لا تراهنوا على «إفلاس داعش»

نشر في 28-11-2014 | 00:01
آخر تحديث 28-11-2014 | 00:01
يستمد «داعش» عائدات تمويله اليوم بشكل أساسي من بيع النفط غير الشرعي، والفدية المدفوعة مقابل تحرير المخطوفين، فضلاً عن الهبات السخية التي يقدمها عدد قليل من المانحين الكبار، ومن مجموعة واسعة من المشاريع الإجرامية مثل الابتزاز ونهب الآثار وسرقة المواشي.
 ماثيو ليفيت تركز جهود الحكومة الأميركية لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) على "خمسة خطوط مختلفة من الجهد"، يهدف أحدها إلى وقف حصول تنظيم «الدولة الإسلامية» على التمويل والموارد المالية، غير أنّ هذه المهمة قد تكون صعبة، نظراً إلى الفروقات بين نماذج التمويل التي يستخدمها «داعش» و«جبهة النُصرة» أو غيرهما من الجماعات التي تدور في فلك تنظيم «القاعدة»، إلا أن المجتمع الدولي يملك القدرات الضرورية لمكافحة كل هذه النماذج.

وتشكل مكافحة تمويل «داعش» عنصراً مهماً في الحملة الدولية القائمة ضدّ التنظيم الذي يُعتبر الجماعة الوحيدة التي فاق تطرّفها المستويات المقبولة حتّى لدى تنظيم «القاعدة». ولقد ثبت أنّ أدوات مكافحة تمويل الإرهاب فعالة بشكلٍ فريد كوسيلة للحد من تدفق الأموال إلى الجماعات الإرهابية وكمصادر للاستخبارات المالية التي يمكن بالتالي الاستناد إليها لتحقيق نجاحات أكبر. وليس هناك شكّ أنّه في الحالات التي يعبر فيها تمويل تنظيم «الدولة الإسلامية» الحدود الدولية أو يستغلّ النظام المالي الدولي (وخاصة القطاع المالي الرسمي والمصارف، بل وحتى آليات التحويل المالية البديلة)، ستبقى مجموعة الأدوات التقليدية التي وُضعت في أعقاب هجمات 11 سبتمبر وسائل فعالة لمكافحة تمويل «داعش». ويشمل هذا التمويل العائدات التي يحققها تنظيم «الدولة الإسلامية» من تهريب النفط غير الشرعي، والهبات التي يقدمها المانحون الأثرياء من بعض بلدان الخليج، فضلاً عن المبالغ الناتجة عن الفدية المدفوعة مقابل تحرير المخطوفين، والجهود الساعية للوصول إلى سوق الآثار السوداء لبيع التحف الأثرية المنهوبة، وغيرها.

ولكن من غير المرجح أن تكون هذه الجهود كافية لـ"تفكيك داعش" بصورة تامة، فخلافاً لتنظيم «القاعدة» وغيره من الجماعات، فإن «داعش» - الذي كان يُسمّي نفسه تنظيم «القاعدة في العراق»، والذي أعاد تسمية نفسه أخيراً تنظيم «الدولة الإسلامية» وأعلن إقامة الخلافة الإسلامية من جانب واحد - كان مكتفياً ذاتياً من الناحية المالية على مدى ثماني سنوات كجماعة إرهابية مؤلفة من متمردين قبل أن يدخل في مشروع إدارة شبه دولة. وعلى خلاف غيره من الجماعات التي تعتمد على دول مانحة أو مانحين كبار أو التي تستغل الهبات الخيرية، كان تنظيم «القاعدة في العراق» مستقلاً ماليّاً بفضل انخراطه في مشاريع ذات نشاطات إجرامية ناجحة بشكلٍ هائل داخل العراق.

ويستمد «داعش» عائدات تمويله اليوم بشكل أساسي من بيع النفط غير الشرعي، والفدية المدفوعة مقابل تحرير المخطوفين، والهبات السخية التي يقدمها عدد قليل من المانحين الكبار، ومن مجموعة واسعة من المشاريع الإجرامية مثل الابتزاز ونهب الآثار وسرقة المواشي. وتقدر وزارة الخزانة الأميركية أنّ تنظيم «الدولة الإسلامية» يجني أرباحاً من مبيعات النفط بقيمة عدة ملايين من الدولارات في الأسبوع، بانخفاض من مليونين إلى 3 ملايين دولار في اليوم عندما كانت المبيعات في أوجها. أما مبالغ الفدية المدفوعة مقابل تحرير المخطوفين، فوصلت إلى 20 مليون دولار على الأقل هذا العام، بينما قدّم المانحون الأثرياء بضعة ملايين إضافية في العام، في حين عادت عمليات الابتزاز بعدة ملايين من الدولارات كلّ شهر.

وصحيح أنّ المشاريع الإجرامية التي يقوم بها تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق هي اليوم بمنأى عن إنفاذ القانون التقليدي وتطبيق إجراءات تنظيمية، ولكن، رغم ذلك، سيؤدي التركيز على هذه المجالات التي تستهدفها مجموعة الأدوات المستخدمة حالياً إلى حرمان «داعش» فعلياً من الأموال التي تحتاج إليها للحفاظ على «دولتها الإسلامية» وإدارتها. وفي الوقت نفسه، في حين أن الأدوات العسكرية كانت ستُعتبر في ظروف أخرى آخر خيار من بين الوسائل المنطقية لمكافحة الجرائم، يبقى الواقع هو أنّ الضربات الجوية ضدّ «داعش» قد بدأت تقوّض بالفعل بعض نشاطات التنظيم الإجرامية، ويجدر بالضربات المستقبلية أن تستمر في هذا المسار.

وإذا قررت الحكومة العراقية في مرحلة ما أن تعطي الأولوية مجدداً للحوكمة وسيادة القانون عوضاً عن الطائفية والفساد، علماً أنّ احتمالات قيام إصلاح سياسي حقيقي في العراق تبدو ضئيلة اليوم، فمن الممكن أن تتمكن مؤسسات إنفاذ القانون المحلية في العراق - في مرحلة ما في المستقبل – من التحقيق في مشاريع «داعش» الإجرامية وملاحقتها قضائيّاً كونها نشاطات إجرامية محلية.

وتركز استراتيجية وزارة الخزانة الأميركية لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» على فرض العقوبات المالية على أي جهة تقوم بالمتاجرة بالنفط الذي يسرقه «داعش»، وحث شركاء الولايات المتحدة في الخارج على وضع حدّ لدفع الفدية مقابل تحرير المخطوفين. كما تركز هذه الاستراتيجية أيضاً على استهداف شبكات المانحين الخارجية لفرض العقوبات عليها والحدّ من وصول التنظيم إلى النظام المالي الدولي وفرض عقوبات ذات أهداف محددة على قادة «داعش» ومسهّلي أعماله. وتشكّل هذه الاستراتيجية، أي استغلال الأدوات التي تمتلكها وزارة الخزانة في مجموعة أدواتها اليوم، خطوة أولى ذكية، لكن ما هي الخطوات التالية؟

ومع تطوّر الأحداث في المستقبل، نتوقّع أن تقوم وزارة الخزانة وشبكة وكالاتها الداخلية وشركاؤها الدوليون بتعديل الأدوات القائمة وتطوير أدوات جديدة، بينما تتكيّف مع التهديد المالي غير الشرعي المتنامي الذي يشكله تنظيم «الدولة الإسلامية». وتبرع وزارة الخزانة في ذلك فعلاً، أي في التفكير بطريقة مبتكرة من أجل وضع الاستراتيجيات اللازمة للتعامل مع التهديدات المستقبلية. وهذا ما قام به تماماً فرع الاستخبارات المالية ومكافحة الإرهاب في وزارة الخزانة لمعالجة مسألة تمويل تنظيم «القاعدة» بعد أحداث 11 سبتمبر، علماً أنّ الوزارة حققت ذلك بطريقة أكثر جوهرية في الفترة من 2005 إلى 2006 عندما طوّرت الأدوات والاستراتيجيات اللازمة لمكافحة تصرف إيران المالي غير الشرعي ودعمها للإرهاب وقيامها بنشاطات نووية. وقامت الوزارة بذلك مرة أخرى عندما أنشأت "خلية مكافحة التهديدات المالية في العراق" من أجل تحليل المعلومات المالية التي يحملها الأفراد والاستخبارات التي يتم جمعها في حملات مكافحة التمرد، ومن ثم استخدام هذه المعلومات الجديدة كبيانات تحدد أهداف الحملات التالية.

ويقيناً، لا يوجد حل سحري لعرقلة تمويل «داعش»، فما بالنا بهزيمة التنظيم كله؟!، ويطرح تنظيم «الدولة الإسلامية» مجموعة من الظروف الفريدة التي ستؤدي بالتأكيد إلى قيام استجابة تضع باقة جديدة من الابتكارات في مجال مكافحة تمويل الإرهاب، لذا، بما أنّ «داعش» لا يعتمد حالياً على المانحين في الخارج بصورة كبيرة، لم تصنّف وزارة الخزانة حتى الآن سوى أربع جهات مانحة تتعلق بتنظيم «الدولة الإسلامية» (اثنتان منها فقط استهدفتا الممولين). أما في المستقبل، فنتوقع أن تتخذ الوزارة مقاربة مغايرة وتستخدم الاستخبارات لاستهداف الوسطاء والتجار وشركات النقل وأي شخص آخر يساعد على إنتاج النفط الذي يسرقه «داعش» أو تصفيته أو نقله أو بيعه.

 وفي غضون ذلك، هناك أدلة ظرفية تشير إلى أنّ المقاربة القوية والمتنوعة التي تعتمدها وزارة الخزانة لمحاربة «داعش» هي فاعلة بعيداً عن الحدود العراقية. لننظر في قضية جهادي يحاكم الآن في ألمانيا لانضمامه إلى مجموعة في سورية متحالفة مع التنظيم الذي كان قد واجه صعوبات في إرسال الأموال إلى الشرق الأوسط، ويعود ذلك إلى حد كبير إلى الإجراءات التي وضعتها وزارة الخزانة وغيرها من الهيئات.

ووفقاً لصحيفة "التلغراف"، ترسم إجراءات المحاكمة والتقارير الإعلامية المحلية صورة جهاديين أُرغموا على إرسال أحد أعضائهم إلى أوروبا لتأمين الموارد، لأنه بات من الصعب جداً تحويل الأموال دون أن يتمّ تعقّبها، ولا يتوقف الوضع عند هذا الحد: فعندما أرسلت بعض الجماعات أموالاً حول العالم عن طريق شركة "ويسترن يونيون"، خشيت جماعات أخرى من استلام تلك الأموال خوفاً أن تكون التحويلات مراقبة. وفي الوقت نفسه، بينما تأتي أغلب أموال «داعش» من مبيعات النفط، نشهد نجاحاً في هذا المجال أيضاً، إذ تفيد التقارير بأنّ عائدات التنظيم من النفط قد انخفضت بالفعل بنسبة الثلثَين تقريباً من حوالي 3 ملايين إلى مليون دولار يومياً.

ولا تزال النشاطات الإجرامية تشكّل جزءاً كبيراً من عائدات «داعش» في الوقت الحالي، متمّمة مصادر الدخل المربحة الأخرى؛ كما أن أدوات وزارة الخزانة ليست مستعدة بما يكفي لمواجهة هذا التحدي بالذات، غير أنّ النشاطات الإجرامية وحدها لا تكفي كمصدر للتمويل لجماعة لا تلتزم بالقيام بنشاطات إرهابية وتمردية فحسب، بل تسعى إلى الاستيلاء على الأراضي والحفاظ عليها وإدارتها، مما يستوجب نفقات هائلة ويتطلب بالتالي التمتع بسيل كبير من العائدات.

وبالتالي، فإنّ التركيز على عائدات تنظيم «الدولة الإسلامية» من النفط والخطف مقابل الفدية والمانحين الكبار، بالإضافة إلى الجهود الموسَّعة الرامية إلى حرمان التنظيم من قدرته على تخزين الأموال ونقلها والوصول إليها ضمن النظام المالي الدولي، قد يؤدي إلى نجاح وزارة الخزانة في إضعاف تدفقات الأموال إلى «داعش» بقدرٍ كبير. وقد لا يؤدي ذلك إلى تدمير تنظيم «الدولة الإسلامية»، تلك الجماعة الإرهابية المؤلفة من متمردين، لكن سينجح بالتأكيد في تقويض شبه «الدولة الإسلامية».    

  * (ذي هيل)

back to top