من أنا؟

نشر في 29-11-2014 | 00:01
آخر تحديث 29-11-2014 | 00:01
No Image Caption
مع نسمات الغدوِّ المحمّلة بِعبق مياه المحيط المالحة... وبين أصوات الأمواج التي ترتطم بِحوائط الفُلك التي تمخرها... وضمن تلك الأشعة القرمزية التي بانت في الأفق ذي الامتداد... خرج مُساعد القبطان {فرانك} لِيملأ تجويفه الصدري بِذلك الهواء النقي.

كان فرانك أول من خرج من قلب السفينة إلى سطحها هذا الصباح، كان عليه أن يتفقّد السطح حتى يتأكّد أن كُل الأمور على أتُمّها وأنّه لا شيء غير اعتيادي قد يزعج روّاد هذه الرحلة السياحيّة المتّجهة إلى جزر الباهاما.

وصل إلى مؤخرة السفينة لِيُلقي نظرة كما فعل عند المُقدّمة والجوانب، وحينما همّ بِالاستدارة ظناً منه أنّه قد أتمّ تفقّده الصباحي لاحظ شيئاً مريباً.

كان هنالك حبل مربوط بِسياج السفينة، توجّه فرانك إلى ذلك الحبل ونظر إلى طرفه الذي يتدّلى إلى الخارج ناحية المياه.

لقد رأى آخر شيء توقّع أن يراه على رحلة سياحية ترفيهية... هول تلك المفاجأة جعله يفغر فاه ويتجمّد في مكانه عدّة ثوانٍ في محاولة منه لِتصديق عينيه!...

***

{من أنا؟} جملة استفهامية مكونة من كلمتين، اسمٌ استفهامي وضميرُ مُتكلّم، لا أظن أن لها استخداماً على أرض الواقع، إلا مثلاً عندما يُضرب أحدهم على مؤخرة رأسه فَيفقد وعيه، ثم يستيقظ من غيبوبته فاقداً لذاكرته أيضاً، فَيسأل نفسه مجموعة من الأسئلة {من أنا؟ أين أنا؟... إلخ}، إنه سؤال يتّخذه الجميع هزواً، بِمن فيهم أنا! ولكن ما قرأته اليوم جعلني أغيّر الطريقة التي أنظر بها إلى هذه الجملة... وربما جزء من طريقة تفكيري الشخصي أيضاً.

كل ذلك كان بفضل تِلك الحادثة الصغيرة التي تعرضت لها ظُهراً، ولكن قبل أن أبوح بِأي تفصيل عليّ أن أجيب إجابة موضوعية على السؤال الآنف، من أنا؟! حسناً... أنا أُدعى عادل، وعمري سبع عشرة عاماً، أقضي عطلتي الصيفية وحيداً في منـزل جديّ المُسن - والدِ والدتي - سأكون العام القادم في الصف الثاني عشر، أي آخر سنة لي في هذا الجحيم الذي يُطلق عليه اسم مدرسة! حياتي رتيبة مُمّلة، لا شيء مميز فيها، ولكن لا داعي للقلق... فَأنا لست أحد أبطال هذه القصة، ولا حتى الراوي، إنما جلُّ ما سأفعله هو ذكر تلك الحادثة التي جعلتني أطّلع على أحداثٍ لم أكن لأسمع عنها في حياتي كلّها!

ولكن لماذا أقضي عطلتي الصيفية وحيداً في منـزل جدي؟! أين هما والداي؟ حسناً... إنهما يقضيان العطلة أيضاً، ولكن في باريس، ثلاثة أسابيع من السياحة الممتعة في العاصمة الفرنسية، أي نوع من الآباء هما حتى يتركا ابنهما الوحيد عند جدّه المسن ويرحلا إلى أجمل مدن أوروبا للسياحة بدونه؟! حسناً... إنهما الأفضل! ذلك يعني ثلاثة أسابيع من اللهو والتسلية والسهر... ثم نومٌ متواصل! ولماذا يريد أحدنا الذهاب إلى باريس أصلاً؟! ألمشاهدة ذلك البرج المشيد بِالقضبان المعدنية والمدعو بِبرج إيفل؟ لدينا آلاف النماذج المصغرة عنه على أطراف الطرقات... أعمدة الكهرباء والاتصلات! أم لِزيارة متحف اللوفر؟ بالإمكان مشاهدة جميع معروضاته على الشبكة العنكبوتية! أم لِشراء العطور الفوّاحة التي تشتهر بها تلك المدينة؟ بِالإمكان شرائها وأفضل منها من عطّاري دمشق القديمة!... إذن لم كُل ذلك العناء والتكلّف في المال والوقت؟ أليس المكوث في منـزل جدي أفضل بمئات المرات؟... بلى وألف بلى.

جدي يعيش هنا لِوحده بعد أن توفيت جدّتي منذ خمسة أعوام، وها أنا ذا قد أتيته لِأكدر عليه صفو خلوته وروتينه الجاف، أم أنني لم أفعل؟ إنّني في الحقيقة لم أنجح بذلك، فهو ما زال يتناول وجبة الإفطار كل يومٍ صباحاً ثم يذهب إلى المتحف الوطني... فلقد كان مشرفاً على أحد الأجنحة في ذلك المتحف، وذلك قبل أن يُحال إلى التقاعد قبل تسع سنوات، فهو يبلغ تقريباً السبعين من عمره! إلا أنه مازال يذهب لِلدردشة مع أصحابه العجائز هناك، كما أنه يقوم بتقديم جولات تعريفيّة بالمتحف ومحتوياته للسياح والمرتادين، وبالمجّان! ما زلت لا أفهم لِم يرهق هذا الكهل نفسه من أجل لا شيء! هل هو نوع من الوفاء لذلك المكان الذي أفنى عمره فيه؟ ربّما.

أمّا عندما يُغلق المتحف أبوابه عصراً فإنه يتوجه ماشياً إلى تلك الحديقة القريبة، يجلس على أحد مقاعدها الخشبية المتهالِكة... يُراقب الناس ويطعم الطيور، وعندما تغيب الشمس يذهب إلى المقهى القريب من المنـزل ليلعب الطاولة والشطرنج مع مُسنّي الحي ويشاركهم شرب الشاي والقهوة، ثم يعود إلى المنـزل بعد العِشاء لِيجد وجبة طعامه جاهزة، فَيتناولها ثم ينام باكراً.

ولكن من يُعدّ له الطعام؟ إنها الخادمة أم عابد... فهي تأتي في الصباح الباكر قبل خروج جدي من المنـزل، فَتُعد له الفطور، وعندما يترك المنـزل تقوم بتنظيفه، ثُم تعود إلى بيتها عند الانتهاء من ذلك... وتعاود المجيء مساءً لِتطهو الطعام لجدي، تتركه على طاولة الطعام... وتذهب مجدداً إلى بيتها.

أما أنا فلا أكترث لِكل ذلك، فأنا لا أُغادر الغرفة المخصصة لي، بل أجلس برفقة صديق دربـي... حاسبـي المحمول، أُتابع ما تكتنـزه ذاكرته من أفلام ومُسلسلات وبرامج، وألعب بِما يجود به معالجه عليّ.

لا يبدو أن العلاقة بيني وبين جدي قوية كِفاية، فَنحن بالكاد نتحدّث عندما يعود مساءً، أظنه يُحدثني كما كان يُحدّث طُلابه عندما كان أُستاذاً في الجامعة أيام شبابه قبل أن يُصبح مُشرفاً في المتحف، بل أسوأ... فَهو لا يُناديني إلا بِالغلام! أيظُنّ أننا ما زلنا نعيش في عصر الجاهلية؟! إنّه لم يُخاطبني يوماً بِاسمي!

ولكن كي لا أظلمه... قد عرض عليّ مرّةً أن أذهب بِرفقته إلى المتحف في أحد أيام هذه العطلة المباركة، ولكنني رفضت متحججاً بِالمهام {المُهمّة} التي عليّ إنجازها على الحاسب! فأنا حقاً لا أريد الذهاب إلى المتحف... ذلك المكان الممل، ما الذي سَأستفيده إن شاهدت مجموعة من الجِرار المُتصدّعة أو اللوحات الباهتة أو الأقمشة المهترئة أو الملابس البالية... أو حتى الأسلحة الصدئة؟! كل ذلك لا يدخل ضمن دائرة اهتماماتي، لذا بِالطبع لن أُضيع عليه نهاراً كاملاً من عُطلتي الميمونة!

حسناً... يبدو أنني قد أسهبت في الإجابة على السؤال السابق ونسيت أن أدخل في صلب الموضوع... الحادِثة.

كُل ما حصل معي كان بسبب الماء، فَلقد استيقظت اليوم ظُهراً بسبب أشعة الشمس التي اخترقت النافذة وزحفت على ساقيّ تشويهما شَيّاً، وما هو الشعور {الألطف} من أشعة شمس ظهيرة يومٍ صيفيٍ حارق؟ الحلق الجاف بالطبع! خرجت من غرفتي طلباً للماء، وبِالطبع حصلت عليه... ولكن بطريقة غير متوقعة... ماء من نوع آخر!

يبدو أن أم عابد لم تتم عملها على أكمل وجه، فما زالت هنالك بقعة من الماء على أرضية الصالة الرئيسية بِجانب الحائط لم تقم بتجفيفها، أو أنها تركتها لِمن أيقظتني حتى تُبخّرها، إلا أن كلتيهما قد فشلتا في ذلك، وكيف لِشخص سهر لِوقت متأخر ليلة البارحة أن يرى ذلك السائل الشفاف على أرضية رخامية بيضاء وهو يسير مترنّحاً بِعين مغلقة وأخرى نصف مفتوحة؟!

نعم... لقد خطوت فوقها، والذي زاد الأمر سوءاً هو ذلك النعال البلاستيكي الذي قضى على قوى الاحتكاك، لذا ما كان منّي إلا أن حلّقت إلى الوراء وسقطت على ظهري مُتألّماً، ولكنني وقفت مُسرعاً... لا بسبب الألم، ولا بسبب امتصاص أنسجة ملابسي القماشية لبعض من المياه التي سقطت فوقها... وإنما بسبب تلك اللوحة التي لكزتها بيدي أثناء سقوطي، ما إن رأيتها تتأرجح على مسمارها كَالبندول حتى وثبت لتثبيتها، ولقد قمت بذلك بالفعل، فَلقد أوقفت حركتها وثبتّها، ثمّ أفلتها بهدوء، وابتعدت عنها خطوة للخلف، ولكن سبق السيف العدل... فَالخيط الذي حملها كأُم حنون كل تلك السنين قرر أن يخرج عن طوره سخطاً على ذلك التعدّي الصارخ من قِبَلي... نعم، لقد انقطع الخيط وسقطت اللوحة!

منـزل جدّي... تلك الشقة الكئيبة، صالة مركزية كبيرة، خمس غرف واسعة، ثلاث دورات للمياه، ومطبخ ضخم! لقد كانت هذه الأروقة تعجّ يوماً بالحياة، عندما كانت الدماء تسري في أوردة جدتي... وعندما كانت أمي وإخوتها أطفالاً وصبياناً وبناتاً وشباباً... إلا أن عجلة الحياة دائرة لا محالة، فأصحاب تلك الغُرف هجروها، ورفيقة الدرب انتقلت إلى الرفيق الأعلى... فتُركت غُرفهم خاوية على عروشها، إلا أن ما يميز هذا المنـزل حقاً هو تلك الصالة الفخمة، والتي تبدو وكأنها حجرة من أحد القصور الأوروبية العتيقة، فلا تكاد توجد فيها مساحة خالية، حيث استغل معظمها لعرض التُحف الأثرية والمنحوتات الرُخامية والساعات الكلاسيكية الجذّابة، حتى أن عمر بعض تلك القطع يعود إلى مئات السنين! أما جُدُرُها فتقطعها صفوف متراصة ومتوازية من اللوحات الفنيّة الأصيلة المرسومة بدِقة وعناية، منها القديم والحديث، ناهيك عن قطع الأثاث الفاخر المتناثرة في أركانها، نعم... لقد أنفق جدي ثروة هائلة على تلك المعروضات...إلا أن أثمن ما في تلك الصالة هي تلك اللوحة المعلقة على مركز جدارها الأوسط، تلك اللوحة التي جمعني حظي العاثر بها، وأوقعتها... ... أم لم يكن عاثراً؟!

بعد أن انقطع الخيط سقطت اللوحة على قاعدتها واستقرت قائمة على الأرض مسنودة بِالحائط، مع أنني كنت واقفاً أمامها إلا أنني لم أستطع فعل شيء، فَردّة فعلي كانت بطيئة مقارنة بِالمفاجئة الصامتة التي باغتني بها الخيط.

عندما أتكلم عن هذه اللوحة فأنا بالطبع لا أعني ورقة من كراس رسم طالب في المرحلة الابتدائية مُعلّقة على الحائط، إنما أعني لوحة قماشية مرسومة بِالألوان الزيتية، طولها يقارب المتر، أما عرضها فهو أقل من ذلك نسبياً، محاطة بِبرواز مصنوع من خشب الزان الثقيل... ذي اللون البُنّي المحروق، نُقِشت على أضلاعه زخارف نباتية بارزة ورائعة... وطُليت بِلونٍ ذهبـي برّاق بَهَت بِفعل الزمن، وحُفظت اللوحة من الأمام بِلوح زجاجي عازل. أمّا ما رُسم فيها... فهو زقاق من حارات دمشق القديمة تسير فيه مجموعة من الظلال بِلا أشخاص... كما أنّ هنالك جملة صغيرة مكتوبة بِلغة غريبة عليها... لا هي الإنجليزية ولا الفرنسية!

في البداية أُصبتُ بالهلع... فهذه كما ذكرتُ سابقاً إحدى أثمن مُقتنيات جدّي، كما أنها تُعد تُحفةً أثرية، فلقد سمعت جدّي مرةً يذكر أمام أحد الضيوف أن عُمر هذه اللوحة لا يقل عن المئة عام! ولكن ما هدّأ من روعي هو أن زجاج اللوحة لم يُكسر، والبرواز الخشبـي لم يتصدّع، حسناً... ها هي اللوحة واقفة في شموخ لم يصبها أي مكروه، حمدت الله... ثم قررت أن أُعيد اللوحة إلى مكانها وأُعلّقها كما كانت لم يمسسها سوء، ولِفعل ذلك عليّ ربط الخيط مجدداً كحلّ مؤقتّ حتى تأتيني فرصة مواتية لِشراء خيط جديد.

سحبت اللوحة قليلاً إلى الأمام حتى يتسنّى لي رؤية الخيط وربطه إلا أنني تفاجأت... فَالخيط لم يُقطع إنمّا حُلت عقدته من طرفه الأيسر، يبدو أن ذلك حصل بِفعل عامل الزمن... وبِفضل دفعتي المعنوية، حسناً... لقد أصبح الأمر أيسر، فكل ما علّي فعله هو ربط الخيط بِحلقته التي انفلت منها...

أتممت ذلك بِنجاح، وبِالتأكيد قمت بِمضاعفة العقدة عدة مرات حتى لا تنفلت مرة أخرى، لقد كانت أُعجوبة من الأعاجيب أن حطّت على الأرض من ذلك الارتفاع ولم يُصبها أي مكروه... ... أم أنّه أصابها؟ تباً... لقد أخطأت مرّة أُخرى، فعندما هممتُ أن أحملها وأُعلّقها اكتشفت أن اللوح الخشبـي الرقيق الذي يُغلّف ظهرها قد نُزع من الزاوية اليُسرى بِفعل الصدمة العنيفة التي تعرضت اللوحة لها...

حسناً... على الأقل {نُزع} وليس {كُسر}، ثبتُّ اللوحة بِيد وأرسلت الأخرى إلى ظهر اللوحة لِأدفع اللوح وأُعيده إلى مكانه الصحيح... دفعت ودفعت، ولكن يبدو أن هنالك عائقاً يحول بين اللوح الخشبـي وموقعه، تحسست ذلك الموضع فإذا بِيدي تقع على جسم ذي قوام ورقي، قلبت اللوحة بِهدوء حتى يتسنى لي رؤية ذلك العائق... فَرأيت زاويةً ورقيةً ذات لون بنيّ مُصفر، تأكدّت بعد إمعان النظر فيها أنها جزء من مظروف ورقي... لقد وضع أحدهم مظروفاً في ظهر اللوحة... أو بالأحرى عليّ أن أقول خبّأ! قبضت ذلك الجزء وتحسسته أيضاً... فَأدركت أن المظروف يحوي شيئاً ما!

back to top