نحن الآثمون نحتاج إلى الحب

نشر في 22-11-2014 | 00:01
آخر تحديث 22-11-2014 | 00:01
No Image Caption
تدفقت دموعه بصمت على أوراق الامتحانات دون سبب واضخ لها مما زادها حيرة وأضفى عليه مزيداً من الغموض، فالسلوك والمشاعر التي لا تشرح نفسها تثير فينا أفكار الحيرة وتجعلنا نرسم سيناريوهات ذهنية قد تكون بعيدة عن الواقع والحقيقة، وقد تكون الحقيقة أبسط مما نعتقد، وهذا الأمر جعلها تفكر بينها وبين نفسها:

هل مرت بخاطره ذكرى حزينة استدرت دموعه؟؟!! أم أن هناط شيئاً يؤلمه لدرجة البكاء؟! أم أنه فقط غريب الأطوار؟!

هي لا تجرؤ على سؤاله وتخشى من التدخل في خصوصياته، وخاصة أنها في عمر بناته، كما أنها لا تتنبأ بردة فعله التي قد تكون عنيفة، رغم أنه هادئ وودود بتحفظ ولكن هيئته لا تشجع على الانفتاح عليه وأجوبته مقتضبة وقاطعة مانعة للتبسط بالدردشة، ولكن ما لها ومال الآخرين؟

***

عندما حصلت على شهادة الدكتوراه في «مدارس النقد الأدبي الحديثة» من الولايات المتحدة الأميركية، كان من الطبيعي أن تعمل بالتدريس في الجامعة التي أوفدتها في بعثة دراسية، ولكن رئاسة القسم لم تجد لها مكتباً مستقلاً فطلبوا من الدكتور جاسم أن تشاركه مكتبه الواسع مؤقتاً، هو من جانبه لم يمانع ولكنه قال بلهجة تحذير:

بس أنا أدخن.

ردت رئيسة القسم بتسليم:

قلنا لها وليس عندها مانع إذا فتحت الشباك.

قال بالتأكيد:

أدخن وايد.

رئيسة القسم مع تنهيدة من لا بيده حيلة:

تدري، قلنا لها.

أشعل سيجارته وكأن الحديث عن التدخين كان رابطاً شرطياً استدعى الرغبة بالتدخين:

لا بأس.

وبعد ساعات أحضر ثلاثة عمال مكتباً صغيراً نسبياً ووضعوه قبالته بحيث يبعد ثلاثة أمتار من مكتبه، كما أحضروا كرسياً ودولاب ملفات، ثم أحضرت سكرتيرة القسم حقيبة نسائية أنيقة ووضعتها على سطح المكتب، وظل الدكتور جاسم يرمقها بين حين وآخر، وكأنها انتهاك أنثوي لخصوصيته ولصومعته، فلسنوات لم يعتد مشاركة أحد له بالمكتب، ما عدا زيارات الطلبة والطالبات في الساعات المكتبية.

انتبه إلى الدخان الذي بدأ يتكثف كالغيوم فوق رأسه، فنهض كمن ارتكب ذنباً وفتح النافذة، وشعر أنه مقيد بعد أن كان المكتب مملكته الخاصة، وبعد لحظات دخلت سكرتيرة القسم تحمل حقيبة لاب توب ووضعتها على المكتب المقابل، رمقها وتساءل:

لماذا تأتي الزميلة الجديدة بالتجزئة؟!

وبعد ما يقرب من النصف ساعة سمع نقراً خفيفاً على الباب، ثم دخلت فتاة طويلة بيضاء بشعر قصير تصففه إلى الوراء بطريقة فنية، وتلبس بنطلوناً بيج ضيقاً دون فجاجة، وحذاء منخفضاً بلا كعب وتضع حول رقبتها وشاحاً خفيفاً بلون الشذر، كان كمَّا البلوفر مرفوعين إلى منتصف الساعدين عندما بادرته والسيجارة معلقة على شفتيه بالقول برقة:

السلام.

***

اختلست إليه النظر وهو ما زال منكباً على تصحيح أوراق طلبته، وهو منظر مألوف منذ أن كان أستاذها في البكالوريوس لم يتغير فيه شيء، حتى بذلته البنية ووشاحه الأحمر الذي يبدو نسائياً أكثر منه رجالياً، والذي يتنافر بشكل يخل بانسجام النظر، لم يتغير فيه شيء ولم يغير ملابسه وهيئته، رغم أنه يحمل وسامة المسن وجاذبية يصعب تفسيرها أو معرفة مصدرها، كما يحتفظ بجسم رياضي مشدود مع انحناءة بسيطة يتميز بها المسنون طوال القامة.

***

الانهماك والتركيز بكله على ما يفعله، وانفصاله عن الواقع سواء كان مشغولاً أم لا، ويضع على أنفه نظارات القراءة سواء كان يقرأ أم لا، وكأنه ينساها على أنفه، ولا ينفك أحياناً يبحث عنها بين الأوراق المتناثرة على مكتبه وهو يحك بسبابته الشعر النابت على شفته العليا وعلى صدغيه، كان دائماً يبدو أنه لم يحلق شاربه ولحيته لأيام.

عندما تنظر إليه لا تستطيع أن تتخيل ماذا يفعل خارج الجامعة، وكيف يكون سلوكه مع زوجته وأولاده وأصدقائه، هل هو فظ أم ممل أو عصبي المزاج.

***

وعليكم السلام.

قالت بابتسامة عذبة:

أنا الدكتورة حنان زميلتك الجديدة في القسم.

أطفأ سيجارته في المنفضة المليئة بأعقاب السجائر، وقال وبقايا دخان يخرج من فمه:

أهلاً وسهلاً، أنا جاسم.

ردت والابتسامة ذاتها على محياها:

طبعاً أعرفك، ويمكن ما تذكرني أنا كنت طالبة عندك في الباكالوريوس.

ابتسم ابتسامة باهتة لا معنى لها وعاد إلى أوراقه، فهو بالطبع لا يتذكرها فقد مر عليه في سنوات تدريسه آلاف من الطالبات والطلبة، ولم يعلق في ذهنه أحد منهم، فستّون عاماً من الذكريات أغلبها ثقيل ومعتم ناءت بها ذاكرته الستينية، فيعمد إلى حيلة ذهنية تمسح وتنظف الذاكرة أولاً بأول، فلا رغبة لديه في الاحتفاظ بأي ذكرى، ومن لا يعرفه يظنه متلبّد الإحساس، ورغم أنه يشي بالاطمئنان والسلام، لكن زملاءه في القسم لم يستطيعوا الدخول إلى عالمه، وفك طلاسم حياته كعضو في أخوية سرية، وعندما ينظرون إليه وإلى عينيه العميقتين اللتين تحملان حزن الدهر، يتساءلون عما يحمله رأسه ولا يستطيعون فك لغزه، وهم غير متيقنين إن كان حزيناً أم مجرد شخصية جادة أكثر من اللازم، شخصية مملة وثقيلة الدم، فهم لم يسمعوه يقهقه بتاتاً ولكنه يبتسم، ولا يتجرأ زملاؤه المزاح معه وخاصة أنه يكبرهم ويفرض احترامه عليهم.

أما هو فلا تعجبه ضحالتهم ولكنه لا ينتقد ولا يحكم على أحد، في حال كما يقولون، وبالرغم أنه حاصل على درجة الأستاذية ولديه العديد من البحوث، إلا أنه رفض رئاسة القسم عدة مرات عندما عُرضت عليه، وهو لا يعرف نفسه بالدكتور كما فعلت زميلته الجديدة:

أنا الدكتورة حنان...

بداية غير جيدة

شعر بشيء سلبي لأنه لم يستطع التواصل معها لأيام، وخشي أن تظن به الغرور ولكن عماذا يحدثها؟ فهو لا يعرف كيفية التواصل مع الشباب، بل لا يعرف كيفية التواصل الاجتماعي مع الآخرين، وكأنه فقد هذه المهارة أو أن لديه اكتفاء ذاتياً فهو مكتف بذاته ولا يحب الإرباك الداخلي، كمن يبني برجاً من أعواد الكبريت بعناية ثم يأتي إنسان صاخب يدخل في أعصابه فتسقط كل الأعواد.

مد يده إلى سماعة الهاتف على مكتبه، وضغط زرين وعندما رفع الطرف الآخر السمّاعة قال له:

قهوة تركية لو تكرمت.

ثم تذكر شيئاً فسأل الدكتورة حنان:

تشربين شي؟

فرفعت كوب «ستار باكس» وقالت:

عندي قهوتي.

فتساءل بينه وبين نفسه:

لماذا يحب كل خريجي أميركا قهوة «ستار باكس»؟

كانت تضع نظارة قراءة بيضاء الإطار فلم يشأ أن يسألها ويشغلها عما هي فيه، ولكن بعد نصف ساعة رشف من قهوته وأشعل سيجارة وسألها على استيحاء:

ليش كل خريجين أميركا وكل الشباب يحبون قهوة ستار باكس، ولا يحبون القهوة التركية؟

لم يعلم أن سؤاله أسعدها فقط لأنه سمح لها بالتواصل معه، ردت محاولة إبهاره بالجديد باعتباره كبيراً بالسن:

ستار باكس ستايل حديث وشبابي وعالمي، ومثل ما تعرف اليوم العولمة هي سيدة منطق العصر.

صمت مع شعور بأنها تلمح إلى أنه مسن وبعيد عن العصر، لكن بعد نصف ساعة تساءل:

لكن يقولون إن شركة ستار باكس تدعمها الصهيونية العالمية... صحيح هالكلام؟

رفعت كتفيها قبل أن تقول:

ما أدري... بس كل شي حديث لازم يكون لليهود دخل فيه، فهل نقاطع كل شيء؟ وخاصة أنهم مسيطرون على كل شي.

أطفأ سيجارة وأشعل أخرى مباشرة كما يفعل عندما ينفعل أو يتحدث وسأل:

مثل شنو؟

مثل الإعلام الأميركي يسيطر عليه مردوخ الصهيوني، لكنه إعلام متطور.

في الواقع هو ليس لديه موقف سياسي، ولكنه يخضع الأمور للتحليل الإنساني، ولذا كان رده:

همممم.

هي فرحت أن منطق العصر أقنع منطق الماضي وانتصر عليه، بينما هو ندم على فتح موضوع مثل هذا كشف له أن زميلته مثلها مثل كل خريجي أميركا منبهرين بالأسلوب الأميركي في الحياة، ولا يملكون إلا بعدين تبسيطيين للعالم أميركا ودول العالم الثالث.

back to top