بديع أبو شقرا في «نَفَسْ»... يرفع قصائده إلى امرأة ترخي ظلالها على كل الكلام

نشر في 24-11-2014 | 00:01
آخر تحديث 24-11-2014 | 00:01
No Image Caption
في جديده الشعريّ «نَفَسْ» يؤدّي الشاعر بديع أبو شقرا جملةً شعريّةً تنتسب إلى الشعر الحديث، يحاول فيها الوضوح الذي لا تصادره السهولة، والغموض الذي لا يصل إلى حدِّ الرمزيّة المغلقة.
من كلام يشبه الإهداء يطلع عطر موشوم على ذاكرة الأمومة، فيرفع الشاعر بديع أبو شقرا في «نَفَسْ» قصائده إلى امرأة ترخي بظلالها على كلِّ الكلام، ولأنّها امرأةٌ، تبتدئ، ولأنّها أمّ، لا تنتهي: «لكِ في كلِّ قصيدة حبرُها/ ونساؤُها/ وأطفالُها.../ امرأة من دون آخرة/ أمٌّ لا تنتهي».

 ومن الـ«نَفَس» الأوّل، يفهم القارئ أنّ الشاعر لن يقول له كلّ شيء، وأنّه سيتركه يشارك في صناعة المشهد. ففي السفر نومٌ لا ينام، وأصابع عاشقة تقطف فرح الدمية من شَعر، ومنام يرشح قهوة الأرق وعَرَقَه: «حتّى النّوم لم يقْوَ على السّفر/ ... وأصابع تلعب عالقةً في شَعركِ/ والأرق/ كأس من القهوة/ وفنجان من العرق/ يتصبَّبُ على جبين منام». وأنفاس أبو شقرا من صناعة رئتَي الحبّ، الذي يتجوّل بكلِّ حريّة وطلاقة على امتداد الصفحات وأنفاسها. فتغدو الوسادة لوحةً حاملةً وشم الصوت، والنّظر لا يصل إلى مشتهاه إلاّ بالإغماضة، والابتسامة لن تكون ذات رنين إلاّ إذا كان لها رسْمٌ في مرايا الأعماق: «أغنيتي وشمٌ على وسادتكِ/ ...أنظري إليّ مغمضة العينين/ وابتسمي داخلَ داخلِكِ». وتحت سماء الحبّ يحلو لأبو شقرا التكرار، بكلّ ما فيه من نزق وإصرار، وهو العاشق المدمن أنثاه صباحاً وظهراً ومساءً، كأنّها أيقونة الوقت كلّه في عنق قلبه: «أراك في الصباح قالتْ/ وهي لا تعرف أنّني أدمنتُ صباحَها وظُهرَها ومساءَها»، وإذا كان لأبو شقرا قصائد على نول حبر عاشق، فإنّ أنثاه أيضاً ليست بريئة من الكتابة، ولها من أنين الكلمات قصائد ومن جسد الشاعر ورق: «وهي لا تعرف أنّها تأكل بعض الأحرف عندما تنتشي/ يختلط أنينها بكلامها/ فتنظم أشياءها/ قصائد على جسدي».

بيروت

 وللمدن في الشاعر ما للنساء، وكيف إذا كانت المدعوّة إلى وليمة الشعر بيروت؟!

 في نَفَسه الخامس يُطلع أبو شقرا بيروت من قلبه ليخاطبها، فيتمنّاها جرحاً عملاقاً يذهب بالبحر من حمرة إلى زرقة: «يا ليتكِ بيروت/ جرحٌ ملأ البحر دماً/ وغطّى أسطحاً لبيوت»، ويزعم أنّه رجُلُها، وأنّ له فيها جنيناً: «عشِقْتُ حملَكِ منّي»، وبما أنّها الأنثى التي تحتضن الخلق والإبداع بإيقاع أنثوي ممتلئ تبقى واحدة وحيدة تعيش على دم عشّاقها: «يا امرأة الكون/ يا امرأة تمرُّ مرّةَ واحدة/ تقضي عليكَ/ وتنقضي».

والحبُّ لا ينقذ الشاعر من الألم إنّما يجعله الظلّ الأكثر أناقة بين ظلاله. وألم صاحب النّفَس مقيم في عقارب السّاعة: «كأنّه عقارب ساعة ناشطة»، وهو غير واضح الأسباب، كأنّه يأتي من ذاته، و: «كأنّه القطن مبتسماً تحت خيزرانة منجِّد». فكم هي صورة الألم هذه على توفيق وجمال وجدّة: «وكم هو متألم ذلك القطن وهو يرسم ابتسامته البيضاء تحت قساوة الخيزران!

وفي سياق الألم المتواصل، يعلن الشاعر أن النهاية ليست أكثر ممّا تحتضنه البداية، أو بمعنى آخر هي ما هو غامض في البداية، ما يعني أن الإبحار في الحياة وهمٌ، والحياة هي الرصاصة الأولى التي تعلن ابتداء المعركة ونهايتها في آن واحد: «لحظة هي بدايتنا / نحملها معنا ككلّ البدايات/ وهي في الحقيقة/ نهايات». وفي فتح الأشرعة قِبلة السماء، يرى أبو شقرا الله بعيداً من الأثواب السوداء، والزينة الذهب، يراه خارج الكلمة المألوفة رسالةً وكتاباً، باعتبار أنّ الإنسان يرسم طريقه إلى السّماء على طريقته: «سأعتنق الله هداية دينونيّة/ لا أثواباً سوداء/ لا ذهباً مرصّعاً/ لا رسائل لا كتباً/ لا ما كُتبَ لنا/ بل ما كتبناه لأنفسنا». وفي هذا البوح يتحوّل الشاعر بنصّه من الإيحاء وجمالية الرمز إلى لغة مباشرة لا تستطيع أن تكون قفيراً يضُجُّ بعسل القصيدة حين تضم النحل تحت جناحيها.

ما تيسر

وللحياة والحلم يحاول أبو شقرا أن ينذر ما تيسّر من العمر طمعاً بـ» معادلة تجدِّد التاريخ/ وتلغي تجاعيد في الوجه واضحة»، والحلم عنده لم يكن سوى الواقع الذي حظي بالإضافة: «الحلم جرعة زائدة من الواقع»، أمّا الفجيعة فهي في قوانين يسنّها الوهم، وفي أنّ الإنسان يطلب رضا حياة عليها هي أن تسعى إلى رضاه: «والوباء تاريخ من قوانين خلق وهمية. / نلحق بالحياة بدل أن تلحق بنا/ نستفحل في إرضاء الخالق بدل أن يرضينا». لهذا الكلام وجع وجوديّ كبير، فالشاعر يرمي إلى الارتقاء بالإنسان كي يصبح هو غاية الحياة والخلق أيضاً، وكي يشعر بما له من قيمة وجوديّة، من أين له أن يشعر بها طالما هو ينفق العمر ساجداً عند قدمَي الحياة وقدمَي السماء، وقدمَي القوانين...

ومن الغربة يمدُّ أبو شقرا «نَفَساً» ويداً لـ»هؤلاءِ» الذي لا يدلُّ عليهم إلاّ ضمير الغائب للجمع «هم». هؤلاء يُشعرونه بأنّه يخون وهو على غربة، يخون لأنه ليس بينهم، وليس لقدميه البعيدتين أن تنثرا الخطو على طريقهم، كما أن ليس لحنجرته أن تشارك في بناء الصرخة: «وأنا قابع في غربتي/ ذنبي يقتلني/ قدماي تشتاقان إلى طريقكم/ وحنجرتي إلى موسيقى هتافاتكم».

ولا شكّ، في أنّ هذا البوح يحملُ بعداً نضاليّاً والتزاماً يدلُّ عليه المعنى المستريح في ظلِّ ضمير الجمع. وفي هذا السياق، يأتي النَفَس السادس والسّتون ليكشف عن الألم النّضاليّ بقاموسه، وبمنتهى الوضوح: «سأعتزل قبل أن أكره ما بقي لديّ من شتاتٍ/ قضية». فالحب هو البديل، أو هو ما بقي من قيم القضيّة: «خياري الحب وليس لي مكان في الجنّة يسعني».

ويدلّ أبو شقرا بالإصبع من طاقة الغربة على القدس، ويستغرب عودة مع إذلال من أهل البيت: «عائدون/ عائدون/ ندوس القدس فكيف نحن عائدون». وبعين يملأها رمد الخيبة يرى أبو شقرا آتي النضال وغده حروباً سوف تكون دُمى خيال لا انتصارات تُحمَلُ على رؤوس الرّماح: «سأعتزل لأنّ الحروب القادمة استحضارٌ لواقعات تصلح لي قصصاً لبطولات خياليّة ليس إلاّ...» وفي النفس الخامس والأربعين نجد أبو شقرا مستقيلاً من كلِّ وجع باستثناء وجع الله والمرأة. فالله هو بداية كلِّ استفهام، وخارج دائرته تبدو كلُّ الأمور ذات قيمة هامشيّة، فمن أحسن اجتياز المسافة المكلّلة بالمجهول صوب الله حظي بكثير من راحة العقل والقلب: «صلاة على وتيرة منخفضة/ كروحٍ تطلب الارتواء/ كمزاجٍ هادئ...».

back to top