قاب قَوسين

نشر في 22-11-2014 | 00:01
آخر تحديث 22-11-2014 | 00:01
No Image Caption
–1–

مضت سنوات قليلة من عمر الزمن على ذلك اليوم الذي غيَّر مجرى حياتي للأبد، لكنني أشعر بأن دهراً بحاله قد انقضى، حياتي قبل ذلك اليوم تبدو الآن بعيدة وكأنها أحداث من حياة سابقة، تماماً كما يعتقد الدروز في قضية تناسخ الأرواح.

بضعة أشياء صغيرة بقيت تذكرني الآن بحقيقة ما كان، منها أنني لا أزال أعزباً رغم قدرتي على الزواج، وبالرغم من أنني تجاوزت الثلاثين ببضع سنوات.

في درج مكتبي المنزلي على اليمين صورة قديمة لي احتفظت بها لسبب لا أزال أجهله، فهذه الصورة لا يمكن إلا أن تكون أكثر ضرراً منها نفعاً، ومع ذلك لا أزال محافظاً عليها، في حين أنني أحرقت كل صوري القديمة، لعله خاطر وثب إلى ذهني آنذاك ليقول لي بأن حياتي الثانية ليست منفصلة تماماً عن الأولى، بل إن كل حدث صغير دمغ الأولى ما زالت آثاره مطبوعة على أحداث الثانية بلا تدخل مني. بل لعلها رغبتي في أن أترك خيطاً ولو صغيراً يربطني بالأيام التي مضت ولن تعود، والتي تبدو اليوم وكأنها قصص من نسج الخيال لم تحصل أبداً.

أستغرق في تأمل الصورة لبضع دقائق بدت وكأنها ساعات، كنت وقت التقاطها قد تخرجت للتو في الثانوية، ففعلت ما كان يفعله أترابي وقتها، أي الذهاب إلى الاستديو والتقاط صورة أنيقة لذكرى التخرج.

في ذلك الوقت لم أكن أتخيل بأنه خلال سنوات معدودة فإن حياتي ستتغير بشكل كلي وإلى الأبد، إلى الدرجة التي ستغدو فيها هذه اللحظة من عمر الزمن وأنا ابتسم بألم خفي محاولاً اصطناع الثقة والسعادة لحظة مشكوك في حصولها بالأساس، ترى ماذا لو لم أتغير؟ لو قررت الاستمرار في تلك التمثيلية؟ كيف كانت حياتي ستكون اليوم؟

يخرجني رنين الجوال عن لحظة الاستغراق هذه، فأفتح الدرج وأضع الصورة بهدوء داخل الظرف وأغلقه قبل أن أهرول مسرعاً والتقط الهاتف من على السرير وأرد، كان المتصل صديقي العزيز مروان، يذكرني بموعدنا على العشاء في مطعم {ستيك هاوس} على طريق الملك، حيث سنجتمع أنا وهو وثلة من الأصدقاء الذين لم نرَ بعضهم منذ زمن. أخبرته بأنني لم أنس وأنني سألحق به إلى هناك.

لا شك في أن أمل صديقي العزيز مروان قد خاب، هو يريدنا أن نذهب معاً، ولكنني بصراحة أحب دائماً أن أكون في موضع التحكم بحياتي ووقتي وذهابي منفرداً بسيارتي يتيح لي ذلك.

الجميل في مروان بأنه لم يسألني عن السبب، وهذه أروع ميزة فيه، فهو تعود أن يتقبل الناس كما هم، فلا يسألهم أسئلة كثيرة، من السهل جداً أن تحبه، وأن تمنحه ثقتك، وأن تخبره الكثير عن نفسك، حتى أنا الهادئ الكتوم انتهى بي الأمر بأن أخبره سري الكبير بعد تردد، فقد خفت أن أخسره، وعلى الحالة التي كنت عليها قبل سنوات حين كان مروان صديقي الوحيد، فخسارته كانت ستكون فادحة، لكن مروان كان يومها كبيراً... كان صديقاً حقيقياً.

–2–

وضعت الجهاز بجانب السرير، بدلت ملابسي بسرعة، ارتديت بنطال الجينز الداكن مع قميص قطني أبيض، وفيما أنا أجهز نفسي للخروج بدأ بعض الأحداث يتوالى على ذاكرتي من ذلك الماضي السحيق الذي أعادتني إليه تلك الصورة، دفعتها جانباً فليس لدي فائض من وقت لها.

أغلقت باب شقتي بالمفتاح وهرولت إلى سيارتي التي تجاوز عمرها العقد، ومع ذلك لا أرغب في استبدالها، هي هدية أبي بعد التحول الكبير، أسترخي داخلها وأبدأ في تشغيلها منطلقاً للقاء الشباب، أعرف بأنني قد تأخرت قليلاً في الخروج بسبب حالة السرحان التي أصابتني حيث جلست على السرير لعشر دقائق أسترجع الماضي الرهيب، وحين انتبهت كان هناك جوربٌ في أحد أقدامي فقط في حين قبضت يدي على الآخر بقوة وكأنني إذ أضغط عليه أعصر ذاكرتي وأحثها على نكأ جراحها.

التأخر في الخروج ولو لبضع دقائق في جدة مشكلة كبرى، فهذا يعني أنك ستصل متأخراً إلى المكان الذي تقصده بغض النظر عن قربه أو بعدك منه، فهذه المدينة التي تمددت طولياً خلال السنوات الثلاثين الماضية، والمحاصرة بالأحياء العشوائية، تعاني حالات متقدمة من سرطان الطرق سببه الكثافة السكانية العالية والهجرة غير المنتظمة وسوء التخطيط، وقيادة السيارة فيها فقدت كل متعة، بل هي تعذيب يومي وإرهاق نفسي وثمن باهض يُدفع لقاء الإقامة بين جنبات هذه العروس التي شاخت ولكننا مازلنا نعشقها.

كنت واقفاً بسيارتي عند إحدى الإشارات التي فتحت وأغلقت للمرة الثالثة على التوالي وأنا ما زلت في مكاني، كنت قد بدأت أفقد صبري وأتملل حين لمحت في الطرف الأيمن عند ناصية امرأة ملتحفة بعباءتها وتوحي لغة جسدها بأنها خجلة من وجودها في الشارع، لكنها بالتأكيد مضطرة إلى الخروج لتبحث عن سيارة أجرة، هنا ومض شعاع فضي داخل رأسي من جديد، ليسحبني للمرة الثانية خلال أقل من ساعتين إلى دوامة الذكريات.

أفقت منها هذه المرة على أصوات منبهات السيارات المزعجة التي ما أن تحولت الإشارة إلى خضراء ولم أتحرك حتى بدأ وكأنهم لا يمانعون في قتلي رمياً بالرصاص لعظم الجرم الذي ارتكبته، لا سيما واليوم أربعاء بداية عطلة نهاية الأسبوع.  

انطلقت بسيارتي بسرعة وانتبهت إلى أن تلك المرأة كانت لا تزال تبحث عن ضالتها، فدعوت لها في سري أن تنتهي مشكلتها قريباً، وأن يسهل الله لها كل أمورها وفي داخلي رغبة دفينة في أن أعود أدراجي لأساعدها في قضاء حاجتها، فقط لو كان المكان غير المكان والزمان غير الزمان لربما كان ذلك ممكناً. تنهدت بأسى وواصلت طريقي.

–3–

وصلت أخيراً إلى مكان اللقاء، ولا أعرف صدقاً كيف تم ذلك فقد كنت مستغرقاً في عالمي الخاص أفكر في تلك السيدة وما حل بها، وجدت الشباب كلهم بانتظاري، تصافحنا قصي وحامد ومروان وأنا، وانضم إلينا بعد قليل سامر، جلسنا في طاولتنا المفضلة الأولى على اليمين، فذلك المكان يمنحنا خصوصية أكبر. خصوصية؟ يا لها من كلمة متعددة المعاني بحسب الأشخاص والأماكن، سرحت للحظة، لكن سامراً أعادني إلى الواقع قائلاً:

– اللي واخد عقلك يتهنى به!

قالها بلهجة حجازية أقرب ما تكون إلى المصرية فابتسمت، ثم جاء عامر وقد بدا لنا بعد غيابه الطويل عنا أنحف من المعتاد.

بعد السلام جلسنا جميعاً وطلبنا من النادل أن يحضر قائمة الطعام لنطلب سريعاً ونتفرغ بعد ذلك للحديث مع صديقنا العائد للتو من رحلات متعددة خارج البلاد للعمل والتدريب، فالشركة الأجنبية التي يعمل بها عدة فروع حول العالم، وحينما يرغبون في ترقية موظف ما ليشغل منصباً مرموقاً على مستوى الدولة أو المنطقة أو العالم، فهم يحرصون على أن يعيش تجارب خارجية من خلال مكاتبها المنتشرة في القارات المختلفة. لقد صار يقضي أكثر من نصف السنة خارج جدة، فما عدنا نراه إلا لماماً، أظن آخر مرة رأيته أنا شخصياً فيها كان قبل حوالي السنة.

– اليوم على حسابي يا شباب.

قالها حامد، حاتم الطائي في شلتنا، بل أن يباغته مروان:

– بل على حسابي فأنا رتبت الجلسة.

لكن عامر فاجأنا قائلاً:

– لا على حسابي ولا على حسابكم كل واحد يدفع عن نفسه!

تغيرت الوجوه وتطلعت إليه بدهشة فمن الواضح أنه لم يكن يمزح!

رد عليه قصي:

– نعم يا أخويا؟ هذه الحركات هناك يا خواجه، هنا الله لا يغير علينا نعرف كيف نكرم ضيفنا، وأي واحد مننا مستعد يدفع العشاء وعن طيب نفس أو ممكن حتى نتقاسمها نحن بيننا أما إنك أنت تدفع فأنسى الموضوع.

رد عامر بدوره بامتعاض:

– في أوربا وأميركا تخرج مع زملائك والكل يتشارك في الدفع... منتهى العدل وبعيداً عن المجاملات!

قال مروان:

– أنت قلتها.. هذا هناك في بلاد الفرنجة، أما هنا في بلاد العروبة فالكرم صفة أصيلة لا نتنازل عنها، فلا تحاول!

كنت أراقبهم وأنا ابتسم في سري، مشكلة الكثيرين منا ممن يمكثون وقتاً طويلاً في الخارج أنهم فور عودتهم يبدؤون في التصرف وكأنهم في الخارج، وهذه ليست مشكلة بحد ذاتها ولكن المشكلة هو أنهم يتوقعون أن يجاريهم الجميع في ذلك، ويستغربون حين يقابلون بنظرات استنكارية أو تعجبية أو تهكمية.

– ما رأيك في الموضوع يا ساري؟

فاجئني قصي بسؤاله، لكنني أجبته مباشرة:

– أنا رأيي أنه نحن نعزمك يا صديقي فيما بيننا حتى لا يزعل أحد.

وافقني الجميع على ذلك، وبعد عشر دقائق كنا قد انتهينا من مهمة الطلبات.

بدأ الحديث مع عامر عن عمله في مكاتب الشركة في آسيا وأوربا، واختلاف الثقافات وما يضفيه ذلك من ثراء على بيئة العمل رغم حصول بعض سوء الفهم أحياناً، وعرج عن تجاربه الحياتية المختلفة خلال العامين الماضيين، كان حديثة شيقاً بالفعل، وواصلنا الحديث بعد ذلك كلٌ يذكر آخر أخباره وأخبار أولاده، وهنا استدار عامر نحوي وسألني:

– وأنت يا ساري؟ ما دخلت معتقل الزوجية؟

قالها ضاحكاً.

فرد عليه الشباب في وقت واحدٍ تقريباً:

– إنسى

قالها سامر.

– تعبنا من إقناعه

علق مروان.

– بأن يلحق نفسه ويتمتع بشبابه

رماها حامد.

– ويلحق يجبله ولد!

ختمها قصي.

استرخى مروان في جلسته قبل أن يضيف بسخرية فيها طعم المرارة على غير العادة:

– بيني وبينك أحسن لك، مرتاح من وجع الدماغ، ما وراء النساء إلا المصائب!

وهنا بدأ الضيق عليّ، وهذا ما يحصل معي عادة حين يطلق أحدهم نكتة سخيفة، أو تعليقاً غير لائق ضد النساء، أمرٌ أتوقع أنه لطالما أثار استغراب أصدقائي!

علق سامر:

– شكلك زعلت يا ساري! طيب يا سيدي ما دامك رقيق {أوي} كده على قولة إخواننا المصريين، ونصير للنساء وكأنك مارتن لوثر كنج، خلينا نشوف شطارتك على أرض الواقع، تزوج وأراهنك إذا ما كانت نظرتك الحالمة هذه عنهن ستتغير!

وتدخل عامر:

– سامر عنده حق يا ساري، أفكار العازب عن المرأة تختلف 180 درجة عن أفكار المتزوج وكثير من الشروط والاعتبارات التي تكون عند الرجل في زواجه الأول تتغير جذرياً في زواجه الثاني.

– زواج ثانٍ؟ عامر وراك حكاية!

علق قصي بخبث.

ورد عامر عليه بسرعة:

– الشرع أباح التعدد، وبصراحة: امرأة واحدة لا تكفي!

تنهد حامد وأضاف:

– وأنا أشهد، لكن وجع الدماغ الناتج من الزواج الثاني خصوصاً في مجتمعنا يجعلك تزهد فيه، فليس فقط البنت وأهلها ضدك بل حتى أهلك أنت، لأنهم لا يريدون أن يقلدك زوج أختك ويتخذك قدوة!

بدأ الدم يغلي في عروفي وظهر ذلك جلياً على قسمات وجهي ولونه الذي بدأ يتغير للأحمر رغم برودي وصمتي المعتادين، وتطور النقاش كنت غاضباً منهم بل مستاء ولم أستطع إخفاء مشاعري!

back to top