مستعمرات الخلافة... توسّع «داعش» التدريجي في شمال إفريقيا

نشر في 26-11-2014 | 00:02
آخر تحديث 26-11-2014 | 00:02
تشكّل الفوضى، وخيبات الأمل، والظلم الظروف الملائمة لداعش. إذ يتوسَّع الإسلاميون المتطرفون هؤلاء راهناً في سورية والعراق وشمال إفريقيا. وقد أعلنت مجموعات عدة ولاءها لهم.
ميركو كيلبرث، وجوليان فون ميتلشتادت، وكريستوف رويتر كتبوا عن «مستعمرات الخلافة» في «شبيغل».
للخلافة شاطئ يقع على البحر المتوسط على بعد نحو 300 كيلومتر عن جنوب كريت في درنة. تعد هذه المدينة في شرق ليبيا نحو 80 ألف نسمة، وتضم بلدة قديمة جميلة ومسجداً يعود إلى القرن الثامن عشر يرفرف فوقه علم داعش. تنتشر في هذه المدينة- المرفأ محاكم الشريعة و{الشرطة الإسلامية} التي تجوب الشوارع في آليات رباعية الدفع. كذلك بُني جدار في الجامعة بهدف فصل الطلاب عن الطالبات، وأُلغيت مواد القانون والعلوم الطبيعية واللغات. أما مَن يتجرأون على التشكيك في هذه القواعد الاجتماعية الجديدة في المدينة، فيخاطرون بحياتهم.

تحولت مدينة درنة إلى مستعمرة رعب، وتُعتبر أول حصن لداعش في شمال إفريقيا. تبدو الظروف في ليبيا مثالية للإسلاميين الأصوليين: تفكك الدولة، موقع إستراتيجي ممتاز، وموطن أكبر احتياطي نفط في القارة. وإذا نجح داعش في السيطرة على أجزاء كبيرة من ليبيا، فقد يُحدث خللاً في العالم العربي بأكمله.

يمدّ داعش جذوره حيث تعمّ الفوضى، حيث تكون الحكومات ضعيفة، وحيث باتت خيبة الأمل بسبب الربيع العربي عميقة. في الأسابيع الأخيرة، بدأت مجموعات محلية كانت حتى ذلك الحين تعمل على نطاق محلي تقف بسرعة إلى جانب المتطرفين من داعش.

في شهر سبتمبر، أعلنت المجموعة الجزائرية {جنود الخلافة} ولاءها للدولة الإسلامية. وكما لو أنها تتبع نصاً محدداً، عمدت هذه المجموعة إلى قطع رأس متسلق جبال فرنسي وحملت شريط الفيديو على شبكة الإنترنت. وفي شهر أكتوبر، أُعلنت الخلافة في مدينة درنة الليبية. وفي الأسبوع الماضي، أعلنت المجموعة الإرهابية المصرية بدورها انضمامها إلى داعش.

ترهيب ونشر الخوف

أعلنت مجموعات عدة غير بارزة أيضاً ولاءها لداعش، حتى إن بعضها ذهب إلى حد إعلان دعمه لمجموعات مثل: «بوكو حرام» في نيجيريا، أبو سياف في الفلبين، وطالبان في باكستان. وتسعى هذه المجموعات كافة إلى الاستفادة من جاذبية داعش وسمعته العنيفة، فضلاً عن السلاح، المال، والمقاتلين الذين يسهل تجنيدهم باستخدام صفة الترهيب ونشر الرعب السائدة أخيراً.

كان عدد كبير من هذه المجموعات قد انضم سابقاً إلى تنظيم القاعدة للأسباب عينها، إلا أن داعش نجح في تهميش قوات أسامة بن لادن. بالإضافة إلى ذلك، كان «القاعدة» تنظيماً عقائدياً له مجموعات تابعة في مختلف أنحاء العالم، غير أن داعش يسعى إلى فرض سيطرته على مناطق كاملة بقيادة «الخليفة المزعوم» أبو بكر البغدادي.

علاوة على ذلك، قدّمت اليوم تونس، مهد الربيع العربي، عدداً كبيراً من المجاهدين الأجانب في داعش. يشعر كثيرون في هذا البلد بخيبة أمل كبيرة مع الحريات المحدودة التي ينعمون بها راهناً. نتيجة لذلك، نجح الإسلاميون في تجنيد أتباع جدد في تونس. أما في مصر، حيث استلم الحكم العسكري  زمام الحكم عقب الثورة، فنمت المنظمات الإرهابية المتطرفة. وفي ليبيا، أدى الاقتتال بين الميليشيات إلى انهيار كامل نظام الدولة.

كان الإسلاميون قد تعرضوا للاضطهاد في هذه الدول قبل الإطاحة بحكامها العلمانيين. نتيجة لذلك، غادر المجاهدون الذين تعرضوا لقمع حسني مبارك، زين العابدين بن علي، ومعمر القذافي طوال عقود بلدانهم. لكننا نرى اليوم بعض الجهاديين القدماء وكثيرين ممن انضموا أخيراً إلى داعش في سورية يعودون ويقدمون كامل الدعم للتنظيم في موطنهم.

ليبيا: حيث اختفت الدولة

لطالما شكلت مدينة درنة معقلاً للتطرف، بعدما قدَّمت العدد الأكبر من الانتحاريين الأجانب من مدينة واحدة في العراق عام 2004. سهّل ظلم قوات أمن القذافي على الإسلاميين مهمة الترويج للجهاد كبديل للعيش في ظل حكم مستبد. ولا شك في أن النظام كان سعيداً بتركهم يرحلون. فكل إسلامي يغادر للقتال ضد الروس أو الأميركيين يخفف الخطر في الوطن.

بعد الإطاحة بالقذافي عام 2011، توجَّه ثوار كثر إلى سورية للقتال ضد بشار الأسد. في الوقت عينه، أدت الثورة إلى ولادة عدد من الميليشيات لم تكن كلها متطرفة، إلا أن بعضها مال إلى الإسلاميين، فتمكن المتطرفون من تثبيت قدمهم في شرق ليبيا ونفذوا سلسلة من الاعتداءات الدموية ضد الشرطة والجيش، ما أرغم الدولة على الانسحاب. لكن المتطرفين بقوا. تحكم درنة اليوم ميليشيات عدة، أهمها مجلس شورى شباب الإسلام، منظمة أُسست في الربيع بعد انشقاقها عن مجموعة {نصرة الشريعة} الإرهابية الليبية. وفي درنة، وحَد قادة نصرة الشريعة قواهم مع داعش، بخلاف بنغازي.

في البداية، اتخذ داعش في ليبيا شكل مجموعات من المقاتلين العائدين من سورية. وتمكَّن ما دُعي لواء البتار من بسط سيطرته على درنة بقتله السياسيين، القضاة، والمحامين، فضلاً عن قادة ميليشيات أخرى. وفي شهر سبتمبر، وصل {أمير} أرسله داعش إلى درنة، وهو يمني يُدعى محمد عبد الله ما كان معروفاً كثيراً آنذاك. وفي الخامس من أكتوبر، عُقد الاجتماع الأول بين رجال من داعش وقادة مجلس الشورى، وأعلنوا خلاله تحالفهم وتأسيس {ولاية برقة}. وبحلول شهر أكتوبر، أعلم مئات المواطنين ولاءهم علانية {للخليفة}.

بعيد ذلك، سأل ناشط يُدعى محمد بطوحة المتطرفين الأجانب عموماً عن هدف مجيئهم إلى درنة. ولكن بعد يومين، أردي قتيلاً على يد رجال مسلحين في سيارة عابرة، على غرار عشرات من المنتقدين قبله.

لا اختلاف

يخبر ناشط شاب طلب عدم ذكر اسمه: {بدأ القتال ضد القذافي في بنغازي في 17 فبراير 2011. ولكن هنا في هذه المدينة ستُحسم مسألة ما إذا كان القتال ضد الإسلاميين سيتحول إلى حرب في كل أنحاء شمال إفريقيا}. يُعتبر هذا الناشط من الشجعان القلائل الذين يتجرأون على تغطية الأخبار في درنة. تعرض هذا الناشط بدوره لإطلاق النار على يد الإسلاميين، إلا أنه نجا بأعجوبة هو وزوجته. ومنذ ذلك الحين، يحاول مغادرة المنطقة، إلا أن الإسلاميين نشروا الحواجز حول المدينة بأكملها. يقول: {لا يختلف شرق ليبيا عن سوريا والعراق}.

تلاحق الميليشيات كل مَن يتجرأ على الانتقاد، حتى لو اقتصر هذا الانتقاد على تعليق بسيط نُشر على موقع فيسبوك على شبكة الإنترنت. على سبيل المثال، يوم الثلاثاء الماضي، قُطع رأس ثلاثة ناشطين مناهضين لداعش أمام عدسة الكاميرا في درنة، في حين يتعرض المجرمون المشتبه بهم للجلد. ووقعت جريمة في ملعب كرة قدم محلي. بالإضافة إلى ذلك، لا يحظى الإسلاميون بمعاملة أفضل. فقائد نصرة الشريعة مفقود منذ رفضه الانضمام إلى {الخلافة}، ويُرجح أنه قُتل، في حين طلب قائد ميليشيا أخرى اللجوء إلى تركيا.

تدير الميليشيات أربعة معسكرات على أطراف المدينة حيث تدرب بضع مئات من الأجانب للقتال في سوريا. ولكن بعد أن سيطر الجيش الليبي بقيادة الجنرال خليفة حفتر على أجزاء كبيرة من بنغازي، التي كانت خاضعة لسيطرة الإسلامية حتى ذلك الحين، صبّ المجاهدون كل اهتمامهم على تلك المنطقة، حتى إن بعضهم عادوا من سوريا ليقدموا الدعم. ويُعتقد أنهم أقاموا مخازن للسلاح في الجبال الحرجية فوق درنة، وأنهم خزنوا صواريخ قصيرة المدى في مخزن تابع لمصنع أقمشة.

تعرضت درنة الأسبوع الماضي للقصف للمرة الأولى من قبل قوات جوية تابعة للجنرال حفتر وتحظى بدعم مصر والإمارات العربية المتحدة. لكن هذه الضربات لن تقضي بالتأكيد على الإسلاميين. على العكس، من الممكن أن تدفع عمليات القصف هذه الميليشيات، التي كانت تعمل بشكل مستقل حتى اليوم، إلى توحيد قواتها لمحاربة جنود الجنرال، مشكلة بالتالي تحالفاً مع داعش. يقدّم لنا الأسبوع الماضي لمحة عن الخطر الذي يواجه هذا البلد. فقد فجر الإسلاميون سلسلة من العبوات في منشآت تابعة للدولة وسفارتي مصر والإمارات العربية المتحدة في طرابلس.

منذ الصيف الماضي، تخضع العاصمة الليبية لسيطرة تحالف إسلامي يُطلق على نفسه اسم {فجر ليبيا}. لا تنتمي هذه المجموعة إلى داعش، إلا أن الطريق إلى {الخلافة} تمرّ في طرابلس. في شهر أغسطس، احتلت مجموعة فجر ليبيا مطار معيتيقة في طرابلس، فخربته ودمرت الطائرات المتوقفة فيه. كانت لافتة بلاستيكية معلقة فوق المدخل كُتب عليها «مطار طرابلس الدولي». ولا شك في أن معيتيقة مطار دولي، حتى لو كانت وجهة جميع خطوطه واحدة: «الخلافة».

لا يُسمح للرحلات التي تنطلق من مطار معيتيقة بالهبوط في مدن كثيرة، إلا أن هذا المطار يُنظم رحلات أسبوعية إلى اسطنبول والدار البيضاء.

تونس: بلد المجاهدين

محمد سوسي من تونس واحد ممَن سلكوا درب الجهاد هذا. يحمل سوسي (27 سنة) شهادة في العلوم الاقتصادية ولم يكن متشدداً دينياً يوماً. لكن هذا الجندي، الذي خدم وطنه طوال سنتين، اتصل بأهله أخيراً. إلا أن الاتصال جاء من تركيا. أخبرهم: {أحارب مع داعش لتحرير فلسطين والإطاحة ببشار الأسد}.

أعاد توفيق سوسي، ضابط في الجيش متقاعد في الثالثة والستين من عمره، تحديد الدرب الذي سلكه ابنه، وبات يعرف من أين بدأ هذا التحول: في مسجد المنار على مقربة من الجامعة المهنية في تونس. التقى محمد إماماً في هذا المسجد أخبره عن داعش ودفع له تكاليف سيارة أجرة عمومية نقلته إلى الحدود الليبية، حيث كان مقاتلون من ميليشيا إسلامية في صبراتة ينتظرونه على الجانب الآخر، علماً أن هؤلاء يشكلون جزءاً من شبكة نصرة الشريعة. فنقلوا محمد إلى صبراتة، حسبما يُفترض، مع كثير من التونسيين الآخرين وأمضوا بضعة أسابيع في تدريبهم للقتال في سورية. ثم أقلوه بعد ذلك إلى مطار معيتيقة.

تشير الأرقام الحكومية إلى أن 2400 تونسي سافروا إلى سورية، مع أن تقديرات أخرى ترفع عدد التونسيين الذين يُقاتلون إلى جانب جبهة النصرة أو داعش إلى 3 آلاف. وتُدعي وزارة الداخلية التونسية أنها منعت 8 آلاف رجل إضافيين من السفر إلى سورية. نجحت السلطات في تحديد هوية بعض المجاهدين المحتملين لأنهم كانوا يحملون بطاقة سفر ذهاباً فقط إلى اسطنبول، في حين أوقف آخرون على الحدود الليبية. عاد نحو 400 رجل من سورية، وفق إحصاءات الحكومة، علماً أن العدد الأكبر منهم يقبع اليوم في السجن.

تُعتبر تونس مهد الربيع العربي. وفيما تلت أنظمة الحكم العسكرية والفوضى الانتفاضات في مصر وسورية وليبيا، عقدت تونس منذ ذلك الحين جولتين من الانتخابات البرلمانية. وشهدنا أخيراً عملية انتقال سلمية للسلطة من حزب النهضة الإسلامي المعتدل إلى حزب نداء تونس العلماني. بالإضافة إلى ذلك، يُعتبر الشعب التونسي (11 مليون نسمة) عموماً أكثر تعلماً من شعوب معظم دول المنطقة. إذاً، لمَ يرغب هذا العدد الكبير من الناس من هذا البلد في الانضمام إلى الجهاد؟

قصص مختلقة مرعبة

يقول الإمام الذي جنَّد محمد سوسي وطلب عدم ذكر اسمه: {يمثل داعش أرض الميعاد بالنسبة إلينا. فهي الدولة التي استرجع فيها المسلمون كرامتهم بالقوة}. أما الأخبار عن قتل محاربي داعش المسلمين واغتصابهم النساء، فيعتبرها مجرد قصص مختلقة مرعبة تنشرها وسائل الإعلام الغربية.

يميل تونسيون كثر إلى تصديق ذلك. فهم يعتبرون القتال ضد بشار الأسد (أو الصراع الذي يرونه على أنه كذلك) مجرد امتداد لثورتهم التي لم تكتمل. فالظروف التي دفعت بالبائع المتجول محمد بوعزيزي إلى إشعال نفسه (ذلك الحدث في 17 ديسمبر عام 2010 الذي أطلق الثورة التونسية) ما زالت قائمة. فلم ينعم كثيرون بعد بحرياتهم الجديدة، فضلاً عن أن رجال الشرطة ما زالوا على القدر ذاته من العنف. علاوة على ذلك، يواجه ثلث الرجال الحائزون شهادة جامعية البطالة. أما المحظوظون الذين عثروا على وظيفة، فبالكاد يجنون ما يكفي لسد حاجاتهم. نتيجة لذلك، يجدون أنفسهم أمام ثلاثة خيارات: إما الانتظار سنوات في تونس للحصول على وظيفة أو استقلال مركب متداعٍ متوجه إلى أوروبا أو الانضمام إلى الجهاد في سورية.

يذكر محمد النيفر، أستاذ دراسات إسلامية في جامعة الزيتونة في تونس: {تعِد دعاية داعش بالقتال في سبيل تحرير مماثل لما قادته حركات أميركية لاتينية كثيرة في سبعينيات القرن الماضي}. ويعتقد أن الشبان التونسيين المستائين يرون في الرحلة إلى سورية ثورة ضد الفساد، الوحشية، والذل اليومي. ويسود هذا الجو في دول كثيرة عاشت الربيع العربي.

تضم {الخلافة} بالتأكيد مجتمعات تونسية منفية. يرسل هؤلاء آخر المستجدات إلى أصدقائهم في الوطن عبر موقعَي فيسبوك وتويتر ويرسمون لهم صورة عن حياة جميلة يتمتعون فيها بمنازلهم الخاصة وبزوجات ومداخيل شهرية. وهذا ما يجذب كثيرين إلى الانضمام، لا القتال الذي لم يعتده تونسيون كثر. نتيجة لذلك، صارت {الخلافة} واسعة الشعبية، حتى إن قادتها باتوا يقررون مَن يقبلون ومَن يرفضون. فينشرون على موقع فيسبوك إعلانات {طلب مساعدة} بحثاً عن مهندسين، ميكانيكيين، ومترجمين.

على سبيل المثال، كان من المفترض أن ينظم خبير الكمبيوتر حمزة بن إقبال ورش عمل في سورية للمجاهدين الأوروبيين. لا يجيد كثيرون منهم اللغة العربية، إلا أنهم يُعتبرون هم وأشرطة الفيديو التي يظهرون فيها بالغي الأهمية في دعاية داعش. بالإضافة إلى ذلك، يشكل هذا الدعم الوحيد الذي يستطيع حمزة تقديمه، فهو مشلول من الخصر إلى أسفل ويجلس في كرسي مدولب. كان يبحث عن القبول والشهرة، وفق أخيه محمد بن إقبال، وقد لاقى الترحيب عند وصوله إلى سورية.

بناء {الخلافة}

لكن حماسته لداعش لم تدم طويلاً. فبعد أن نجحت الدعاية في تجنيد {المجاهد المقعد}، تحوَّل حمزة بسرعة إلى مصدر إزعاج. بدأت المشكلة مع واقع أنه يحتاج إلى ثلاثة مساعدين، نظراً إلى أن الخلافة ليست مجهَّزة تماماً لمن يستخدمون كرسياً مدولباً. فعمل على تحرير بعض أشرطة الفيديو قبل أن يقترح قائده السوداني أن من الأفضل على الأرجح أن يعود إلى وطنه.

بعد بضعة أسابيع، عاد حمزة إلى تونس. وقد وافق على إجراء مقابلة سريعة خوفاً من أن يتعرَّض للاعتقال، إلا أن رغبته في بناء {الخلافة} لا تزال قائمة. يقول: {يتخطَّى المجتمع الذي يولد هناك الرأسمالية والديمقراطية. في الرقة، ثمة سلطة لحماية المستهلك تراقب معايير النظافة في المسالخ. كذلك تُرفع النفايات بانتظام وتسير الحافلات وفق أوقات محددة}.

لكن حمزة كان أوفر حظاً من الجندي الشاب محمد سوسي.

بعد مرور ثمانية أشهر على اختفائه، تلقى توفيق سوسي في شهر يونيو اتصالاً هاتفياً ثانياً من سورية. قال له رجل على الطرف الثاني من الخط: {صار ابنك اليوم شهيداً. يمكنك أن تفخر به}. أخبره المتصل أن محمد أصيب خلال هجوم صاروخي شنته جبهة النصرة ونُقل إلى مستشفى في تركيا حيث فارق الحياة. ودُفن في سورية.

أسس والد سوسي المفجوع وشقيق حمزة بن إقبال اليوم RATTA، جمعية إنقاذ التونسيين المحتجزين في الخارج، التي تضم اليوم نحو 150 عائلة. لا تملك هذه الجمعية المال الكافي لشراء مكتب. لذلك يلتقي أعضاؤها في مقهى حيث يشاهدون آخر أشرطة داعش. ينقر محمد بن إقبال على شريط فيديو على موقع يوتيوب من كوباني، حيث يحارب تونسيون كثر إلى جانب داعش. يتعرف إلى أحد المقاتلين من الأشرطة الأخرى. طلبت عائلته من RATTA المساعدة في إعادة ابنها إلى الوطن. لكن محمد يسارع إلى القول: {هذا مستحيل}.

مصر: الاحتجاج ضد الظلم

منذ الشهر الماضي، شكلت {ولاية سيناء} أيضاً جزءاً من {الخلافة}. ففي تلك المنطقة، أعلنت المجموعة الإرهابية الأكثر تطرفاً في مصر ولاءها لداعش: أنصار بيت المقدس. يعتبر داعش شبه جزيرة سيناء مهمة رمزياً كما إستراتيجياً. فتشكل مصر الدولة العربية الأكثر اكتظاظاً بالسكان، فضلاً عن أنها الأكثر أهمية تاريخياً. بالإضافة إلى ذلك، تحدّ سيناء إسرائيل، قناة السويس، البحر الأبيض المتوسط، والبحر الأحمر، ما يجعلها منطقة ممتازة لإطلاق الاعتداءات الإرهابية ضد إسرائيل والقاهرة والسياح الغربيين.

نشأت {أنصار بيت المقدس} أيضاً من الفراغ الذي خلّفه انهيار نظام مبارك. ومنذ الانقلاب العسكري في شهر يوليو عام 2013، نفَّذت هذه المجموعة عشرات الاعتداءات، قاتلةً مئات رجال الشرطة والجنود. وطوال أشهر، ناقشت هذه المجموعة احتمال انضمامها إلى داعش مع انتقال الموفدين ذهاباً وإياباً. ويُعتقد أن محمد حيدر الزمار أحد قادة داعش الذين يفاوضون تلك المجموعة الإرهابية في سيناء منذ مطلع هذه السنة.

ينتمي الزمار، وهو مواطن ألماني مجنّس يتحدَّر من أصول سورية، إلى خلية محمد عطا في هامبورغ. في أعقاب اعتداءات 11 سبتمبر عام 2001، اعتقلت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية الزمار ورحلته إلى سورية، حيث شاركت وكالة الاستخبارات الخارجية الألمانية BND في استجوابه. في مطلع عام 2014، أُطلق سراحه من السجن في تبادل سجناء نظَّمته مجموعة الثوار السورية {أحرار الشام}. {ولكن بعد بضعة أيام، اختفى فجأة}، حسبما أخبر مفاوض بارز {شبيغل}. أضاف: {توجَّه في الحال إلى داعش في الرقة. وقد خطط لهذه الخطوة سابقاً على الأرجح}. يسود الاعتقاد بأن الزمار نظَّم عمليات نقل الأموال إلى سيناء، وأنه متواجد في هذه المنطقة أيضاً، وفق ما أكدته مصادر مقربة منه. وإذا صح ذلك، يمثّل هذا الأمر إشارة إلى أن داعش يموّل مباشرة مجموعات محلية ويسيطر عليها.

الظروف في سيناء ملائمة جداً لداعش: تعاني هذه المنطقة الفقر المدقع، يغيب القانون عن جزء كبير منها، وتشكل محوراً مهمَّاً لتهريب المخدرات والسلاح والبشر. بالإضافة إلى ذلك، يقطنها البدو الذين يعارضون الحكومة في القاهرة. لكنَّ الإسلاميين المعتدلين ومنتقدي النظام في مصر يمثلون أهدافاً سهلة لداعش: فهم يتعرَّضون لظلم رسمي ويقبع كثيرون منهم في السجن.

أضف إلى ذلك مَن خاب أملهم مثل أحمد الدراوي. دعم هذا الشرطي السابق البالغ من العمر 36 سنة، وهو أب لولدين، الثورة المصرية. وفي عام 2012، كان مرشحاً في الانتخابات لأنه آمن بالديمقراطية، وكان يأمل ببناء مستقبل أفضل.

لكن الثورة وعودة النظام العسكري حطما آماله. فازداد الدراوي تشدداً وسافر إلى تركيا السنة الماضية قبل أن ينضمَّ إلى إحدى مجموعات الثوار في سورية. وأعلن بعد ذلك ولاءه لداعش. وما هي إلا مدة قصرة حتى فجَّر نفسَه في العراق ليكون انتحارياً من الربيع العربي.

طلقة في الرأس

يأمل كلّ من والد سوسي وشقيق حمزة في أن يعيدا إلى الوطن، على الأقل، مَن خاب أملهم ورأوا داعش على حقيقته. عندما يصل المجندون الجدد إلى سورية، يدرك كثيرون أن مقاتلي داعش يمضون وقتاً أطول في محاربة مجموعات الثوار الأخرى، مما يخصصونه لقتال النظام. حتى إن نحو 300 مقاتل يريدون العودة إلى الوطن سلموا أنفسهم إلى الجنود السوريين أو اعتقلوا، وفق إقبال.

يلقي هذان الناشطان اللوم على حكومة النهضة لأنها لم تحاول منع السياحة الجهادية. فيعتقد هذا الحزب الإسلامي المعتدل، على ما يبدو، أنهم يستطيعون التحكم في المتطرفين ودفعهم نحو الاعتدال. ولكن بدلاً من ذلك، قوّوا عن غير عمد المتطرفين مع سيطرة أئمتهم على أكثر من 1100 مسجد كان يتولى النظام العلماني إدارتها سابقاً.

حتى في ثمانينيات القرن الماضي، انضم التونسيون إلى الجهاد في أفغانستان. على سبيل المثال، كان أبو إياد التونسي رفيق أسامة بن لادن قبل أن يوقًف ويُرحّل عام 2003 ليُطلق سراحه بعد الثورة ويؤسس {أنصار الشريعة}. ولكن في عام 2012، هاجمت هذه المجموعة السفارة الأميركية في تونس قبل أن تغتال سياسيَّين من المعارضة عام 2013. بعد ذلك، قررت الحكومة التونسية أن تصنّف هذه المجموعة منظمة إرهابية. ولكن بحلول تلك الفترة، كانت هذه المجموعة قد أرسلت مئات الرجال، إن لم نقل الآلاف، إلى سورية.

في شهر مارس عام 2012، منعت الحكومة الرجال تحت سن الخامسة والثلاثين من السفر إلى تركيا وسورية. كذلك عزَّز رجال الأمن الجهود لمكافحة الأصوليين. نتيجة لذلك، تراجع اليوم عدد الرجال الذي ينتقلون إلى سورية، ما دفع بالمسؤولين إلى تركيز جهودهم على الأصوليين العائدين. فمن يُشتبه بمشاركتهم في القتال يُلقون في السجن. ولكن من الصعب مراقبة المجاهدين كلهم. وماذا يحدث عندما يعود رجال مثل أبو جهاد؟

يشير هذا الاسم إلى تونسي في الثلاثين من عمره ينتمي إلى «الشرطة العسكرية» التابعة لداعش السيئة السمعة، ومن الممكن رؤيته في أحد أشرطة الفيديو وهو يقتل عدداً من السجناء بطلقة واحدة في الرأس.

back to top