بدأ يتضاءل بمرور الوقت. فقد هربت عائلاتهم، تعرضت للقتل، أو تخشى أن تسمح لأولادها بالخروج من المنزل. يوضح ماجد أنه يفتقد إلى المدرسة. لكنه يفتقد أكثر إلى الشقيقتين نور وريم (16 و17 سنة) اللتين كانتا تعلمانهم القراءة والكتابة واللغة الإنكليزية هنا في الملعب: {كانتا تعاملاننا بلطف}.

ترقد الشقيقتان اليوم في أجمل قبر في الملعب. يحمل القبر شاهداً رخامياً يحمل أسماء أفراد تلك العائلة الذين قُتلوا في انفجار الربيع الماضي. تأتي أمهم إلى القبر كل يوم، وتصطحب معها أحياناً صديقة، كما فعلت في ذلك اليوم. فراحتا تتحدثان عمَّا هو الأسوأ: خسارة الأولاد على غرارها أو خسارة الزوج كما حدث مع صديقتها. وما كانتا قد توصلتا بعد إلى اتفاق عندما رحلتا، تاركتين القبر الرخامي للأولاد. يحب الأولاد الجلوس هناك في شمس الخريف بعد الظهر.

إلى أين ستذهبون عندما يمتلئ هذا المكان بالقبور أو إذا اضطررتم إلى الهرب من جنود الأسد؟

يصيحون جميعاً: {سنذهب عندئذٍ للعب في مكان آخر}. لكن ماجد يصرّ أن عليهم العودة إلى هنا من حين إلى آخر. ويهزّ الآخرون رؤوسهم كما لو أنهم تذكروا فجأة أمراً غفلوا عنه. يضيف: {علي أن أحمل الماء إلى أمي}.

* كريستوف رويتر | Christoph Reuter

back to top