ذاكرة الرّصيف

نشر في 29-11-2014 | 00:01
آخر تحديث 29-11-2014 | 00:01
No Image Caption
انتهى به الأمر تحت السور.

كان «تحت السور» مقهى معروف التقت فيه مجموعة من أدباء تونس ومثقفيها زمن الاستعمار الفرنسي في ثلاثينيات القرن العشرين.

أمّا هو، فقد انتهى به الأمر تحت سور غير سور كتاب زمن الاحتلال، أو المبدعين. شتان ما بينهُ وبين هؤلاء. شتان بين من أهدى حياته للإبداع ومن تمخضته الحياة مأساة لم تحتج إلى مخيلة. شتّان ما بين مقهاهم وسوره. فسوره جاهل، غير مهذّب، لا ينظّر لسياسات ولا يرتجل شعراً ولا يرتاد ندوات أدبيّة ولا مجالس فنيّة. سوره اليوم هو سور العاجزين.

يقولون إنه مجنون، إنه مجرم، إنه هارب من مصحة عقلية، أو العدالة، المهم أنه غريب وفي قرابة العشرين سنة في الحي ذاك، سمع آلاف النظريات، حتى كاد يؤمن بها من فرط التكرار. جيّدٌ أنّه فكر منذ زمن في أن يدوّن حقيقته، وإلا ربما ضاعت منه هي كذلك.

استقرّ على الرصيف في هذه الرقعة من الأرض منذ عشر سنين، لا يبرحها، ويقصدها كما يقصد البيت، والمأوى. رأى في هذا الجدار شبه المهدم شبيهه فصار له توأماً. هو جدار مشروخ ومتروك ومتهالك، ورغم ذلك صامد وعريق. رأى في الصرصور الفضولي المتجوّل خارج الجارور ليلاً روحاً صديقة. فصار سمير لياليه. يمرّ على الشريد ناس لا يلقون السلام، ولكن الصرصور يحدثه دائماً. يأتي إليه، يقرئه السلام ويشاركه فتات خبزه المتيبّس. يحمي الشريد هذا الصرصور الصديق من نظرات نعال المارّة المستفزة. حرام أن يفنى بضربة نعل. فتاريخ الصرصور أطول من تاريخ البشرية وحصارته أبقى. وحين تنتهي الحضارات هذه، ينتهون هم، ويبقى هو.

يعمل الشريد ظلاّ لهذا السّور في وقت فراغه، وما أكثر وقت فراغه. قرابة عشرين سنة يعيش بتؤدة. عاش بعضها في مسقط رأسه جنوب البلاد هرباً من العاصمة، حتّى اكتشف أن التجاهل موهبة لا يملكها، كما لا يملك نعمة النّسيان.

الذكريات تلحقه ولا يريد أن يعتق نفسه من أغلالها. قريته ومسقط رأسه محمّلة وجعاً، لكنّ وجعه الحيّ يسكن الجزء الشّمالي من البلاد، في العاصمة. وفي العاصمة إذن، كان منفاه الإرادي. أراد أن يعيش جرحاً في عين من عاش خنجراً في قلبه، وشظية في ذاكرته.

يتّخذ هكذا الوقت معنىً عندما لا تكون هناك مواعيد يلهث وراءها، ولا ناس يقابلهم ولا عمل ينتظره. يشعر بأن حياته طالت، أن زمنه كزمن الفراشة التي تعيش كل الحياة بمراحلها من الولادة والطفولة والكهولة والشيخوخة في يوم قصير الأمد وطويل التّجربة. يوم بطول حياة، وأيامه في التشرد عديدة لا يدري آخرها ولا يريد لها آخرة. هذه الحياة، لا يدرك إن كانت بالفعل اختياراً، أو مسلكاً إجبارياً من مسالك حياته.

هو لا يريد أماناً ولا رفاهاً. بل يريد أن يسقط، لأن السّقوط وحده يشعره بحقيقته. لقد أوصد أبواب الرجوع إلى الأمان والراحة وترك مفاتيحها في الداخل عنوة وقصداً.

يظنّ الشريد أنه أوّل من لا يهرب من جلاّده، بل يهرب إليه. لا يستطيع تحمّل البعد عنه، فيقطع المسافات مشياً، علّه يحرّك فيه ساكناً، علّه يرى اضطراباً في عينيه فينتشي من الانتقام الرحيم.

هو قطعاً لا يرغب استحسان جلاده ولا ينتظر منه حبّاً ولا كرماً. فقط لا يستطيع البعد عنه، لا يستطيع أن يمنع نفسه من البحث عنه والبحث فيه عن ملح ذاب فاختفى، لكن خلّف طعمه.

لقد تعب من الملوحة. تعب. أرهق جداً، يودّ الراحة. يحمل حفنة تراب في كفّيه، ويلتهمها.

صرير بين أسنانه، تجربة أكثر من حسيّة، عيون غريبة تلومه وتطلق عليه الاتهامات. أسنان مكشّرة تلتهم لحوم العباد بينما تنتقد أكلة التّراب. أليس من تراب؟ وإلى التّراب العودة؟

نوبة من النوبات التي تنتابه فجأة، يرتعش، تستدير عيناه في حفرتيهما، تظلم الدنيا قليلاً. رغوة تكاد تخنقه. لا يعينه أحد. لا أحد يهتم. لا بأس. لا يهمّ.

جسده الملقى على الأرض، صار كمنحوتة منها. صار من صُلبها، نبتةً تلقائيّة، نمت في طينة رطبة ولزجة. هذه التربة لا تطعمها سوى الفتات، ومع ذلك تبقى النبتة حية. التربة تعطي جذورها المأوى، لكن تذكرها بطفيليتها دون غيرها من النباتات.

لا شيء في جيبه اليوم سوى دفء راحته. لا شيء في صدره كذلك من الأخلاق. لا أحد يلتفت إلى هذه الأخلاق، ثانوية هي، عند التشرد، إن بقي منها شيء.

عينه زائغة. يقال العين مرآة الروح. عينه لا ينظر فيها أحد. ترى إن حدق في عينيه أحد، هل يرى وجع روحه؟ هل يرى حبيبته التّي سافرت وتركته؟

لقد انتظرها كما الناسك ينتظر قدوم المسيح. وإن لم تأت، فقد كفاه شرف الانتظار.

يحبّ محمّد أن يتذكّرها. صورتها هي ذلك الشّيء الذي يغيّر رتابة يومه. هي الأشياء غير الملموسة التي تترك أثراً وشروخاً دائمة في الذّات. لذلك الله لم يلمسه أحد، ولم يسلّم بدوره على أحد. رئتا الشريد تنهلان من الهواء بينما ينهشهما البرد، مسامير تنغرس بتؤدة وحدّة في صدره الملفوف بالثلج، ونظرة حادّة، يلمع فيها الجنون تخترق طمأنينة المارّة، وتزعجهم.

اقشعرّت الغيوم. رآها تتّحد في صراع دام وتصرخ. ثم نزفت. جسمه المبلول تحت المطر لم يرتعش. قشعريرة البرد أمر حصريّ لمن اعتاد الدفء والسّلام، ونعومة الوسادة، وأحضان السرير. هو لم يملك ذاك التّرف إلاّ لحظات قليلة لم تغنه من جوعٍ.

كان يحبُّ هطلَ الأمطار دموعاً إلهيةً تغسل جراحه وآثام من شرّدوه ولم يملك غير حبّه لهم. وهو فعلاً أحبّهم، أحبّ كلّ واحد فيهم أو على الأقلّ هذا ما يذكره، أو يعتقده، أو يتخيّله. لكنّ الحبّ لم يكن كافياً. لم يكن كافياً لكي يبقى معه أحد. إذ إنّ كل من أحبّه قد تركه ومضى، من سفر مؤقت إلى أبدي، حتّى اختلطت عليه الخرائط وضاعت إشارات المرور وتمازجت حدود مملكتي الغيب والدنيا. وأحياناً لا يعلم الشريك أيّهما يسكن.

كان إذن مستلقياً تحت السور فاقد الإحساس بالوقت والذات. لكنّه لم يكن فاقد الذاكرة. ذاكرة تجسّدت حبراً وورقاً، بينما كاد يفنى لحماً ودماً. تشبّث بأوراقه تشبُّث السّفن بالمنارة. خبّأها في معطفه، وحماها من البلل إلى أن خفَّ المطر.

غريبة هي صورة العالم من الأسفل، من الدّرك.

خطى سريعة خاطفة كأنّ الموت يطاردها لا تلوي على شيء، تلاحق قطار حياة فلّ أصلاً ولا تنفع مطاردته. جميل أنّه في تشرّده جمع وقت العالم أجمع، في حين أنّ العالم أجمع يُلاحق ما لا يدري وما لا يريد.

خطىً أخرى متمهّلة بطيئة، خطى من فقدَ المعنى أو من لم يَطَله، خطى من لا ينتظره أحد. خطى راقصة، خطىً متكبّرة، خطىً حازمة... خطىً على اختلاف الأقدام والأحذية.

خطىً حافية يفضّلها، يحسُّ أنّ أصحابها متواصلون مع الأرض، متواطئون مع الحصى والتّراب، لم يهذّبوا أنفسهم للتّماهي مع ثقافة السّتر والحجب.

تعلّم أن يقرأ الخطى كما يقرأ غيره الفنجان، وأن يفسِّر الأقدام كما تُفسَّر الكفّ.

كعادته يومها كان يستمع للخطى. كان لها تأثير مغناطيسي مخدّر. كادت تأخذه سنة من النوم لولا أن بلغت مسامعه أصداء كعب عال، مختال على استحياء. لا يمكن لهذه الخطى سوى أن تكون لامرأة أحجية.

امرأة هي كلمة مجحفة في حقّها. لا تزال فتاة، فتاة الثامنة والثلاثين. إنها هي! لا مجال لأن تكون غيرها، فلا توجد منها اثنتان. ورغم أنه لم يرها منذ عقدين، فهو لا يزال يستطيع تمييزها.

وخزه قلبه وتسارع نبضه. كادت تصيبه نوبة من نوباته تلك مجدداً. تحامل على نفسه، أنصت بكلّ خليّة فيه.

بمقدوره الآن استنشاق ملامحها، استماع عطرها، التحديق في نعومة بشرتها ولمس صوتها المرتبك الرّنان عن بعد.

ليس هناك خطأ. حواسّه كلّها تختلط، تصير عجينة تشكّلها هي كما تشاء، تصير حاسّة واحدة مرهفة.

إنّها هي، إنّها أسيل، أكيد، وهي تقترب سريعاً، وهو ملقى على الأرض. ستمرّ حذوه، ولن يسمح لنفسه بإفلاتها، بعد كلّ هذا الوقت. لن يسمح لها بأن تتجاوزه وتختفي. مستحيل.

يقدم على الحركة الوحيدة المباغتة التي يستطيعها، يمسك كاحلها فجأة.

«سيّبني! يا خي مجنون؟».

صرخت صرخة حادّة اندلقت كدلو ماء بارد على حماسته. أطلق سراح كاحلها المتأوّه داخل قبضة يده الحرشاء الخشنة، نكّس رأسه تفادياً لعيون المارّة الجائعة لبعض العراك، لمنصّة استعراض عضلات، أو إثبات شهامة زائفة في الدفاع عن السيّدة.

لو علموا كم مضحك استفحالهم، لو علموا أن ذاك الصّراخ الذي أقضّ طمأنينة اللحظة هو تقريباً ذات صراخها اللعوب «يا خي مجنون؟!».

كان مجنوناً بها فعلاً ولا يزال.

ظنّ أنّه ودّعها، ظنّ أنّه استودعها أمان بلاد أجنبيّة قد تكون أكثر رأفة وشفقة على بنت الثامنة عشرة التي كانت حينها. لكنّها هنا. وهو لا يزال هناك.

لم تكبر أسيل، قطعاً لم تكبر. ظلّت كما يتذكّرها ابنة الثّامنة عشرة، طفلةً خائفة.

حركاتها موزونة مغتصبة الطّفولة. لا مكان لعفوية جسد تترجم لغته في قواميس شرقيّة مغشوشة النيّات.

انتظر محمّد كثيراً ليرى القمر يشرق من صفحة الطريق الذي احتضنه، انتظر الشمس لتشعّ في صدره ذي الألم المكبوت.

back to top